اجتماعالتنويري

الخطابة والحجاج لدى كينتيليان: دعوة لقراءة وإعادة قراءة المؤسسة الخطابية

انطلاقا من عنوان هذا المقال : “الخطابة والحجاج لدى كينتيليان: دعوة لقراءة وإعادة قراءة المؤسسة الخطابية”، يتضح لنا أن الغرض منه ليس هو عرض نظرية متكاملة الأركان والأسس في الخطابة والحجاج لدى كينتيليان، بل هو في حقيقة الأمر دعوة وإنشاد وإشارة إلى الالتفات لكتاب “المؤسسة الخطابية” لصاحبه الفيلسوف والخطيب الروماني كينتيليان، ذلك أن معظم الدارسين والباحثين في حقل نظريات الخطابة والحجاج في الغالب لا يلتفتون إلى هذا العمل العظيم جدا، والذي يمكن اعتباره إنجيل الخطابة آنذاك، ذلك أنه يعرض تصورا متكاملا حول نظرية الخطابة والحجاج، بل تجد فيه أيضا بعدا تربويا ولغويا خاصة في أصل تشكل الكلمات، إضافة إلى إشارات حثيثة حول كيفية التعرف والتعامل مع الأطفال خاصة من الناحية السيكولوجية، وفيه العديد من الأمثلة السوسيولوجية، تجدها في متن الكتاب مع ردود ونقود موجهة إلى كل المهتمين بالخطابة قبله سواء سقراط وأفلاطون وأرسطو، بل يوجه العديد من النقود إلى شيشرون، حيث تلحظ أن كينتيليان بنى صرحه حول المؤسسة الخطابية بهدم ونقد ومراجعة وفحص وتمحيص وإعادة النظر في صرح شيشرون حول “في الخطيب”، وهذا موضوع آخر قد نشتغل عليه مستقبلا، وكإشارة أخيرة سنفصل فيها أثناء العرض، أن ما يحسب لكينتيليان هو أنه أعاد الوحدة بين كل من الخطابة والأخلاق، التي انتهت مع أرسطو بتقويضها وفصل مقال الخطابة عن تقرير ما بين الأخلاق والقيم من اتصال!

أما عن إشكالات هذه الورقة، فنجملها في مجموعة من الأسئلة المنظمة الموجهة للتحليل والمناقشة النقدية دائما وهي كالآتي:

أين عرض كينتيليان موقفه الخطابي والحجاجي ؟

ما هو التعريف الذي يقدمه كينتيليان لكل من الخطابة والحجاج؟

مقالات ذات صلة

ما هي النصوص التي تعرض تصور كينتيليان الخطابي والحجاجي؟

كيف نفهم الترابط والتداخل والتكامل والانسجام الذي وضعه كينتيليان بين كل من الخطابة والحجاج والأخلاق؟

كيف نفهم اعتبار كينتيليان أن على  الخطيب أن يكون رجلا فاضلا وصالحا وعادلا إن أراد أن يكون خطيبا ماهرا ؟

يشكل كتاب المؤسسة الخطابية INSTITUTION ORATOIRE لصاحبه الفيلسوف والخطيب والشاعر الروماني كِينْتِيلْيَانْ، وهو بالمناسبة عبارة عن مجلد يحتوي اثنا عشر كتابا XII LIVRES

من 483 صفحة، وكل جزء من هذه الكتب يحتوي موضوعاً معينا من مواضيع الخطابة ومكوناتها، وتجذر الإشارة أنه كتبه باللغة اللاتينية التي كانت هي اللغة الأصلية التي يتقنها كينتيليان شفهيا وكتابيا، ولم يكتبه باللغة الرومانية، وهذه إشارة صريحة على أن اللغة اللاتينية كانت هي لغة الكتابة والإنتاج العلمي والفكري أنذاك، لكنني اعتمدت الترجمة الفرنسية المعنونة كاملة ب :

QUINTILINE ET PLINE LE JEUNE, INSTITUTION ORATOIRE, ŒUVRES COMPLÈTES AVEC LA TRADUCTION EN FRANÇAIS PUBLIÉES SOUS LA DIRECTION DE M. NISARD.

وهي بالمناسبة ترجمة فرنسية للأعمال الكاملة لكينتيليان ومؤسسته الخطابية منشورة تحت إشراف المترجم الفذ نيسارد وهو بالمناسبة من كبار نقاد الأدب الفرنسي ومؤرخيه أدار مجموعة الكلاسيكيات اللاتينية مع ترجمتها إلى اللغة الفرنسية هو ومن معه في المجموعة 18381850.

