” إذا أردنا أن نعرِّف الوضع الراهن للإنسانية بعامة وأزمة ثقافتنا بخاصة يترتب علينا أن نتبين أننا نجحنا وأخطأنا للسبب نفسه حصراً وأعني بذلك طريقة تعقّلنا “ جيرزي أ. فويسيشوفسكي. (إدغار موران: المنهج، معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة، ص8).
يسعى عالِم الانثروبولوجيا عند دراسة الشعوب البدائية إلى الحصول على المعلومات، التي تلقي الضوء على المشكلات الرئيسة في طبيعة الثقافة وعملها، وفي سلوك الإنسان الاجتماعي. وبهذا النوع من التقاط المعلومات، نتمكن من دراسة بعض المشكلات العامة مثل: أثر المناخ أو العرق أو الاستعدادات السيكولوجية الفطرية، أو غيرها من العوامل المؤثرة في ثقافة الإنسان، وتنوع أشكالها وسياق تاريخها.
وهذا يعني ألا يغفل الباحث الانثروبولوجي أحداث التاريخ التي تعتبر بالنسبة له مصدراً مهماً للتجارب التي يمكنه الإفادة منها في محاولته الكشف عن الحتمي اللاشعوري للظواهر. ونظراً لعدم إمكان التنبؤ في التاريخ، فإنه يصبح من الضروري الاحتفاظ بسجل دقيق ومضبوط للأحداث التاريخية، وإلى حد بعيد. وإذا كان شتراوس يشير في كتابه ” الانثروبولوجيا البنائية ” إلى عبارة ماركس الشهيرة: ” إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يدركون هذه الحقيقة “، فإن هذه العبارة التي تبرز التاريخ، تبرز أيضاً الانثروبولوجيا. فقد أتت الحاجة إلى تقضي المعلومات في السنوات الأخيرة أينما وجدت، إلى زيادة استخدام مناهج علم الانثروبولوجيا الميدانية، في دراسة الشعوب، ليس البدائية فحسبه بل والشعوب المتعلمة أيضاء وفي أماكن متعددة من العالم.
ولذلك، ينتهج الباحث الانثروبولوجي منهجاً محدداً في بحثه، ويستخدم مجموعة من الوسائل والأدوات للحصول على بياناته. ويتبع مجموعة من الخطوات قبل القيام بالبحث وفي أثنائه، كما يواجه بعض الصعوبات والمشكلات عليه أن يتعامل معها ببدائل مناسبة. فقد كان اهتمام الباحث الانثروبولوجي الأول، منصباً على ملاحظة القوانين الرئيسة العامة التي تحكم المجتمعات الإنسانية، أو الكشف عنها، وواجهته مجموعة من الصعوبات، لكنه لم ييأس من إنجاز بحثه كاملاً، ولا سيما أن نموذج الثقافة الإنسانية ليس بسيطاً وليس سهلاً.
إن من الميزات الأساسية للمنهج العلمي – الميداني ذلك الارتباط الوثيق بين النموذج النظري والنموذج المنهجي، والمنطوي بالتالي على استخدام التقنيات الكمية في الدراسات الانثروبولوجية، والذي يشبه إلى حدٍ بعيدٍ ذلك الارتباط بين النظرية والمنهج في العلوم الجديدة، التي ما زالت موضع نقاشات حادة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا… هل تم طهي سلوكياتنا وإعدادها في مطبخ التطور البيولوجي والتحولات العضوية عبر التاريخ؟ على اعتبار أن أي خلل في التركيبة البيولوجية سوف تنعكس على السلوك الإنساني.
في حقيقة الأمر، تسعى الدراسات البيولوجية المعاصرة إلى إعادة بناء التاريخ للنوع البشري، كيف تطور شكل الإنسان البيولوجي القديم حتى وصل إلى وقتنا الحالي؟
فعندما يتعرفون على الكيفية التي تطور فيها شكل الإنسان، كيف كان شكله منذ آلاف السنين يلجؤون إلى بقايا الإنسان القديم هياكل عظمية- المستحاثات – الذي خلفته العوامل الجيولوجية الزلازل والرياح وسقوط الأمطار الغزيرة.
