*جوهان ميشيل/ ترجمة: عبد الوهاب البراهمي.
“إذا كان من الضروري الاعتراف بإمكانيَّة ومشروعيَّة إحساس دون تأويل، وإذا أمكن لبعض التأويلات عرقلة ومنع المحسوس، فلن يقال بأن كلّ تأويل هو ما قبليا عائق أمام الإحساس. إنّ تأويليَّة لسطح الحواس، والتأويليَّة الفينومينولوجيَّة للتشكيلات، تأويليَّة وصفيَّة للمعنى الحرفي، وتأويليَّة تاريخيَّة للمعنى المجازي، هي كثرة في مناهج التأويل، تساهم في مفصلة الحواس والمعنى، والمحسوس والعقلي، الباتوس واللوغوس للصورة.
ولا يعني التجديل هنا، أنَّ المحسوس لن يُحتفظ به إلا من أجل تجاوزه بشكل أفضل إلى الذهني، بل إنَّ الانعطاف التأويلي يسمح في المقابل بزيادة الطاقة الانفعاليَّة للصورة. إنَّ المحسوس في توسّطه يكون بالتأكيد، قد فقد مباشريته الأولى، لكنه يكون قد اغتنى في كثافته”. ج.ميشيل.
*****
التأويلية وإستيتيقا الرائع
[…] تفترض الإجابة عن هذين السؤالين* وضع التأويلية في مختبر استيتيقا الرائع. ألا يشهد الرائع، بوصفه ما هو، ببساطة وبصورة خالصة، عظيما، باستحالة كل فهم، وكل تعقّل وكل استعادة للمحسوس (الإحساس) في العقلي ( المعنى)؟ وسواء تعلّق باللانهائي الرياضي، أو وبالقوى الديناميكية للطبيعة، وبالقدرة الجمالية لنصّ أو لصورة، فبإمكان الرائعle sublime أن يوقّع على فشل كلّ تأويلية. هذا حقيقي، على الأقلّ من أول وهلة، إذا ما التفتنا نحو إستيتيقا بوالو Boileau (18)، في ترجمته وتعليقه على “مقالة في الرائع” المنسوبة (خطأ ) إلى المؤلف الإغريقي لونجان Longin. يترك بوالو، في معركته مع الاستيتيقا العقلانية المابعد ديكارتية التي تَرُدَّ الجميل إلى التوافق مع القواعد، وللأثر جانبا من الإلغازية التي لا يستوعبها منهج، ويحمل جانبا من اللاعقلانية والمتعذّر إدراكه. هذا رائع يُحَسُّ أكثر مّما يبرهن عليه، يكثّفه بوالو في صياغة لـعبارة “لست أدري ما يسحرنا”. ذلك أنّ” لست أدري ماذا” تعبّر فعلا عن سمة اللاتحديد للرائع الذي يمنح حضورا لمنطق الانفعالات أكثر من منطق العقل. ليس هذا الخارق للمعتاد الذي “يسرّنا ويحملنا” نتاجا، وفق بوالو، لأسلوب خطابي يغذّيه التأكيد والمبالغة. بل على العكس يمكن أن يصدمنا “مثل صاعقة” في البساطة الكبيرة لجملة أو لصورة عادية في الظاهر (على نحو “كن فيكون” في سفر التكوين).
هل ينفلت الرائع مع ذلك من نظام المعنى؟ ليس الأمر كذلك لو نظرنا إلى النصّ عن قرب. إن المفارقة هي كون الحساسية المفرطة تشهد بتجربة مافوق – حسّي، بشبه صوفي، بقدر ما ” يرفعنا الرائع أعلى تقريبا من الإله:” أن نقرّ، كما يقول بوالو، بأنّ الرائع هو اندساس في الخطاب للـ”مافوق طبيعي”، للإلهي، وللعجيب، ويعني انفتاح النص على متعالي يفيض على الكلمات، ومطابقة التجربة الجمالية بالتجربة الروحية للرّحمة“. (19) وإذا ما تعالى الرائع على اللغة، فهل هو مع ذلك خارج كلّ فهم؟ أليست التأويلية الضمنية فاعلة من حيث قدرتها على التفكيك، في الرائع، لرموز أصل المقدّس، وفي كونها تؤوّل ” السرّ الإلهي” الذي تبلور في بساطة “رائع القدماء” والذي بإمكانه تغذية فنّ وأدب المحدثين؟
إنّ إقرارا شبيها، بالرغم من ذلك، في مقابل الفروق ذات الدلالة، يفرض نفسه في التحليلية الكانطية للرائع، في فكرة العظمة أو في قوّة لا تقبل أن تقارن بأيّ قوة أخرى. غير أنّه لا يُبحث عن الرائع لدى كانط في أشياء الطبيعة أو في الفنّ، بل فينا فحسب. أليست إذن تجربة طفح débordement أو فيض للحواس sens ( الأحاسيس) وللخيال الذي يفضي إلى فائق الوصف l’ineffable واللامعقول؟ هو على خلاف ذلك تماما. يشهد الرائع بحدٍّ للحواس والتخيّل في القدرة على تمثّل شيء ما جدّ عظيم أو لامتناه، دون مقارنة ممكنة. يوضّح كانط ذلك، في نقد ملكة الحكم، حينما ندخل لأوّل مرة في كاتدرائية القديس بيار في روما : يكون الخيال وقد بلغ أقصاه، عاجزا عن تمثّل المَعْلَم ككلّ. فيم يكون الرائع إذن تعبيرا، إن لم يكن للحواس والخيال؟ إنه التعبير عن ملكتنا الفوق- حسية ( العقل)، القادرة وحدها على إنتاج الأفكار ( الكلّ، النهائي…).