لكن ما يهمنا هنا هو الإرث العظيم الذي تركه لنا كينتيليان حول المؤسسة الخطابية وهو ما نسعى هنا إلى نفض الغبار عنه، عبر تقديم قراءة يمكن اعتبارها مدخلا متواضعا جدا لفكره، وذلك بغرض شذ انتباه القراء وشحذ اهتمامهم بهذا الفيلسوف والخطيب الروماني الحاذق الذي ثم تهميشه في تاريخ نظريات الخطابة والحجاج، فجرت العادة في نظريات الحجاج والخطابة، النظر إلى كوراكاس و السوفسطائيين كجورجياس مثلا، ثم سقراط وأفلاطون وأرسطو وشيشرون الذي بالمناسبة قدم كينتيليان قراءة نقدية له نجدها في متنه هذا ونادرا ما يتم الإشارة إليها، ويمكن عدها موضوعا آخر يمكن الانشغال به مستقبلا، وتخصيص عنوان له كالآتي : “كينتيليان قارئاً نقديا لخطابة شيشرون” ولما لا حتى خطابة السابقين عليه، أخص بالذكر هنا كلا من سقراط وأفلاطون وأرسطو، بل نجده يشير في متنه إلى بعض الأقوال المنسوبة للسفسطائيين في موضوع الخطابة، كما أننا نترك خطابة كينتيليان وننتقل بسرعة إلى خطابة بيرلمان وأولبرخت تيتيكا وديكورو وجماعة مو وموليير… إلى آخره، إذن هذه النقلة التي نحدثها أثناء قراءة تاريخ نظريات الحجاج والخطابة والبلاغة عموما تصبح نقلة كأنها مُغَرَّضَةٌ ومُوَّجَهَةٌ مسبقا، أي كأن هناك طريقا قبلية معدة لنا سلفا أو ثم توجيهنا سلفا في قراءاتنا لنقرأ نظرية الحجاج عند فيلسوف أو خطيب معين دون الآخر، وهي قراءة قد تتحول إلى إيديولوجيا بمعناها الانتقائي، أي نصبح في قراءتنا أيضاً ننتقي ما نقرأ وما لا نقرأ أو نقرأ ما هو مركزي في التاريخ أو ثم توهيمنا أنه مركزي ونترك الهامشي دون قراءة ونظر وتأمل وفحص، علما أن هذا الهامشي أيضاً له مساهمة في التاريخ، خاصة في سياق حديثنا عن كينتيليان وطرحه للمؤسسة الخطابية.

أما فيما يتعلق بالكتاب الأول، فهو بالمناسبة يحتوي على إثنا عشر فصلا، وما يمكن الإشارة له هنا هو أنه في الفصل الخامس من هذا الكتاب سيتطرق لمسألة غاية في الأهمية، لربما قد لا نجدها عند اللذين سبقوه ألا وهي :

“X. La connaissance de plusieurs arts est-elle nécessaire à l’orateur.” [1]

بمعنى هنا أنه يحيل إلى إشكال فلسفي وخطابي مهم جدا ذلك المتعلق بهل معرفة العديد من الفنون ضروري للخطيب؟ ويردف بالإيجاب جوابه، ذلك أن الخطيب من الضروري جدا أن يكون حقيبة موسوعية حويطا بمجموعة من المعارف والعلوم والفنون الإنسانية لكي يستعين بها أثناء نقاشاته، وبهذا يصبح الخطيب هو ذلك الشخص القادر على التكلم في أي شيء، فكأنه يخبرنا أن الخطيب يتكلم في أي شيء وفي أي موضوع كيفما كان نوعه، وهو هنا يقف ضد الموقف الأفلاطوني والأرسطي اللذين قوضا مَوْضُوعَا الخطابة وشرطَا حديث الخطباء بسياق معين.

وفي نفس الكتاب الأول، يتطرق إلى مسائل في غاية الأهمية لها علاقة مباشرة بموضوع الخطابة وهي كالآتي :

“LIVRE 1, III- Comment on parvient à connaître l’esprit des enfants, et comment il faut le manier?

V- Des qualités et des vices du discours.

VI- Des mots propres et métaphoriques, usités et nouveaux. Des quatre choses qui constituent le langage.” [2]

حيث سيشير هنا إلى قضية قد نستخلص منها البعد التربوي والبيداغوجي بل حتى السيكولوجي بلغتنا المعاصرة لخطابة كينتيليان، أخص بالذكر هنا إشارته إلى كيف نتعرف على عقول الأطفال، وكيف يجب أن نتعامل معهم؟

وهذه إشارة صريحة لمن يريد أن يشتغل على تصور كينتيليان لكيفية التعامل مع عقول الأطفال الصغار، بل قبل كل شيء لكيف نتعرف على عقل الطفل، ولما لا نقول هنا أن كينتيليان دعى إلى التعرف على عقل الطفل قبل الفيلسوف الفرنسي الذي ندعوه بفيلسوف الطفل والطفولة جون جاك روسو خاصة عندما دعى في كتابه “إيميل أو في التربية” إلى التعرف على الطفل، أكيد هنا أن كينتيليان أسبق من روسو في هذه المسألة، هذا ما يجعلنا نَجْزِمُ بالقول أن روسو لم يقرأ ولو سطرا واحد من كتاب المؤسسة الخطابية لكينتيليان، لأنه لو قرأه لرأى في كينتيليان الداعي الأول للتعرف على عقل الطفل والدعوة إلى معرفته معرفة جيدة، كل هذا تجده في الفصل الثالث من الكتاب الأول دائما.

