فلسفة التربية لدى أفلاطون
سننطلق من فرضيَّة أنَّ التربية تشكِّل الموضوع الرئيس لمحاورة “الجمهوريَّة” لأفلاطون حيث قدم فيها نظريَّة شاملة للتربية، عن طريق صياغة منهاج ومنهج تربوي لكن لفئة مختارة من المواطنين، فهناك نمطان من التربية لدى أفلاطون؛ الأوَّل هو التربية الديمقراطيَّة الشاملة لجميع فئة المواطنين داخل جمهوريته، والثاني هو تربية أرستقراطيَّة نخبويَّة أي انتقائيَّة لصالح “الصفوة المختارة من فئة معيَّنة من المواطنين”، وهذا النوع من التربية الأرستقراطيَّة هي التي يدافع عنها أفلاطون في جمهوريته، حيث سيهتم بطبقتي الحكام والحراس، ويهمل طبقة التجَّار والحرفيِّين والعبيد ويبعدهم من نظامه التربوي، ذلك أنَّ أفلاطون اهتمَّ بتحديد نظام تربوي خاص بطبقتي الحراس (بوصفهم جنود وجيش الدولة المتخصِّص الذي يحقِّق للدولة أطماعها ويصدُّ عنها أطماع الآخرين والحكَّام)، وبهذا نجد أنَّ أفلاطون يجعل من التربية سيرورة مشتركة بين الحاكم الفيلسوف والحراس، ذلك لأنَّ أفلاطون كان معجبًا بالمناسبة بالنظام السائد في اسبرطة وهذا ما جعله يفضِّل النمط العسكري في نظامه التربوي، إذ تصبح لديه أفضل تربية هي تلك التي تنشئ الأفراد ليكونوا حرَّاسًا للدولة وحكَّامها.
والآن ننتقل إلى المراحل الثلاث الأساسيَّة في النظام التربوي /التعليمي في محاورة “الجمهوريَّة” لأفلاطون.
المرحلة الأولى في التعليم: التي توافق التعليم الأوَّلي الابتدائي التمهيدي: وهي ممتدَّة من الميلاد إلى بلوغ 20 سنة.
أولا يتمُّ نزع الأطفال أثناء ولادتهم من أمَّهاتهم، ثمَّ يجمع جميع الأطفال في ساحة عموميَّة وتخليطهم مع بعضهم البعض، حتى لا تتعرَّف أمَّهاتهم عليهم ولا يتعرَّفون هم أيضا على أمَّهاتهم.
ثانيا تحديد العديد من النساء من أجل إرضاعهن، شريطة ألا تكون تلك النساء أمَّهاتهم.
بعد نضوجهم نركِّز على التربية الفيزيائيَّة والفيزيولوجيَّة للبدن، إضافة إلى التربية الموسيقيَّة؛ ذلك أنَّ التربية البدنيَّة والموسيقيَّة تساعد على تنمية الجسم والروح على التشكُّل والنموّ البدني والروحي.
والمقصود هنا بالتربية الموسيقيَّة أي الموسيقى التي تساعدنا على حفظ الأشعار والآداب والفنون التي تحمل قيما ومبادئ.
أما عن التربية البدنيَّة فهي التربية التي تساعد الجسم على قدرة التحمُّل والصبر وتحقيق الصحَّة والعافية والقوَّة لجسد الفرد، عن طريق تطوير البدن وكماله وتنظيم الغذاء.
كما أنَّ التربية البدنيَّة هي عناية ورعاية للجسم والنفس في جزئها الغضبي عبر تطوير صفات الشجاعة والجرأة والمثابرة في الفرد، كل هذا يساهم في تحقيق الخير الأسمى للنفس.
كما يجب إحداث التوازن والموازنة بين التربية البدنيَّة والتربية الروحيَّة، حيث تكوِّن في الفرد حساسيَّة الروح ورهافة الحسّ وشجاعة القلب وقوَّة الجسم.