“ومن هذه الزاوية، لا شيء مما قد يكون موضوع الحواس يستحق أن يوصف بالرائع. بل لأنه يوجد بالتحديد، في خيالنا جهد للتقدّم نحو اللانهائي، وفي عقلنا تجربة للكلية المطلقة المعتبرة بوصفها فكرة واقعية، فإنّ الخيال يثير فينا، بالنسبة إلى هذه الفكرة، لملكتنا على تقدير عظمة الأشياء في العلم الحسّي، الشعور بحضور ملكة فوق حسيّة فينا”. ( 20)
هذا الشعور الأخلاقي ليس إلاّ الاحترام. هو الحال مثلا في الرائع الديناميكي للطبيعة. مشهد البرق والرعد المهدّد، يردّنا بالتأكيد إلى ” صغرٍ لا يذكر”. لكن، كما يؤكّد كانط، إذا ما كنّا في أمان، فإنّ هذه الظواهر ترفع قوّة الفكر إلى كثافة خارج المعايير ” وتكشف فينا عن ملكة مقاومة من نوع آخر تمنحنا شجاعة تقدير أنفسنا بالنظر إلى عظمة الطبيعة”. (21) يحصل للفكر البشري بواسطة الرائع، وعي بالطابع الاستثنائي لوجهته ( الأخلاقية) وبسموّه حتى على الطبيعة. إلاّ أن هذه الملكة في “تقييم عظمة الأشياء في العالم الحسّي، هذا الوعي بماهيتنا الفوق – حسيّة، ليست ممكنة دون تأمل تأويلي. يجب أن تكون لنا القدرة على ردّ معنى ما يظهر في الطبيعة الحسيّة إلى اتجاه مرمانا الأساسيّ: أن نرى في العظمة الظاهرة للطبيعة علامة لعظمتنا. تدعّم تأويلية خفية إمكانية تغيير معنى ما يأتي من العالم الحسّي إلى فكرة فوق – حسيّة. وحيثما يجب على اختراق الرائع أن يجعل ما قبليا التأويلية خارج اللعبة في بحثها المتعطّس عن المعنى، تعود هنا بالذات الطريقة الملتوية بوصفها فهما لعلامات الإلهي( بوالو) أو بوصفها إبانة للفوق- حسيّ عبر عظمة الأشياء الحسيّة ( كانط). ينبثق إذن نقد استيتيقا الرائع التي تحطّم القوّة الصامتة للحسيّ، التي تجعل الطبيعة تعترف، والأثر والصورة لتجعل منها علامات لأشياء أخرى. وإذا لم توجد نظرية للرائع لدى نيتشه، فسنجد في المقابل دعوة إلى قلب للحواس، لجعلنا في وضع أفضل للاستماع ” الموسيقى الفرحة للاحتفالات الديونوزوسية، مدويّة بإيقاعات سحرية وساحرة، ومُطْلِقة ضجيجا هائلا إلى حدّ الصراخ الحادّ، لكلّ إفراط الطبيعة المبتهجة في الفرح، في الألم أو المعرفة !“.(22) ليس للمغالاة النيتشوية، في صداها الديونوزوسي، أي شيء من سموّ مثل أعلى نحو عالم فوق- حسيّ؛ بل هي لصيقة بالأرض، تعيش الجسد، بالذات لحما ودما.
