بين مثقَّف “التيك التوك” ومثقَّف الصَّالونات

image_pdf

لا يمكننا إنكار أنَّنا نعيش مرحلة من الغيبوبة في عالم يتحرك بسرعة، كيف لا ومواضيع العالم المتقدم تدور حول استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال العلاج وتشخيص الأمراض وإجراء العمليات الجراحيَّة الدقيقة، استخدامه في فك تشفير الإشارات العصبيَّة للدماغ البشري ما يساعد الأشخاص غير القادرين على التواصل مع محيطهم بالاندماج، تطوير روبوتات دردشة تستطيع القيام بمحادثات لا تختلف عن المحادثات الإنسانيَّة … في حين، لا نزال نحن لم نغادر مواضيع القرون الوسطى حول العلاقة بين العقل والنقل، لباس المرأة، الجن والسحر، الأرض مسطَّحة … وللأسف يُعتبر المثقف العربي جزءًا من هذه الأزمة الفكريَّة التي نتخبَّط فيها عِوض أن يكون حاملاً لمصباح التنوير.

يشهد العالم باستمرار الكثير من التغيّرات بسبب الطفرة العلميَّة والتكنولوجيَّة ولهذا إن لم نُغيّر نحن أيضاً من أفكارنا ومن طريقة تفكيرنا ستزداد الفجوة بين المجتمعات المتقدمة وبيننا حتى نصل مرحلة الاغتراب في العالم إن لم نكن قد وصلناها أصلاً … والسؤال أين مثقفنا العربي من كل هذا؟

لقد حذّر الكثير من الأعلام كعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومحمد إقبال من خطر الخلط بين السياسة والدين والعلم والثقافة وقد صدق حدسهم الفكري، فبعد وقوعنا في هذا الخلط الذي مارسه من يحسبون على العلم والثقافة، كانت النتيجة حدوث الردَّة الفكريَّة كما قال جورج طرابيشي وتقهقر ثقافي وأخلاقي غير مسبوق، ومن أوجهها التصادم مع النظريات العلميَّة الحديثة إما برفضها بحجة مخالفتها للنص الديني، أو تزويرها من أجل تكييفها مع النص الديني …

الجانب الفني، الأدبي والفلسفي سقط أيضاً سقوطاً حراً خلال هذه الردَّة، فلا أعمال أدبيَّة أو شعريَّة أو مسرحيَّة أو سينمائيَّة تستحق التثمين إذا حاكمناها بالمقاييس العالميَّة، وحتى تلك التي تُعتبر مقبولة على قِلتها وأعلنت عن وجودنا بتواجدها في مهرجانات العالم المتحضِّر، فهي من إنتاج وإبداع شبابنا الذي هجرنا إلى ما بلدان وراء البحر … ولعّل أكبر خطر أصاب فكرنا وثقافتنا في مقتل يكمن في تكفير مفكرينا وفلاسفتنا من منطلق ديني وهو ما حدث ولا يزال يحدث …

من كوارث المثقَّف العربي حالياً وخاصة ذو النزعة الأصوليَّة، افتعاله للكثير من المواضيع الخياليَّة وتصويرها كمعارك فكريَّة وقضايا مصيريَّة، كحديثه عن الجن والمسّ، عن الجفاف وربطه بتبرج المرأة، عن مفاهيم علميَّة في مناهجنا وبرامجنا التعليميَّة يراها مخالفة للتعليم الديني … إضافة إلى هجومه المطلق على الغرب وفتاوى التحذير ممَّا يسمِّيه “المؤامرة على الإسلام والمسلمين”، “الغزو الثقافي”، “أكاذيب وكالة الناسا الأمريكيَّة”، “الفلاسفة وعلماء البيولوجيا والآثار والتاريخ والاجتماع والجغرافيا … علومهم خاطئة ويخدعوننا لأن هدفهم الحرب على الإسلام”، وحجته عنده انتمائهم للقارة الأوروبيَّة أو الأمريكيَّة … وبلا خجل يستمر في الهجوم بكلام إنشائي على الغرب ويدعو إلى التمسك بالكتب القديمة ولكن باستخدام المنجزات العلميَّة لهذا الغرب الشرير، فعن طريق الانترنت وتطبيقات اليوتيوب، الفايسبوك، التويتر، التيك توك، يرفع صوته تارة، ويطلق العنان لأصابعه للكتابة تارة أخرى على حاسوب أو هاتف هو أيضا من منجزات الغرب العدو لنشر جموده الفكري بين الناس فيصير نجماً بل ومن الأغنياء بعد ثكاثر المعجبين والمعجبات والمتابعين والمتابعات وتحوّلهم إلى أرقام فدولارات سيتحصّل عليها كل شهر من هذه التطبيقات التي أنتجها ويشرف عليها ويدفع المال للناشطين بها الغرب … لا أعرف كيف أسمي مثل هكذا مغالطة ولكنني أكتفي بوصف صديقنا الأصولي مثقَّف التيك التوك بالكسول، لأنه لو اهتم بتعلّم لغة أجنبيَّة، ولو قرأ بعض الكتب والمجّلات الأكاديميَّة في العلوم التجريبيَّة والإنسانيَّة، لما صار من أعداء العقل والعلم، ومن المستحيل أن ينشر الجهل والتطّرف في المجتمع باسم الدين ولو كان من التيار المحافظ، بل لو قرأ أصلا كتب التراث التي يدعو إليها لما كان من دعاة الانغلاق الفكري، لأن تاريخنا الثقافي عند السلف عرف الازدهار نظراً لانفتاحه على الحضارات الأجنبيَّة، كيف لا وعلمَي العقيدة والفلسفة الإسلاميَّة لم يعرفا النضوج إلا بعد الانفتاح على الفكر اليوناني وترجمة كتب الفلاسفة الإغريق، علوم الحديث واللغة والمعاجم لم تعرف الازدهار إلا بالانفتاح على الحضارة الفارسيَّة، إذن حتى إذا احتكمنا إلى كتب التراث فسنجد فيها ضرورة الانفتاح الثقافي والمعرفي على الأمم الأخرى وليس ما يردّده مثقَّف التيك توك (الغزو الثقافي).