أما عن الفصل الخامس من نفس الكتاب الأول سيتطرق إلى قضية أخرى لا تعدو أن تكون مهمة أكثر من سابقاتها، لكنها هذه المرة تميز تمييزا جليا وواضحا بين جودة الخطاب، ذلك أن الخطاب بدوره محكوم بالجودة، كما محكوم أيضًا بالرذيلة وهي عكس الفضيلة، ويمكن الإشارة إليها بلغتنا المعاصرة بسلبيات أي رذيلة وايجابيات أي جودة الخطاب، بل حتى في حياتنا اليومية نميز نحن أيضًا بين الخطابات ذي جودة أي التي يكون خطابها من مستوى عال ودقيق للغاية وعلمي وفكري ومعرفي وفلسفي وبين الخطاب السلبي الذي يتم إعتباره خطاب رذيلة قد يكون لا أخلاقيا ولا قيميا في معظم الأحيان، كذلك كينتيليان يجعل من الخطاب الخال من القيم خطابا رذيليا، وهو ما جعله في الفصل السادس يوسع في أطروحته ويذهب إلى الحديث عن الكلمات النظيفة والمجازية والجديدة كذلك، ويشير إلى أصول تَشَكُّلِ اللغة، وما يقصده بالكلمات النظيفة هي الكلمات النظيفة بمعناها الأخلاقي والقيمي، أي الخالية من شوائب وبقايا الرذيلة، وكذلك الكلمات السليمة، أي الكلمات الخالية من الأخطاء، والتي قد تكون لنا جملا وعبارات وفقرات أيضًا خالية من الأخطاء والشوائب، ويدعو هنا إلى أن تكون للخطيب لغة سليمة واضحة وخالية من الأخطاء والنواقص والأضغاث، وهذه إشارة أخرى تحسب له، لم تذكر سابقا لدى كل من أفلاطون وأرسطو وشيشرون، إضافة إلى هذا نجد لديه نظرية متكاملة الأركان في تشكل اللغة، ولعل هذه الأخيرة إشارة حثيثة إلى أن للرجل اهتمامات بأصل اللغة وتشكلها، ولهذا صراحة موضوع آخر، قد نتطرق إليه في موضع آخر، لأن ما يهمنا هنا هو توجيه القارئ إلى التعرف على هذا المتن أولا، ثم التوجه إلى قراءته قراءات متنوعة ومتعددة، أي من وجهات نظر مختلفة من فلسفة اللغة في إشكال أصل اللغة وتشكلها ومن الخطابة كما يمكن قراءة أو لمس بعد تربوي تعليمي وبيداغوجي في فلسفته، إضافة إلى بعد سيكولوجي، وبعد آخر سوسيولوجي، على أي يمكن العودة إلى هذا المتن الفلسفي وإعادة قراءته قراءات معاصرة.

كما أنه في الكتاب الثاني تطرق إلى العديد من المواضيع المختلفة والمتنوعة التي تصب في حقل الخطابة والبلاغة ونظريات الحجاج ونشير إليها بشكل وجيز جداً، كي لا نطيل مقالنا الذي هو مدخل لقراءة في المتن، والمدخل يرجو دائما الإيجاز لا التطويل الذي يخصص للدراسة والفحص والتمحيص والمساءلة والمراجعة والنقد.

“XI. Si la connaissance de la rhétorique est nécessaire

XIV.Étymologie du mot rhétorique, et division de cet ouvrage

XI.Qu’est-ce que le rhétorique et quelle est sa fin ?

XVII. Si la rhétorique est un art.

XVIIII. Division générale des arts. A quelle classe appartient la rhétorique.

XIX.Qui de l’art ou de le rature contribue le plus à l’éloquence.

XX. Si la rhétorique est une vertu.

XXI. Quelle est la matière de la rhétorique?” [3].

في البداية يشير كينتيليان إلى ضرورية المعرفة الخطابية، وهي إشارة صريحة منه على أن المعرفة بالشؤون الخطابية أصبحت من ضرورات العصر، ذلك أنه من يملك الخطابة والكلام والخطاب واللغة يملك السلطة، ولهذا أصبحت الخطابة سلطة معرفية على الجميع الإحاطة بها ومعرفتها، كما أن كينتيليان بالمناسبة قام بالعودة إلى إتيمولوجيا أو ما يعرف عليه بعلم التأثيل اللغوي أو التأصيل اللغوي التاريخي الدلالي الإصطلاحي لكلمة الخطابة، وهذه أيضًا من المجهودات الجبارة التي تحسب له ولم نجدها حتى في أعمال كل من افلاطون و أرسطو وشيشرون، ذلك أن البحث في كرونولوجيا المصطلح واستعمالاته ودلالاته لدى الإغريق القديمة وكل التحولات التي شهدتها لا نلمسها سوى لديه، ومن هنا من الممكن قراءته أيضًا قراءة إيتيمولوجية للعديد من المصطلحات ذكرها في متنه هذا مثل الخطابة والبلاغة والحجاج والحجة واللغة والمثال والكلام …إلى آخره.

أما عن سؤال ما هي الخطابة؟ والجواب عنها في فصل موالي بأنها فن ، تجذر الإشارة أنه في كتابه هذا تطرق للعديد من التعريفات التي سبقته وهي أمانة علمية وفلسفية تحسب له في هذا الكتاب، بل أكثر من ذلك يقدم تعريفات السابقين مه العمل على التعليق والتعقيب عليها ونقدها ودحضها وبيان تهافتها وتفاوتاتها حيث يقول عنها في نفس السياق:

“الخطابة هي فن القول الجيد؛ في بعض الأحيان بطريقة مفصلة: الخطابة هي فن اختراع ما يجب على المرء أن يقوله وترتيبه والتعبير عنه بشكل جيد، ونطقه بذاكرة أكيدة وكرامة في المقام.” [4]