نرى بوضوح هذا الإرث النيتشوي شغّالا لدى دولوز الذي يعنينا أكثر حينما يخضعه لاختبار فلسفة الفنّ. ذاك شأنه في مؤلفه حول فرنسيس بيكون (23)، حتّى لو بالارتكاز عل طريقة الفنان ذاته في التنظير لفنّه الخاص(24). فيم يمثّل الرسم في ذاته لدى بيكون ( ومفكر فيه من دولوز) تحدٍّ حقيقيّ للتأويلية؟ ليس بالتأكيد مجازيا أو رمزيا، لكنه، خلافا للفنّ التجريدي، يظلّ مرتبطا بـ” الأشكال”. وإذا ما وجدت ” الأشكال ” عند بيكون، فلا تظهر بوصفها ” تشخيصيّة” أو تصويرية، أي كنموذج للتمثّل وبوصفها تاريخا للسرد. وتبرز الصور في التشخيصي، موضوعا وتشكّل فيما بينها مجموعا مرتبطا بعملية سرديّة. بيد أنّ الرسم البيكوني لن يكون ” مجازيا” بل ” تمثّليا” figural بموجب جهاز عزل الشكل الذي يخرجه عن دائرة المنطق السردي :” العزل هو إذن أيسر السبل، وضروري وإن كان غير كاف، للقطع مع التمثّل،وتحطيم السرد، ومنع الإبانة، وتحرير الشكل: التمسّك بالحدث”. (25).هو الحال إذن حينما تعزل الأشكال من مضمار، وكرسيّ، أرجوحة، مثلا في ” اللوحة الثلاثية ” Triptyque 1970). لم يعد الرسم الحديث في حاجة أن يصير ” مجازياّ”، بحسب بيكون، لأنه يمكن، في الآن نفسه، للفتوغرافيا أن تُشغِل من هنا فصاعدا هذه الوظيفة ولأنّ المجازي أو الاستعاري كان مرتبطا في الرسم القديم بوظيفة دينيّة. يمكن للرسم المعاصر إذن أن يتحرّر من ” المجازي” ويبتكر طريقة جديدة في تدبير ” الأشكال”.
يطرح بيكون، فضلا عن مسألة السرديّ والتوضيحيّ، تحدّ ثان على التأويلية بموجب موقع ” الإحساس” في أعماله. يفترض أن تؤثّر الأشكال مباشرة على الجهاز العصبي، والتأثير مباشرة على الحواسّ، على نحو أخذ المحسوس بثأره من المعقول، المحسوس الحركي من المعنى – الدلالي. يمكن لمنطق الإحساس وحده أن يمسك ” المجازي ” في الصور. يتعلّق الأمر باستخراج المعاني أقلّ من التقاط القوى، وخاصّة فعل القوى اللامرئية ( الضغط والعطالة والجذب والجاذبية…) على الأجسام؛ مثلما نرى ذلك في الأثر الفني، في دراسته من خلال لوحة البابا البريء س ( 1953):
ف. بيكون عن لوحة البابا البريء “س” فاليسكاز ( 1953 )
إن فَمَ البابا وهو يصرخ هو نتاج ” القوى اللامرئيّة” ( الجاذبية)، وهو مرموز إليه بحقل خطوط كثافتها عمودية، تمارس ضغطا شديدا على الشخصية، وبالنقاط المتراصّة للحفاظ على الجذب، وأسفل الجسم مستوحى من نقاط تلاشي تبدو فائضة عن اللوحة. يستخلص دولوز انطلاقا من بيكون استنتاجا لا ينطبق فحسب على الرسم، بل على “مجموعة الفنون”:
“لا يتعلّق الأمر في فنّ الرسم كما في الموسيقى بإعادة إنتاج أو اختراع أشكال، بل التقاط قُوَى. بل إنّه هنا لا يوجد فنّ تشخيصيّ. والعبارة الشهيرة لبول كلي ” ليس ردّ المرئي، بل جعله مرئيا ” لا تعني شيئا غير هذا. تتحدّد مهمّة الرسم بوصفها محاولة لجعل قوى غير مرئية، مرئيّة(26) (جيل دولوز (1995) عن فرنسيس بيكون، ص 57.).”
هنا نلمس أكثر أثر نيتشه على دولوز :جعل القوى تتحرّك في مواجهة الشكل، والمحسوس ضد الفكري، والإحساس ضدّ التجريد.