كملاحظة أخيرة، يرفض أفلاطون تدريس الشعر للأطفال خاصَّة شعر هوميروس الذي يصف أفعال وسلوك الآلهة وصفًا سلبيًّا لا يليق بمقامها، لذلك يجب إبعاد هذا النوع من الشعر الذي قد يؤثِّر على أذهان النشء، واستبداله بالشعر الحامل للقيم الأخلاقيَّة الحميدة.
المرحلة الثانية في التعليم: التي توافق المرحلة الثانويَّة وهي محصورة بين 20 و 30 سنة.
في هذه المرحلة يتمّ التركيز على الرياضيات والعلوم؛ ذلك أنَّ الرياضيات ترتفع بنا عن كل موضوع متعلِّق بالعالم المحسوس، فتهيِّء الرياضيات ذهن المرء للصعود على العالم المعقول، وتدرِّب العقل جيدا على التعامل مع الأفكار المجرَّدة.
يقسم أفلاطون الرياضيات إلى حساب وهندسة، ويقصد بالأخيرة هندسة المسطَّحات والنجوم، كما يوفِّق بين الموسيقى وعلم الفلك الذي هو علم حركات الأجرام السماويَّة.
كما يفضَّل أفلاطون الرياضيات القائمة على الهندسة الأوقليديَّة التي تبدأ من المسلَّمات وتعتمد الاستدلال البرهاني، وتحثّنا على تأمُّل الأشكال المنظوريَّة أي تأمُّل “الشيء في ذاته en soi”.
كما تنقلنا الرياضيات من المعرفة الظنيَّة إلى المعرفة العقليَّة حيث يوجد الديالكتيك الذي يشكِّل قمَّة العلوم والمعارف.
الرياضيات الهندسيَّة قريبة إلى الروح الفلسفيَّة الخالصة. تساعدنا الرياضيات على تهيئة الذهن من أجل إدراك الحقائق الأزليَّة التي هي موضوع دراسة الديالكتيك/ كما تنمِّي ملكات العقل والذهن عبر التعميم والتجريد والشموليَّة، لذا فهي عنصر جوهري في تكوين الفيلسوف الملك حيث تنقله من عالم التغيّر والصيرورة إلى عالم الثبات عبر تحريره من الحسِّ المشترك.
كما لا ننسى الإشارة هنا إلى أن أفلاطون رغم إعلانه في باب أكاديميته “لا يدخل علينا إلا من كان رياضيًّا”، فهو ليس رياضيا بالدرجة الأولى، فلم يترك لنا نظريَّة في الرياضيات، بل جعل من الرياضيات وسيلة لبلوغ غاية الفلسفة.
كما جعل من علم الفلك أيضا علما رياضيًّا، لأنَّه يهتمّ بدراسة حركة النجوم والأفلاك والكواكب السماويَّة، وبالتالي يهتمّ بحقيقة الهناك في عالم المعقول وليس الهنا في العالم المحسوس.
المرحلة الثالثة والأخيرة: الموافقة للتعليم العالي.
وهي المحدَّدة في سن 30 فما فوق، وهي مرحلة نهائيَّة جد حاسمة لكونها انتقائيَّة.
تجدر الإشارة هنا، أنَّ أفلاطون يشدِّد على وضع الحراس منذ نعومة أظافرهم إلى الشيخوخة في رقابة صارمة جداً ودقيقة ومنظَّمة بدقَّة.
تعليم الحراس تحمُّل الشدائد والتسميق الرياضي والنظر الفلسفي وحسن الخلق والسلوك، ومدى الوفاء والإخلاص للنفس والوطن.
يجب على الفرد أن يكون على رجاحة العقل منضبطًا وحكيمًا وسديد الرأي، حيث نختار الحارس الصالح ونستبعد الطالح منهم.
ذلك أنَّ الفيلسوف الملك المختار سيشاهد الخير الأسمى في ذاته، ويعاين سرّ الكون، فيكتشف الحقيقة العليا عن طريق الديالكتيك.