* ما هي التطورات التي كانت السبب في انحراف النوع الإنساني عن السلسلة التي كان يشترك معها؟
* ما الذي تغير في شكل الإنسان بشكل عام؟
* ما هي العلاقة الكامنة بين التركيب البيولوجي من جهة والثقافة، والسلوك من جهة أخرى؟
من الملاحظ أن هناك تعدداً في الاتجاهات التي تتناول الانثروبولوجيا، وقد تزايد ما يكتب عن هذا العلم خاصة في العقود الأخيرة، مما يدل على حداثته، وأنه ما زال يصنع تاريخه، وتعتبر الانثروبولوجيا من أحدث الدراسات في العلوم الإنسانية إذ لم تتجاوز القرن الأول أو يزيد قليلاً من عمرها الأكاديمي إذا وضعنا في الاعتبار أن العالم فريديريك أوغست راوخ Frederick A. Rauch 1806- 1841 كان أول من استخدم مصطلح انثروبولوجيا بمفهوم يختلف عن مفاهيمه السابقة التي كانت تتضمن معنى فلسفياً يتصل بدراسة النفس ثم اقتصر على دراسة السلالات. ومن خلال هذه الرؤية الموجزة سوف نسعى إلى تسلط الضوء على مفهوم المنهج الانثروبولوجي واستخداماته وأدواته (الملاحظة والمقابلة) وذلك من خلال البحث في المراجع العلمية المختصة بالبحث العلمي والتي تبحث في الانثروبولوجيا.
1- مفهوم المنهج الانثروبولوجي: يعتبر المنهج هو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسته للمشكلة أو الظاهرة لاكتشاف الحقيقة وللإجابة على الأسئلة والاستفسارات التي يثيرها البحث وهو البرنامج الذي يحدد لنا السبيل للوصول إلى تلك الحقائق وطرق اكتشافها، وأما الدراسات الاجتماعية فهي العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان وعلاقته بالبيئة المحيطة به وتأثيره فيها وتأثره بها، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ. ويعد مفهوم المنهج الانثروبولوجي في الدراسات الاجتماعية هو منهج وصف الواقع كما هو تماماً، واستنتاج الدلالات والبراهين من وقائع مشاهدة.
ويعرف المنهج الانثروبولوجي بشكل عام على أنه علم الإنسان وهو العلم الذي يسعى لدراسة مجرى التطور الإنساني من الناحيتين البيولوجية والثقافية والقوانين والمبادئ التي تحكم هذا التطور والارتباطات التي بين الجوانب الطبيعية المختلفة للإنسان وبين عادات الشعوب في الماضي والحاضر والانماط التي تميز مجتمعات معينة دون غيرها. وبحسب المدرسة الإنجليزية تنقسم الانثروبولوجيا إلى: طبيعية وثقافية واجتماعية. وبحسب المدرسة الأمريكية فتقسم إلى: طبيعية وثقافية.
أما التعريف العلمي للمنهج الانثروبولوجي فيعرف بأنه، هو منهج شامل لدراسة الإنسان ولا يكتفي بدراسة ناحية واحدة أو مظهر واحد من مظاهر حياته المعقدة أو يقصر اهتمامه على دراسة تكوينه الفيزيقي فقط وإنما يحيط بكل خصائصه ومقوماته البيولوجية والاجتماعية والثقافية سواء في الماضي البعيد أو الماضي القريب أو الحاضر.
ويعرف في الدراسات الاجتماعية، بأنه جزء من المنهج الكيفي ويعتمد على المعايشة والملاحظة وتكون المعايشة فيه بشكل فعلي ضمن مجتمع الدراسة وهو يستند على تحليل وتفسير الظاهرة أو المشكلة موضع الدراسة، وكذلك هو دراسة السلوك الذي يتخذ نظم اجتماعية كالعائلة ونسق القرابة والعادات الدينية والأعراف وغيرها داخل المجتمع محل الدراسة.