وهو هنا قبل أن يجعل من الخطابة فن إجادة الكلام أو فن الكلام الجيد كما عبر عنها هنا، يجعل منها فضيلة، وقد أشرنا لها سابقا، لكن ما يميز الخطابة لديه عن باقي الفنون والعلوم هو أنها فن اختراع الكلام وإنتاج وإبداع الخطاب، وكأنه بقول إن الخطابة صناعة كلامية ، حيث أن مهمة الخطابي هو إبداع وصناعة وإنتاج واختراع الكلام والخطاب والحديث والمعنى والقول، ولكن بوساطة الترتيب والتنظيم والتنسيق والإحكام،  أي إحكام وإلجام الخطاب لا تركه مبعثرا وعبثيا، بالإضافة إلى التعبير عنه بشكل جيد وسليم، وكنا أشرنا سابقا إلى دلالات ومعاني اللغة السليمة التي هي لغة ضرورية لكل خطيب.

لكن عندما نتحدث عن مساقات الخطابة، وما آلت إليه خاصة أو الغايات منها يشير كينتيليان قائلاً:

“وأما هيرماغوراس الذي يقول إن غاية الخطابة هي الكلام بطريقة مقنعة ، كما هو الحال مع كل من يختلف عنه في الكلام فقط، ويزعم أن الخطابة تتمثل في قول كل ما “يلزم للإقناع “، فأجبته. لهم بما فيه الكفاية، مما يثبت أن الإقناع لا يقتصر على المتحدث وحده.” [5].

وما يريد إضافته هنا في الحقيقة، أن الخطابة ليس غرضها الإقناع وفقط، أو كما عرف عنها سابقا بكونها تتمثل في قول كل “ما يلزم للإقناع”، بل أكثر من ذلك فغايتها تمتد إلى أن تشمل خلق نقاش نقدي هادف يعبر عن مواضيع متنوعة ومتعددة لها طابع عمومي لا خصوصي، وبالتالي تستهدف الجمهور والجموع لا المتحدث والفرود.

لكن الحديث عن غايات وأهداف الخطابة يذهب بنا أيضاً للحديث عن مقوماتها وبُنَاهَا وأسسها الكبرى، والتي يجملها كينتيليان في خمس مقومات رئيسية كالتالي:

II-De la clarté ,

III-De l’ornement ,

IV-De l’amplification ,

V-Des genres de pensées ,

VI-Des tropes [6] “.

سننطلق من الأولى التي تشير إلى الوضوح، أي وضوح الخطاب، ويمكن اعتبارها مقوما أساسيا من المقومات الأربعة للخطابة، ذلك أننا نلحظ مدى اهتمامه بها حيث يردف قائلاً عنها في نص طويل إرتأينا الاحتفاظ به كاملا، كي يتمكن القارئ من فهم هذا المقوم الذي فصل فيه أكثر من الفيلسوف الفرنسي ديكارت أبو الوضوح والبداهة، والنص على الشكل التالي:

“فلنسعى قبل كل شيء إلى الوضوح، وملاءمة المصطلحات، والاستمرارية دون انقطاع أو طول؛ لا أقل ولا أكثر: هذه هي الطريقة التي يستحسنها الرجال المستنيرون ويفهمها الجهلاء. الكثير من الوضوح في الكلمات. وأما الوضوح في الأشياء فقد تحدثنا عنه في باب القصص. ويمكننا أن نقول بشكل عام أن الأمر واحد بالنسبة لكل شيء؛ لأنه إذا كانت الأشياء التي نقولها ليست أكثر أو أقل من اللازم، وليست مضطربة أو مشوشة، فستكون واضحة جدًا،  بحيث يفهمها أقل المستمعين انتباهًا. في الواقع، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن القاضي ليس دائمًا منتبهًا بدرجة كافية ليتمكن من توضيح ظلمتنا داخل نفسه، وإدخال النور في ظلمة الدعوى؛ بل على العكس غالبًا ما ينشغل بحشد من الأفكار التي تمنعه ​​من فهم كلامنا، إلا إذا كان وضوحها ينير عقله غير القابل للتطبيق، كما تضيء الشمس أعيننا، مع أنها غير مثبتة عليه. لذلك لا يكفي التأكد من أنه يستطيع أن يفهمنا، بل من الضروري ألا يفشل في فهمنا. ولهذا السبب نكرر في كثير من الأحيان ما نعتقد أنه لم يفهمه جيدًا في البداية: إنه خطأي، لم أشرح نفسي جيدًا؛ ولذلك سأعبر عن نفسي بعبارات أكثر وضوحا ووضوحا : أي متكلم مرحب به أن يكرر ما يدعي أنه لم يقله بشكل صحيح في المرة الأولى.” [7].