قد يغضب منا المثقَّف الأصولي ويقول إنّ التاريخ لا يرحم، وأنّ عداء الغرب للإسلام جليّ ويضرب لنا مثلاً بالمستشرقين، وهذه مغالطة أخرى للأسف منتشرة حتى بين المثقفين النخبة وليس فقط مشاهير التيك توك … ليس من العدل تماماً ولا الأمانة العلميَّة عدم الاعتراف بدور المستشرقين في عمليَّة إحياء تراثنا الإسلامي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لولا “موريس بويج” ما عرفنا تراثنا الفلسفي معرفة دقيقة بما في ذلك أعمال ابن رشد، ولولا “مونك” ما عرفنا موسى بن ميمون وكتابه التحفة “دلالة الحائرين”، ولولا “ديفلد فلزر” و”ألفرد جيوم” و”هاملتون جب” الذين سلّطوا الضوء على المعتزلة، ما عرفنا فكر وعقيدة هذه الفرقة ودورها الريادي في حركة المعرفة الإسلاميَّة، بل حتى كتب عقيدة أهل السنة (الأشاعرة) كأبي الحسن الأشعري، الغزالي، ابن خلدون، السنوسي، يعود الفضل لمستشرقين ألمان حتى رأت النور … هذا دون التطرق لكتب الفقه والحديث والأدب والشعر والحساب …الخ التي لولا الحركة الاستشراقيَّة لبقيت أغلبها سجينة الغبار والنسيان، فلماذا الهجوم عليهم رغم فضلهم بل لحد الآن لا نزال عالة عليهم في عمليَّة تحقيق المخطوطات؟ هل بسبب بعض الأحكام الخاطئة التي أصدرها هذا المستشرق أو ذاك؟ أم هل بسبب تأثر بعض المفكرين العرب بأعمالهم؟ أم فقط لأنّهم من الغرب وهذا يكفي لإدانتهم رغم خدماتهم؟ … في كل الأحوال، لا غرابة أن نُكِّن لهم العداء بعدما تشبّعنا بثقافة التقليد من جهة والخوف والتوجّس من الآخر من جهة أخرى.

غير بعيد عن صديقنا المثقف الأصولي في صناعة مأساتنا، نجد صديقنا الآخر مثقَّف الصالونات والقنوات الفضائيَّة، هو أيضاً ماهر جداً في خلق المعارك ضد طواحين دون كيشوت، مواضيع لها غلاف فكري إلاّ أنّها غير مرتبطة بواقعنا تماماً، يتحدث عن حقوق المرأة وظلمها والفكر الذكوري والصحفيَّة التي تحاوره امرأة، غير محجبة، أكملت دراستها، لم تتزوج صغيرة ولا أحد أجبرها على ذلك، تعيش معه في نفس الوطن وتحت نفس القوانين والحقوق والواجبات … يثير موضوع الرق والجواري والغلمان وسوق النخاسة وكأنه سوبرمان حقوق الإنسان وهو يعلم وكل المتابعين لبرنامجه يعلمون أنّ هذا كان موجودا في كل الحضارات القديمة بلا استثناء ولا وجود له اليوم …. يتحدث عن الرجم والجلد والحرابة وكيف يجب تجنّب هكذا عقوبات قاسية، فإن سألته من تعرّض لها لن يجيب (لأنّها غير موجودة في قانون العقوبات) أو ربّما سيستشهد بما فعلته داعش أو بوكوحرام وهذه مغالطة رجل القش … الشاهد أنّ هذا المثقف يثرثر حول مواضيع مقتولة تاريخياً ولكنّه لن يتكلم عن واقع مجتمعه البائس (غلاء المعيشة، البطالة، أزمة السكن …) بل تجده بشكل أو بآخر من أنصار المسؤولين الفاسدين وسياساتهم رغم فشلها، والأصل في المثقف الحقيقي النقد، معارضة السلطتين السياسيَّة والدينيَّة، التحرر من كل الإيديولوجيات وهذا لن يتحقق إلا بالابتعاد عن العمل السياسي وما شابهه (الانضمام للأحزاب أو النقابات أو المنظمات التي تُموّلها الدولة …) لأنّ بأدلجته سيساهم في نشر ثقافة الرضوخ وقبول الديكتاتوريَّة وفقدان الحريَّة وهذه أيضا راديكاليَّة، فلا فرق بين مثقَّف يقدس الشيخ فلان ومثقَّف يقدس الرئيس علان.

اعتقد أن عودتنا إلى ركب الحضارات المتقدمة لن تتحقق إلاّ بصدق المثقف العربي مع نفسه، فلا تزعزعه المصالح الماديَّة ولا الأفكار الإيديولوجيَّة، فعن طريقه فقط يمكننا التخلص من الفكر الرجعي التبريري، سواء في المجال السياسي أو الديني أو الثقافي، أي بأمثاله يتجدد فكرنا مرتكزاً على العقل والعلم وهو من سيزاحم الفكر اللامعقول، الخرافي، المتطّرف، الرجعي بكل أشكاله.
_______
* العفيفي فيصل، أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في أصول الدين، جامعة تلمسان / الجزائر.

جديدنا