لقد تنوعت واختلفت مناهج البحث المستخدمة في الفكر الانثروبولوجي وكان السبب الرئيسي في حدوث هذه الاختلافات في اهتمام الباحثين في مجال الانثروبولوجيا، والمراحل التاريخية لتطور الانثروبولوجيا، كما كان لتأثر الفكر السوسيولوجي والانثربولوجي بالتيارات الفكرية الكبرى من مرحلة زمنية لأخرى من أهم أسباب تنوع واختلاف مناهج البحث.
في واقع الأمر، ساهم العالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في معالجة الظواهر الاجتماعية من خلال المنهج العلمي الأمر الذي ترك أثراً كبيراً لدى الانثروبولوجيين، كما أنه قد أثار عدداً كبيراً من القضايا في الفكر الانثروبولوجي.
تأثر العالم الانثروبولوجيا البريطاني راد كليف براون بالمنهج الدوركايمي وسعى إلى إكساب الانثروبولوجيا الاجتماعية خصائص العلم الطبيعي، حيث إنه كان ينظر للأنساق الاجتماعية على أنها أنساق طبيعية وليس هناك أي داعي لكي يعرف تاريخ نشأة هذه الأنساق وتطورها.
وهكذا يدين رادكليف براون في اتجاهه النظري كثيراً لدوركايم في تأكيده على أهمية البناء في المجتمع والوظائف الخاصة بمختلف النظم الاجتماعية. وأدى هذا إلى كثير من النقد لاتجاهه باعتباره شديد الجمود والآلية. وعلى أي حال فقد كان براون معلماً ممتازاً، وقد ظهر تأثيره من خلال عدد التلاميذ الذين تأثروا به، أكثر مما ظهر من خلال الأعمال التي نشرها المحدودة العدد نسبياً. وقد فضل أن ينشر دراسات ليعرف فيها ما أطلق عليه ” علم الاجتماع المقارن “، المنوط به أن يضع القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية البشرية. وربما كان أوسع أعماله انتشارا كتاب ” البناء والوظيفة في المجتمع البدائي “، الصادر عام 1952، وهو من الكلاسيكيات المعترف بها في الانثروبولوجيا الاجتماعية، والتي أوضحت بجلاء العديد من المفاهيم التي تستخدم الآن في هذا العلم.
كما يوجد هناك عدد من المناهج الكبرى في مجال الانثروبولوجيا ويعد منهج الانثروبولوجيا والمنهج الطبيعي أكبرها. حيث نظر راد كليف براون إلى علم الاجتماع على أنه علم طبيعي، وذهب إلى أن المجتمع عبارة عن نسق طبيعي يعيش وفق مجموعة من القواعد والقوانين. كما وضّح بأن الهدف الأساسي من إجراء الدراسات والأبحاث حول المجتمع هو التوصل إلى كشف وصياغة هذه القوانين بالشكل الصحيح والسليم.
ويعتبر براون أن الأنساق الاجتماعية هي عبارة عن أنساق طبيعية، لذلك فمن الطبيعي جداً أن يتم استخدام المنهج الطبيعي في دراستها، على اعتبار أن نسق المفهومات يحدد معنى البناء الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية.
ونتيجةً لذلك فقد رأى عدد كبير من العلماء أن المنهج المناسب للانثروبولوجيا هو المنهج الطبيعي. لقد كان تطبيق المنهج الطبيعي في الانثروبولوجيا الطبيعية التي اهتمت بدراسة الجانب الفيزيقي للإنسان ناجحاً للغاية، أما بالنسبة للانثروبولوجيا الاجتماعية فقد كان من غير الممكن أن تكون طبيعية أو أن يطبق عليها المنهج الطبيعي، غير أنها تشترك مع بعض العلوم الطبيعية في مجموعة من النقاط.
إلا أن بروان ذهب إلى أن المنهج التجريبي هو المنهج العلمي الوحيد الذي بإمكاننا من خلاله التوصل إلى التعميمات الاستقرائية، كما قال بأن الملاحظة التجريبية هي الملاحظة الموجهة ببعض التصورات العامة، ومن خلالها يمكن التوصل إلى التعميمات الاستقرائية التي يستقرؤها الباحث من المشاهدة التجريبية المنظمة، والتي تصدق على عدد من الظواهر الاجتماعية بوصفها نوعاً خاصاً من الظواهر الطبيعية. فالهدف الذي يسعى إليه براون من كل هذا أن يتم تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الإنسانية مما يساهم في التوصل إلى اكتشاف القوانين التي تخضع إليها تلك الظواهر، باعتبار أنها إحدى الحالات الجزئية.