في هذا النص الفلسفي الخطابي الماثل أمامنا أصبح كينتيليان فيلسوف الوضوح والبداهة الخطابية أكثر من ديكارت نفسه (بتحفظ دائما على هذا الكلام)، ذلك أن مجمل الأفكار الأساسية التي يطرحها النص تصب في تأكيد الوضوح، أي وضوح الأفكار قبل كل شيء، وملائمة المصطلحات التي تشير أيضاً إلى وضع المصطلحات في مكانها المناسب وفي سياقها الملائم، فلكل مقام مقال، ذلك أن إحترام الوضوح في الكلام طريقة يفهمها المستنيرين أي المثقفين والمتخصصين، ويفهمها كذلك الجهال أو عديمي الثقافة، وهذه إشارة صريحة إلى إحترام مستوى المتلقي، كما يدعو إلى الاستمرارية والاتصالية والاسترسال والاستطراد في الكلام دون انقطاع، ذلك أن كثرة الانقطاعات في الكلام، قد تفقد من قيمة الخطيب وتشتت الخطاب، فالانقطاع ضد الاتصال، ذلك أن يشير إلى التوتر والتناقض والصراع والصدام في الكلام لا يوافق التناسج والتناظم والاتساق ولا يضفي أي جمالية على الخطاب، ذلك أن هذا الأخير يقرأ كلا لا جزءا أو تجزيئا أو اختزالاً، وهنا نجده يوجه نقدا لاذغا إلى كل من أرسطو وشيشرون اللذان دعا إلى تقطيع الخطاب!

ويقدم لنا مثال مواجهة القاضي الذي بصدد إصدار الحكم، لذلك ما يجب علينا فعله سوى إيضاح أفكارنا وجعلها واضحة، ولو شئنا أن نعمل على تكرار ما نقول، ففي تكرار الأفكار إلى غاية وضوحها فائدة لدى كينتيليان.

لكل هذا يشير في موقع آخر عن الخطابة، ويضيف عنها مستطردا : “فلنترك هذه الأسئلة لمن يريد أن تكون نهاية الخطابة في الإقناع. ولكن إذا كانت الخطابة هي فن القول الجيد ، وهو تعريفنا، والذي يفترض أن الخطيب يجب قبل كل شيء أن يكون رجلاً صالحًا” [8] وفي حقيقة الأمر، ما أراد الحث عليه هنا هو أن الخطابة ليس نهايتها هو بلوغ الإقناع وفقط، بل إنها بإعتبارها فن القول الجيد تريد من قائل هذا القول الجيد أي الخطيب أن يكون رجلا صالحا بمعنى صادقا وأخلاقيا وقيميا، أو كما عبر عنها هو فاضلاً، لكن تجذر الإشارة هنا إلى أن فضيلة كينتيليان تختلف عن فضيلة أرسطو، ذلك أنه يميز بينها وبين الرذيلة قائلاً : “بينما الفضيلة، تلك الصفة التي تقربنا من الآلهة الخالدة، تأتي إلينا دون أن نتعب في البحث عنها، وفقط لأننا ولدنا. فيمتنع بذلك الإنسان دون أن يعرف ما هو الامتناع. شجاع، دون أن يحرر نفسه بالعقل من الخوف من الألم والموت، ومن أهوال الخرافات؛ عادلًا، دون أن نفحص أبدًا ماهية العدالة والخير السيادي، ودون أن نفكر أبدًا، في بعض المحادثات المدروسة، حول القوانين التي فرضتها الطبيعة على جميع البشر، ولا حول تلك الخاصة بشعوب معينة، أو أمم معينة. آه، كم هو قليل أن نعتبر كل هذه الأسئلة سهلة للغاية!” [9]، ومن هنا تصبح الفضيلة عنده هي تلك الصفة أو القيمة التي  ترجو التقرب من الآلهة الخالدة، وهي ما يحصرها في الصلاح والعدالة والخير والحق والشجاعة، كما نجده يدعو أيضًا إلى التحرر بالعقل من الخوف والخرافات والمعجزات والأساطير، وهي إشارة حثيثة على أن كينتيليان كانت تحركه روح أنوارية قبل سبعة عشر 17 قرناً، ذلك أن روح الأنوار تدعو إلى التحرر من كل العوائق والحوائل والمعيقات باستخدام العقل وحده، ذات الفكرة نجدها لدى كينتيليان، غير أنه يدعوا الخطيب إلى التحرر من الدوغمائيات والخرافات والمعجزات والأساطير والخوف وأن يكون عادلا وخيرا وصالحا أو بعبارة وجيزة فاضلا.

ذلك أنه “بما أن المتكلم هو في الأساس رجل صالح، ولا يمكن تصور رجل صالح بدون فضيلة؛ ولما كانت الفضيلة، وإن كانت تدين في بعض حركاتها للطبيعة، فإنها تحتاج إلى أن يكملها العلم، فإن أول اهتمام للخطيب يجب أن يكون تنمية أخلاقه من خلال الدراسة، وتعميق معرفة ما هو صادق وعادل، والذي بدونه لا يمكن  للمرء أن يكون إما فاضلاً أو بليغًا: ما لم يتفق مع رأي أولئك الذين يعتقدون أن الطبيعة وحدها هي التي تحدد الأخلاق، وأن التعاليم لا تضيف إليها شيئًا.” [10].

هنا أيضاً يضيف إلى أن معرفة الأخلاق والقيم والفضيلة والخير والعدالة والحق والشجاعة ضروري جدا وإلزامي لكل خطيب، ونقولها هنا لا وجود لأي خطيب غير خطابة بدون فضيلة ولا يمكن أن توجد، ذلك أن الفضيلة والأخلاق يمكن تنميتها لدى الخطيب بواسطة الدراسة الفلسفية وتعميق المعرفة بما هو صادق وكاذب وصالح وطالح وفاضل ورذيل وحسن وسيء وعادل وجائر … إلى آخره من القيم الثنائية التي على الخطيب معرفتها لبلوغ الفضيلة، كما ينتقد من يقول أن الفضيلة خصيصة إنسانية بالطبيعة وأنه لا يمكن تعليمها !