حدَّد أفلاطون سن دراسة الفلسفة في 30 سنة فما فوق، حيث تأتي دراستها بعد دراسة المرء للرياضيات والعلوم، ثم لا بد لدارسها أن يكون في قمَّة التفكير والنضوج، ليستخدم عقله بشكل كلِّي مجرَّد، حيث يحتاج أعلى درجة من التفكير والتركيز، ذلك أنَّ لدراسة الفلسفة في سنٍّ مبكِّرة أضرار جسيمة.
للعقل الخالص قدرة رهيبة على بلوغ الحقيقة بمقولاته الخاصَّة.
أسمى معرفة هي المعرفة التي يحصِّلها العقل بواسطة الديالكتيك دون مساعدة الحواسّ والعالم الخارجي.
لدراسة الفلسفة الحقَّة يجب أن يكون المرء يعيش في مرحلة نهائيَّة من حياته، حيث تكون قمَّة وتتويجًا للإعداد العلمي الطويل المدى.
دراسة الفلسفة تحتاج تكوينًا علميًّا رصينًا جدا، ونضجًا نفسيًّا وروحيًّا عميقا وتهيؤا ذهنيًّا خالصًا محضًا مجرَّدا.
يقول في السياق نفسه : “دارسو الفلسفة غير الناضجين الذين لا يعرفون إلا بعض الكلمات المرصوصة بعضها إلى جانب البعض على نحو مصطنع دون أن تجمعها وحدة طبيعيَّة [ويقصد هنا الوحدة المنطقيَّة].”(٤٩٨).
يضيف أيضًا: “من أهم الاحتياطات أن نمنعهم من دراسة الديالكتيك وهم لا يزالون في حداثة سنهم، ولعلك قد لاحظت من قبل أنَّ المراهقين الذين تذوقوا الديالكتيك لأول مرة يسيئون استعماله، ويتخذّونه ملهاة ولا يستخدمونه إلا للمغالطة، فإذا ما قام أحد بتفنيد حججهم فإنَّهم يحاكونه، ويفنِّدون حجج الآخرين على نفس النحو، شأنهم في ذلك شأن الجرو الذي يجد لذَّة في جذب كل من يقترب منه وتمزيق ملابسه” (٥٣٩).
ويضيف أخيرا قائلا : “إنَّ على الدولة أن تعامل الدراسة الفلسفيَّة بطريقة مضادَّة تماما لتلك التي تعاملنا بها الآن …، إن دارسي الفلسفة في الوقت الحالي صِبْية لم يكادوا يتجاوزون مرحلة الطفولة وهم لا يكرِّسون لها سوى الفترة السابقة على تلك المرحلة التي يمكنهم فيها كسب المال وإدارة شؤون بيت خاص بهم، وحتى أولئك الذين يشتهرون بأنَّهم أقرب الجميع إلى الروح الفلسفيَّة، يسارعون إلى الهروب من الفلسفة حالما يقتربون من أعقد أجزائها وأعني به الديالكتيك، أمَّا في حياتهم التالية، فإنَّهم يظنّون أنهم فعلوا الكثير حين يقبلون دعوة توجَّه إليهم لسماع مناقشة كهذه، إذ الفلسفة عندهم [يقصد الأطفال] ليست سوى وسيلة للتسلية فحسب.”(٤٩٨-٤٤٧).
نشير هنا أخيرا إلى أنَّ أفلاطون ينتقد وبشدة تدريس وتعليم الفلسفة للأطفال.
لكن هل يمكن تدريس وتعليم التفلسف لهم؟ هذا ما يدافع عنه أصحاب تدريس الفلسفة للأطفال ولهم حججهم في ذلك.
_______
المصادر المعتمد عليها :
- Platon, La République,introduction, traduction et notes de Georges Leroux, Paris, Flammarion.
- جمهوريَّة أفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، راجعها على الأصل اليوناني الدكتور محمد سليم سالم، ٢٠٠٤م، الناشر دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندريَّة.
*محمد فرَّاح / قسم: فلسفة وتربية.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.