وهذا يعني أن براون يقر بعلمية الانثروبولوجيا الاجتماعية، إلا أنه يرى من الضروري أن يتم التمييز ما بين القوانين الطبيعة والقوانين الاجتماعية. لكن آراؤه شهدت بعض الانتقادات من قِبل بعض العلماء الذين اعتبروا الانثروبولوجيا الاجتماعية فرعاً من فروع الدراسات الإنسانية.
بناءً على ما سبق سعى إيفانز بريتشارد إلى نقد وجهة نظر براون القائلة بأن الانثروبولوجيا الاجتماعية علم خاضع للمنهج الطبيعي من خلال تأثره بالفكرة التي سادت في القرن الثامن عشر القائلة بأن المجتمعات الإنسانية عبارة عن أنساق طبيعية، ولكن بريتشارد يؤمن بأن الانثروبولوجيا فرع من فروع الإنسانيات، كما أنه قام بتحديد الشروط والضوابط التي يجب أن يتحلى بها الباحث الانثروبولوجي عند قيامه بدراسة المجتمعات الإنسانية، ويعد التفاعل مع مجتمع البحث من أبرز الشروط التي قام بوضعها هذا العالم، ومن الشروط الأخرى التي وضعها التفاعل مع المجتمع، وأن يشعر الباحث بالاهتمام والانعطاف إزاء موضوع الدراسة.
وبشكل عام إن تطبيق المنهج العلمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية يختلف عنه في مجال الطبيعيات، حيث إننا في مجال الطبيعيات نستطيع أن نبسط الظاهرة، كما أن بإمكاننا أن نعزل هذه الظاهرة عن المجتمع، لكن الأمر يختلف اختلافاً كلياً في الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وذلك لأن هذه الظواهر عبارة عن ظواهر معقدة ومن الصعب للغاية أن يتم عزلها صناعياً.
ولقد أدى استخدام المنهج العلمي في الدراسات الانثروبولوجية إلى ظهور عدد من القضايا المنهجية ومن أبرز هذه القضايا استخدام مصطلح الضبط في الدراسات الانثروبولوجية، ولقد جعل هذا الاستخدام من الانثروبولوجيا علماً.
وهكذا نرى أن المنهج الانثروبولوجي من أهم المناهج التي يتم استخدامها في الدراسات الكيفية، ولقد تطور هذا المنهج كثيراً في الفترة الأخيرة، وأصبح منهجاً قائماً بحد ذاته على الرغم من عدم اختلاف بعض العلماء في هذا الأمر، والذين لم يعتبروه منهجا مستقلا بذاته.
وفيمايتعلق بالباحث فهو من يقوم بالمعايشة والملاحظة ورصد وتحليل كل ما يراد دراسته ويجيب عليه وتحديد الجماعة المراد دراستها، يجب أن يختار المنهج المناسب إلى جانب المنهج الانثروبولوجي مثل دراسة الحالة – المنهج التاريخي- المنهج المقارن، أدواته المقابلة والاستبيان والملاحظة. ومن أهم المشاكل التي قد يواجهها:
1) صعوبة تعامل الباحث مع المجتمع المدروس نظراً لاختلاف الدين والعادات والتقاليد واللغة.
2) لا يعرف الباحث هدفه جيداً.
3) ألا يكرر الباحث فكره عن الموضوع المدروس.
4) أن يفسر سلوك الأشخاص الذين يلاحظهم وفقاً للمعاني التي تسود حياتهم اليومية مما يصعب عليه ذلك في كثير من الأحيان يجد نفسه متحيزاً.
5) إن عدد من العينات المراد دراستها لا تتعامل مع الباحث بتلقائية لتظهر أمامه بمثالية مصطنعة.