وهناك أيضاً إشارة أخرى لديه يدعو فيها إلى ضرورية المعرفة القانونية لكل خطيب، حيث يردف قائلاً : “إن معرفة القانون المدني ضرورية أيضًا لمتحدثنا، بالإضافة إلى معرفة عادات ودين البلد الذي دُعي للمشاركة في إدارته. في الواقع، ما هو الرأي الذي يمكنه الإدلاء به في المداولات العامة أو الخاصة، إذا تجاهل الكثير من الأشياء، التي هي الأساس الرئيسي للدولة؟ وكيف يمكن أن يحمل لقب المدافع دون احتيال إذا كان في حاجة إلى أن يستعير من الآخرين الأسلحة الأكثر ضرورة للدفاع عن قضية ما؟ تمامًا مثل أولئك الذين يتلون أبياتًا لم يكتبوها، ويختزلون، بطريقة ما، في دور المترجم، سيطلب من القاضي تصديق ما يقوله هو فقط بناءً على إيمان الآخرين، بينما يعد بتقديم المساعدة لهم.” [11].

هذه المعرفة بالقانون المدني ضرورية أيضًا لمتحدثنا، أي الذي يتحدث وهو الخطيب هنا، ذلك أنه لا يعقل أن يتحدث الخطيب في موضوع السياسة بما هي تدبير للشأن العام وتدبير لحاضرة الدولة والقضاء دون الالمام والاحاطة بالقانون والتشريع الذي يحكم تلك الحاضرة، ذلك أنه قد يخرج عن سياق وموضوع الخطاب والدولة في حالة عدم معرفته بالقانون والدستور الخاص بتلك الدولة، وفي هذا الخروج خطر على الخطيب وتنزيل من قيمته، وبالتالي يجب أن يكون حويطا بثقافة ومعارف وأفكار وعادات وتقاليد ودين البلد المدعو للمشاركة فيه، كما عليه أن يثقن جيدا تقنيات التداول، أي يعرف مستوى الخطاب الذي يريد التخاطب به أثناء المداولات العامة أو الخاصة، دون الاحتيال والتلاعب بالكلمات التي هي من عيوب الخطيب لا خصاله التي أشرنا لها سابقا بكونها خصال فضيلة، لا رذيلة، حيث أن مجال الاحتيال هو مجال الرذيلة.

والآن سننتقل بشكل مباشر إلى نظرية كينتيليان الحجاجية، والتي سنعبر عنها بمجموعة من النصوص المختارة من متنه الفلسفي يتطرق فيها إلى تصوره للحجاج والحجة، كي نترك للقارئ مجال قراءتها والتعرف عليها بل والعودة إلى محراب المتن كاملا، بغرض قراءته وإعادة فحص وتمحيص كل ما ذكره كينتيليان عن هذه الحجج لتحديد مدى صلاحية وقيمة ومدلولية هذه الحجاج، وهي كالآتي :

النص رقم 1:  اخترنا له عنوان : “التعليق على الحجة”

“إن كلمة enthymeme، إذا استخدمنا المصطلح اليوناني، والتي نترجمها بشكل غير كامل إلى commentum و commentatio ، لها ثلاثة معانٍ. ونعني بهذا، أولاً، أي تصور للعقل؛ ولكننا لا نأخذ الأمر هنا بهذا المعنى؛ ثانياً: أي قضية مصحوبة بتعليلها؛ ثالثًا، استنتاج معين للحجة، مستمد من النتائج أو الأضداد.” [12].

النص رقم 2: اخترنا له عنوان : “تعريف الحجة”

“فلما كان الحجة وسيلة لإثبات الشيء بشيء، وإثبات ما هو مشكوك فيه بما ليس كذلك، فلا بد أن يكون هناك في جميع الأحوال نقطة لا تحتاج إلى إثبات؛ لأنه لو لم يكن هناك شيء مؤكد، ولا ظاهر لذلك، لم يتمكن المتكلم من إثبات أي شيء.” [13].

النص رقم 3: اخترنا له عنوان : “استخلاص الحجة”

“يجب علينا قبل كل شيء أن نستخلص الحجج من الشخص ، لأنه، كما قلت، لا يمكن أن تتعلق الأسئلة إما بالأشخاص أو بالأشياء ؛ في حين أن الدوافع ، والزمان ، والمكان ، والمناسبة ، والأداة ، والوضع ، وما إلى ذلك، ليست سوى حوادث للأشياء. أما الناس فلن أدخل في فحص حوادثهم كما فعل معظمهم: سأكتفي بالإشارة إلى الأماكن الخصبة في الجدال.” [14].