تشير كلمة انثروبولوجيا Anthropology كما ذكرنا في المقالات السابقة، إلى أنها كلمة إنجليزية مشتقة من الأصل اليوناني المكون من مقطعين: انثروبوس Anthropos، ومعناه ” الإنسان ” ولوجوس Locos، ومعناه ” علم “. وبذلك يصبح معنى الانثروبولوجيا من حيث اللفظ ” علم الإنسان ” أي: العلم الذي يدرس الإنسان. وتعرّف الانثروبولوجيا، بأنها: العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظل ثقافة معينة. ويقوم بأعمال متعددة، ويسلك سلوكاً محدداً، وهو أيضاً العلم الذي يدرس الحياة البدائية، والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبؤ بمستقبل الإنسان معتمداً على تطوره عبر التاريخ الإنساني الطويل.. ولذا يعتبر علم دراسة الإنسان (الانثروبولوجيا) علماً متطوراً، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله.
إذن هو يُعنى بوصف الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية للجنس البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن وتحليل الصفات البيولوجية والثقافية والأنساق المترابطة والمتغيرة وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة ووصف وتحليل النظم الاجتماعية للإنسان.
2- استخدامات المنهج الانثروبولوجي: إن من سمات هذا المنهج قدرته على الولوج داخل المجتمعات ودراسة بعض الظواهر الإنسانية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية بها، وذلك لتوفر بعض الأدوات المساندة للباحث، وكذلك عن طريق المناهج الفرعية المنبثقة منه كالمنهج الحقلي على سبيل المثال، وباستطاعة الباحث الانثروبولوجي متى ما توفرت لديه الخصائص والأدوات البحثية والمعطيات التي تجعله قادراً على الوصول بدراسته الانثروبولوجية بر الأمان، أن يحقق نتائجاً موضوعية وجديرة بالاطلاع العلمي، وحتى في أصعب المجتمعات التي يقصد دراستها، شريطة أن يلتزم بالمنهج العلمي والأخلاقيات المهنية، وأن يختار الأسلوب الصحيح، وكذلك فإن الباحث كلما كان ملماً ببعض الجوانب الخاصة بالمجتمع الذي يريد دراسته كان الأمر بالنسبة له أكثر مرونة وسهولة، بعكس تلك المجتمعات التي يجهلها أو تتسم ببعض الغموض بالنسبة له، ولا يعلم عنها إلا القليل، ومن الأساليب الشهيرة والأساسية التي يعتمد عليها الباحث الانثروبولوجي المعايشة الفعلية داخل المجتمع المراد دراسته – الملاحظة بالمشاركة.
3- استخدام المنهج الانثروبولوجي في الدراسة الميدانية: يسمى هذا النوع من الدراسات في علم الانثروبولوجيا بـ ” الدراسات الحقلية “، وهي تعد من الخصائص المميزة للانثروبولوجيا الثقافية، وذلك أنها تعتمد على هذه الدراسات الحقلية بشكل كبير، والتي تهدف إلى رؤية الثقافة المحلية أو الثقافات الأخرى عن قرب، فهي بمثابة التجربة العملية التي تقابل المعمَل بالنسبة للباحث في العلوم الطبيعية، فهناك أساليب للبحث الميداني تمكن الباحث من الحصول على المادة المنشودة، والتي ستكون وثيقة الصلة بالسمات والمكونات الثقافية للمجتمع المراد دراسته، ومن خلال هذه المعلومات يتمكن الباحث من تحليل المجتمع و وصفه بشكل دقيق.
يذهب الباحث الانثروبولوجي لكي يقوم بعمله إلى موطن الشعب أو المجتمع الذي اختاره موضوعاً للدراسة، فيستمع إلى أحاديثهم ويزور بيوتهم، ويلاحظ سلوكهم العادي، ويسألهم عن تقاليدهم، ويتآلف مع طريقة حياتهم حتى تصبح لديه فكرة شاملة عن ثقافتهم، أو يحلل جانباً خاصاً من جوانبها. فالباحث الانثروبولوجي في عمله هذا، يجمع المعلومات، ويحللها ويربطها بمعلومات أخرى، عندما يرجع من الميدان، ويخرج منها بنتائج محددة.