النص رقم 4: اخترنا له عنوان “من أين تُسْتَمَدُّ الحُجَّةُ ؟”

“والخلاصة إذن أن الحجج مستمدة من الأشخاص، والدوافع ، والأمكنة ، والزمان ، والمرافق التي أضفنا إليها الأداة، والطريقة ، وهي أن قل الطريقة التي نشأ بها الشيء، من التعريف ، من الجنس ، من النوع ، من الاختلافات ، من الخصائص ، من دحض الأجزاء المذكورة ، من التقسيم ، من البداية ، من التقدم ، النهاية ، من المتشابهات ، من الاختلافات ، من الأضداد ، من العواقب ، من الكفاءات ، من الآثار ، من النتائج ، من المترافقات ، والمقارنة ، والتي نقسمها إلى عدة أنواع. ويبدو لي أنه يجب علينا أيضًا أن نضيف إلى كل هذا أننا لا نتجادل حول الأشياء المقبولة فحسب، بل أيضًا حول الخيال، أو كما يقول اليونانيون، حول الفرضيات.” [15]

ملاحظة مهمة: العناوين هي فقط من اختيارنا أو هي مجرد قراءتنا الخاصة للنصوص وما استخرجناه منها يمكن للقارئ أن يقرأ هذه النصوص ويصل إلى عناوين أخرى لم نتوصل لها نحن، كما أن النص حمال للعديد من التأويلات والمعاني والدلالات، قد نجد قارئا آخر لنفس النصوص وعودة إلى المتن ويكتشف أن هناك نصوصا أخرى أكثر تعبيرا عن نظرية الحجاج لكينتيليان ومؤسسته الخطابية، لكن ما هو مطلوب منه أنذاك هو مشاركة هذه النصوص، للتعرف على نظرية الحجاج جيدا لدى كينتيليان واكتمال الصورة في الذهن لدى المتلقي له، لنكون قد بلغنا المقصد من كتابة هذا المقال.

وسأضيف نصوصا أخرى تغني هذا الطرح المتمثل في نظرية الحجاج لدى كينتيليان، إلا أن هذه النصوص تحمل عناوين مختلفة جذريا، لكن تسير في نفس السياق، وهي كالآتي:

النص رقم 5: اخترنا كعنوان لهذا النص “الحجج الواضحة أفضل من الحجج المزخرفة”

“أما الآن فلا يسعني إلا أن أضيف أنني لست حتى من رأي أولئك الذين يعتقدون أن الحجج يجب أن تعالج بأسلوب نقي وواضح ودقيق، ولكن دون كثرة أو زخرفة. لا شك أن الوضوح والدقة ضروريان، وحتى في الأمور الصغيرة، يجب علينا أن نستخدم فقط المصطلحات الأكثر وضوحًا والأكثر شيوعًا. لكن إذا كان السبب مهمًا، أعتقد أنه لا ينبغي استبعاد أي زخرفة، بشرط ألا يتأثر الوضوح.” [16]

النص رقم 6: اخترنا كعنوان لهذا النص “في الخطاب المُحْكَمِ التنظيم، والناعم،  والدقيق وأفضليته عن الخطاب المزخرف”

“إن الخطاب الغني، الفخور، الجريء، المزخرف بعناية، أقل ملاءمة للرجل العجوز من الخطاب المحكم، الناعم، الدقيق، المتوافق مع ما أراد شيشرون أن يعطي فكرته، بالقول إن بلاغته بدأت تتلاشى . وهذا هو السبب في أن الملابس ذات اللمعان الأرجواني والقرمزي لم تعد مناسبة في هذا العصر. قليل من الإسراف والتهور لا يزعج الشباب؛ وعلى العكس من ذلك، فإن الخطاب الجاف والحذر والمهذب يُظهر تكلفًا في القسوة، وهو أمر غير مرحب به عادةً، نظرًا لأن جدية الأشخاص المتقدمين في السن تعتبر أمرًا غير مناسب في المجتمع.” [17]

القولة رقم 1: اخترنا كعنوان لها “التناقض أصل كل خطاب”

“من الخطيب الماهر أن يكتشف في دفاع خصمه ما هو متناقض، أو ما يبدو أنه متناقض. في بعض الأحيان ينشأ التناقض نفسه من الحقائق.” [18]

إضافة إلى أن التناقض أصل كل خطاب، وأن الخطيب الماهر هو من يكتشف في دفاع خصمه ما هو متناقض، أو ما يبدو أنه متناقض في كلامه، فإن الوصول إلى التناقض والصراع والصدام في الخطاب والكلام والنقاش والحديث والمعنى هو إنجاز، ذلك أن الحقيقة ستعرف فيما بعد بكونها هي “عدم التناقض” سواء في الكلام والخطاب والحديث والمعنى والقول والتواصل إلى درجة أنها ستمتد إلى المنطق وآليات الاستدلال.

 النص رقم7 : اخترنا له كعنوان ” العدل خاصية جوهرية في كل خطاب”

“سأنهي هذه المقالة كما انتهيت من جميع المقالات الأخرى، بالتوصية بأن نحافظ على قدر عادل، نظرًا لأننا لا نتعامل هنا مع ممثل، بل مع خطيب. ولذلك، فإننا لن نسعى، في الإيماءة، إلى التعبير عن كل شيء بدقة، كما أننا في الكلام لن نحاول أن نحدد بدقة ما هو غير سار، كل التوقفات، كل الفواصل وكل تعديلات الروح.” [19]. لا يمكن إنكار أن كينتيليان ينشد في كثير من المواضع في متنه ويدعو إلى العدل والعدالة كفضيلة جوهرية في كل خطاب وخطابة وحجاج، لهذا لن نغالي إذا قلنا أن غاية الخطابة والحجاج لدى كينتيليان هي تحصيل العدل والعدالة والحق والخير والصدق والشجاعة، مع جعله العدالة في المنزلة الأولى التي يطمح إليها كل خطاب.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن ما يصالح بين الخطابة والأخلاق لدى كينتيليان إنما هي الثقافة كقيمة أسمى، لذلك فالخطابة فضيلة إنسانية بإمتياز، بهذا يدعو إلى الخطيب بوصفه إنسانا صالحا شريفا ومثقفا، لن نغالي في القول أيضًا أن كتاب المؤسسة الخطابية هو كتاب يضع أسس ومرتكزات وأصول التربية الإنسانية، كذلك نجد لدى شيشرون في كتابه “عن الخطيب” دعوته إلى أنه على الخطيب أن يكون مثقفا ومكونا في جميع المجالات الأساسية الكبرى،  من قانون وفلسفة وتاريخ وعلوم ، لهذا يمكن إعتبار أن شيشرون يدعو كذلك إلى التربية على الثقافة العامة.