4- أدوات المنهج الانثروبولوجي: لقد أقر علماء الانثروبولوجيا بعض الطرائق الميدانية التي يمكن اعتبارها أدوات عمل فاعلة في العمل الميداني، وهي كما يلي:
1- طريقة الملاحظة المباشرة: هي أحد الأساليب التي يستخدمها الباحث المقيم، في دراسة الشعوب البدائية. ويقوم هذا الأسلوب على مراقبة أو معاينة ومقابلة أفراد الشعب الذي تجري عليه الدراسة، في أثناء تأدية أعمالهم اليومية المعتادة. وكذلك حضور المناسبات العامة التي يقيمها أبناء هذا الشعب. ورصد الحركات والتصرفات، وتسجيل ما يجدر تسجيله من حوارات ونحوها، وما إلى ذلك من التعبيرات التي يبديها الأفراد في هذه المناسبات.
وهذا يقتضي من الباحث الانثروبولوجي أن يقيم فترة لا تقل عن (7-8) أشهر، في المجتمع المدروس، وتفهم ما يدور فيه. فالباحث المحترف لا بد وأن يغرق نفسه في حياة الناس، وذلك، لأن البحث لا يتم إلا بالإقامة الطويلة لشهور عديدة في المجتمع المحلي. كما يفضل أن يحسن الباحث لغة التخاطب بلغة الأهالي، حتى وإن كان السلوك الذي يشاهده غير لفظي. والإقامة في مجتمع البحث، تعني ملاحظة دقائق الحياة اليومية كما تجري بين الناس.
2- المـقـابلـة: إن الدافع لاستخدام المقابلة، أثناء إجراء البحث الانثروبولوجي الميداني، هو السعي لمعرفة وجهة نظر أفراد مجتمع الدراسة، وأسلوبهم المتميز في النظر للأشياء والكائنات، ولن يتأتى هذا إلا باستخدام طريقة الحوار، والمقابلة كما نعلم نوعان: مقابلة موجهة ومقابلة غير موجهة، وينصح المختصين في مجال الانثروبولوجيا باعتماد النوع الثاني من المقابلة، وذلك لأنه يعطي الحرية الكاملة والارتياح النفسي للشخص الذي تجرى معه المقابلة (المبحوث) للإدلاء بآرائه حول الموضوعات المستفسر عنها.
وخلال المقابلة يتلخص موقف الباحث في أن يكون مستمعاً وملاحظاً جيداً، فهو يستمع لكل كلمة تقال وفي الوقت نفسه يلاحظ كل الإيماءات والايعازات وحركات الأيدي وباقي أعضاء الجسم خلال الحديث، والاستماع يعني ألا يوجه الباحث أفكار الإخباري بل يساعده فقط على أن يعبر عنها بالصورة التي تفيد الدراسة، فينتبه جيداً إلى ما يقول، وعندما يتوقف يساعده على الاسترسال بإعادة آخر جملة ذكرها في صيغة سؤال، أو إثارة سؤال حول آخر ملاحظة أبداها، أو الربط بين الملاحظة الأخيرة وملاحظة واقعة أخرى سابقة، أو إدخال عنصر جديد في المناقشة ليكون نقطة انطلاق جديدة لمزيد من الأسئلة، وفي كل هذه الحالات ينبغي أن تظل المناقشة تحت سيطرة الباحث دون أن يشعر الإخباري بذلك.
– أنواع المقابلة: تنقسم إلى ما يلي:
أ- المقابلة الموجهة: هي عكس المقابلة الحرة، ففي هذه الحالة يقوم الباحث بإعداد استمارة تحتوي على مجموعة من الأسئلة توضع غالباً بدقة محكمة ومضبوطة، حول الموضوع أو الظاهرة التي نريد دراستها، وبعد ملأ الاستمارات من طرف أفراد العينة المحددة، يسترجعها الباحث، ليقوم بتفريغها، وقليلاً ما تستخدم المقابلة الموجهة في الدراسات الانثروبولوجية ، إلا إذا أجري البحث الانثروبولوجي في مجتمع متقدم أو متمدن، خصوصاً وأن الانثروبولوجيا في وقتنا الحالي صار مجال اهتمامها أيضاً المجتمعات الصناعية المتقدمة أو المجتمعات الحضرية، وسيظل استخدام المقابلة الموجهة، أو إعداد استمارة أثناء دراسة مجتمعات بدائية، أو قروية غير مجدي، لأن ذلك يكون مثار شكوك وقلق من طرف الأهالي تجاه الباحث الذي ينظر إليه على أنه غريب، وبالتالي فالأنسب في مثل هذه المجتمعات هو الاعتماد على المقابلة غير الموجهة .
ب- المقابلة غير الموجهة: يقصد بالمقابلة غير الموجهة، أو المقابلة الحرة، هي أن يعمد الباحث للاتصال بأفراد، غالبا ما يتمتعون بشأن ومكانة داخل الجماعة، حيث يمتلكون رصيداً هائلاً من الأخبار والمعلومات لا سيما ما تعلق منها بالبناء الثقافي، والبناء الاجتماعي للمجتمع، ويقوم الباحث بتوجيه أسئلة منوعة لهؤلاء الإخباريين ويترك لهم حرية الإجابة، فيسترسلون في الكلام، وعلى الباحث ألا يقوم بتوجيه إجاباتهم وجهة معينة وفي هذه الحالة على الباحث أن يقوم بتسجيل جملة الإجابات.
خلاصة القول إن المنهج الانثروبولوجي متى ما تم استخدام أدواته بالشكل الصحيح فسوف يؤدي بطبيعة الحال لنتائج تستحق الإشادة العلمية، وهذا المنهج كسائر المناهج العلمية، لديه مفاتيح – أدوات – ومن أهم أدوات هذا المنهج هي الدخول في المجتمع المراد دراسته ومشاركته العيش كجزء من أفراده المكونين له، ومن ثم يشرع الباحث الانثروبولوجي باستخدام بعض الأدوات ومنها: الملاحظة بالمشاركة، والمقابلة بنوعيها، وتاريخ الحياة، ودراسة الحالة، واستخدام التقنية الحديثة، … وغيرها من الوسائل التي تحقق الهدف المنشود وبإمكانية الباحث المزج بين بعض هذه الأدوات أو الاستعانة بأحدها بشكل منفرد حسب متطلبات البحث وطبيعة المجتمع المدروس.
إن الانثروبولوجيا، علم منهجي والبحث الميداني من أهم مقومات نجاحه. وهذا يتطلب من الباحث معرفة الطريقة التي عليه أن يستخدمها، واضعاً نصب عينيه أن المشكلة التي يدرسها، هي في الأساس مشكلة إنسانية. كما أن الواجب البحثي يقتضي أن يتمتع الباحث، بدرجة عالية من الحساسية تجاه قيم الناس الذين يتعامل معهم، ومعرفة القوانين التي تحكم سلوكياتهم وأساليب التعامل معهم، وهذا ما يتيح له بناء علاقة ودية معهم، وتسهل بالتالي الحصول على ما يريده من معلومات.
————
– مراجع المقال:
– إدغار موران: المنهج – معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة، ترجمة: جمال شحيّد، مراجعة: موريس أبو ناضر، المنظمة العربية للترجمة، الجزء: الثالث، بيروت، ط1، 2012.
– مارك أوجيه وجان بول كولاين: الانثروبولوجيا، ترجمة: جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2008.
– محمد الجوهري وآخرون: الانثروبولوجيا الاجتماعية قضايا الموضوع والمنهج، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004.
– كلود ليفي ستروس: الانثروبولوجيا البنيوية، ترجمة: مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977.
– عيسى الشماس: مدخل إلى علم الإنسان (الانثروبولوجيا)، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2004.
– فاروق مصطفى إسماعيل: الانثروبولوجيا الثقافية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، فرع الإسكندرية، ط1، 1980.
– فريدريك بارث وآخرون: الانثروبولوجيا – حقل علمي واحد وأربع مدارس، ترجمة: أبو بكر باقادر وإيمان الوكيلي، مراجعة: ساري حنفي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط1، 2017.
– مجموعة باحثين: الانثروبولوجيا قراءة تحليلية – نقدية في سياقاتها التاريخية (مناهجها، نظرياتها، ومبانيها)، تقديم وتحرير: سامر توفيق عجمي، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، النجف (العراق)، ط1، 2023.
________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.