لكن كينتيليان في حقيقة الأمر،  يذهب بعيدا عندما يجعل من الخطابة فنا وظيفيا، مما يؤكد أن الخطابة عنده في مقابل الثقافة، فالمؤسسة الخطابية غرضها هو تكوين الخطيب، فهي مصنف تربوي متكامل الأركان والأسس تسعى إلى استدراج المتعلم دائما إلى أن يتساءل، هنا جعل كينتيليان من مجال الخطابة مجالا للتربية والتعليم والتكوين، وهذا دليل أيضًا على مصالحته بين الخطابة والأخلاق، وجعل الغاية من الخطيب كما رأينا أن يكون صادقًا وصالحا وفاضلاً، وما يعاب على كل المشتغلين على الخطابة قبله أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وشيشرون أيضًا هو فصل الخطابة والحجاج عن مجال الأخلاق، وتقويض الوحدة بينهما، عكس كينتيليان الذي جعلهما مجالان متكاملان ومتداخلان لا يمكن الحد بينهما أو الفصل، وكل فصل هو تشويه وتزييف لحقيقة الخطاب ونزع للمعنى الأخلاقي والقيمي لها!

على سبيل الختم؛ نقول إن الغاية من كتابة هذا المقال الذي كان عنوانه “خطابة وحجاج كينتيليان: دعوة إلى قراءة وإعادة قراءة المؤسسة الخطابية”، وكان غرضنا في الحقيقة منذ البداية هو الإشارة إلى أن كتاب “المؤسسة الخطابية” يحتاج إلى التفاتة معاصرة من قبل الدارسين والمهتمين بنظريات الخطابة والحجاج، ذلك أن المهتم بهذا المجال، سرعان ما يتوجه إلى اللحظة السوفسطائية فيختزلها في موقف جورجياس، ثم اللحظة السقراطية الأفلاطونية فيختزلها في موقف النقد والهدم والدحض والتفنيد، ثم ينتقل إلى أرسطو فيعتبر تصوره هو المؤسسة للخطابة، ليقفز مباشرة إلى اللحظة المعاصرة، لحظة بيرلمان وتيتيكا وديكرو وجون كوهن وجيرار جنيت ورولان بارت … إلى آخره، هذه القفزات والانتقالات العشوائية والارتجالية والانتقاءات الغير موضوعية تجعلنا نسقط في أيديولوجيا الانتقاء والاختيار وتفضيل موقف فلسفي على موقف آخر، أو التركيز على خطابة دون أخرى، وهذا مخالف تمام الاختلاف للروح الموضوعية للفلسفة وضرب عميق للقراءة الكرونولوجية للخطابة والخطاب.

البيبليوغرافيا:

[1]- QUINTILINE ET PLINE LE JEUNE, INSTITUTION ORATOIRE, ŒUVRES COMPLÈTES AVEC LA TRADUCTION EN FRANÇAIS PUBLIÉES SOUS LA DIRECTION DE M. NISARD, LIBRAIRES DE L’INSTITUT DE FRANCE  , p 16.

[2]- ibid , p 23.

[3]- ibid , p-p 48-85

[4]- ibid , p 58.

[5]- ibid , p 72.

[6]- ibid , p-p 125- 158.

[7]- ibid , p 132.

[8]- ibid , p 148.

[9]- ibid , p 78.

[10]- ibid , p 87-98.

[11]- ibid , p 459.

[12]- ibid , p 158- 164.

[13]- ibid , p 189.

[14]- ibid , p 204- 207.

[15]- ibid , p 196.

[16]- ibid , p 154.

[17]- ibid , p 176.

[18]- Voir en plus : Quintilien, Institution oratoire, traduction,  J. Cousin, Les Belles- Lettres, 7 vol., 1975 – 1980.

Voir en plus : Olivier Reboul, La rhétorique, << que sais-je ? >> , PUF,  1992.

[19]- ibid , p 316 .

Remarque importante : Voir en plus :

-Olivier Reboul,  Introduction à la rhétorique, Quadrige, PUF,  2011, p 49.

-Cicéron,  De L’orateur, traduction, E. Courbaud . Les belles-Lettres, 3 vol , 1967.

(لمن يريد التعرف على موقف شيشرون عن الخطيب، وذلك بغرض التعرف على مجمل النقود التي وجهها كينتيليان له).

*محمد فرَّاح،  طالب في سلك الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة، في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

محمد فراح

طالب في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط ، سلك الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي -الفلسفة ، السنة الثالثة.