يمكن أن نفهم، وفي موروث مماثل، لكنه يحمل نفسا مضادا للتأويلية أكثر وضوح أيضا، دعوى سوزان سونتاغ ضد التأويل والدفاع المتصل بالإحساس، في مقال حدث. (27) فلا يمكننا بالتأكيد أن نُركّب تماما هذه الأنماط للتحليل على أنماط تحليل دولوز من حيث أنها تفترض، بصورة مدهشة، ” الشكل” في دلالته الجمالية (التي تحيل في معناها إلى الإحساس ولا إلى ” الفكرة” ) و” محتوى” ( الذي يحيل إلى المعنى، إلى ” الرسالة” )، أثرا فنّيا. إنّ فلسفة الفن الغربية آثمة إذن بإقرارها أولوية تعقليّةntellectualisante، تنسبها منذ أفلاطون وأرسطو، إلى “المحتوى” على حساب ” الشكل”. ويعترف سونتاج Sontag بالتأكيد بفضل التأويلية الفلسفية للقدماء، خاصّة مدرسة الإسكندرية، طالما أنها تسمح بانفتاح النصّ الكلاسيكي على مكاسب جديدة. فيكون التأويل ضمن هذا السياق الثقافي، عملا تحرّريا. فهو وسيلة للمراجعة والتخلص من الماضي الميّت. لكن، ستصبح التأويلية، مع الحدثيين، مشروعا ” محافظا”، اختزاليا، “خانقا” ( منغِّصا)، خاصّة انطلاقا من ماركس وفرويد. فالبحث عن محتوى معنى خفيّ يقوم على أساس كرهٍ ” للأشكال” الجمالية، في نسيان للحواسّ، وعلى حساب ” الطاقة والقدرة الحسيّة” ( 28). يلتحق سونتاج بوضوح بالنداء الدولوزي والبيكوني بتفضيل فنٍّ يقدر على التأثير مباشرة على جهازنا العصبي، ويضاف إليه البعد الإيروسي، في ” مباشرية خالصة، يتعذّر ترجمتها، وعلى نحو ما حسيّة “. (29)، من أجل رؤية أفضل، واستماع أفضل وإحساس أفضل. إنّ حكمه، سنوتاج، إذن جازم:” بدل تأويلية لابد أن توجد إيروسية للفنّ”. (30)
إن سونتاج على حقّ في تحديد الاستعمالات السيئة غير المراقبة للتأويلية التي شاعت في عصور أكثر من أخرى، والتي تموّه اصطناعيا معاني خفيّة، إلى حدّ العمى عن رؤية الصور. هل يجب مع ذلك استبعاد كلّ تأولية؟ هل مازال للتأويلية ما تقوله عن صورة لا مجازية، لا سردية، وخالصة الكثافة؟ توجد تأويلية بالتأكيد خارج اللعبة، على الأقلّ في أحد استتباعاتها التي تتعلق بالمجازات والرموز، وباختصار، بالبحث في معنى مخفيّ. إضافة إلى أن بعض لوحات بيكون بدءا بلوحة ” دراسة انطلاقا من لوحة البابا البريء س” فالفاسكاز، تحيل إلى إيقونغرافيا تصويرية يمكن أن تكون موضوعا لتأويل عالمٍ érudite، دون الحديث عن تأثير سوزان الكبير وهوس بيكون بأشكال الجثث والمجزرة التي لا يمكن أن نمنع أنفسنا عن ترديد صداها، مثل ” أعمال باقية”، مع ” البقرة المسلوخة” (1655) لرامبرند أو ” الثور ورأس العجل” 51925) لسوتين Soutine.هذه ” الصيغة للباثوس” يمكن أن تصنع سعادة الإيقونغرافيا.
يمكن أن نقول الكثير عن بعض اللوحات التجريدية، التي لا تحيل فحسب إلى ذاتها، بل يمكن أيضا أن تحمل دوافع ” بقائها”. لنفكّر في الألوان الموحّدة لإيف كلاين’Yves Klein والتي يذكّرنا فيها الأزرق” الخالص ” بسماء بعض اللوحات لجيوتو Giotto، والتي لا تخلو دلالتها من ” روحانية” : الأزرق المكثّف بوصفه علامة حسيّة عن العالم اللامرئيّ. ولا يتعلّق الأمر فحسب بالتقاط الصور، بل بالارتفاع من خلالها إلى عوالم معنى. إنها مفارقة التجريدي، اللاتشخيصي واللاسردي، الذي يبدو الأكثر استعصاء على التأويلية المجازية والحرفيّة، لكنه يستدعي، أكثر من غيره من الفنون، بحثا عن معنى طالما كان إدراكه المباشر معلّقا:
“توجد قليل من اللوحات التي علقنا عليها كثيرا كلوحة” المربعّ الأبيض على أرضية بيضاء” الشهيرة، التي عرضها مالفيتش Malevitch في ديسمبر 1918 في الصالون الثاني للدولة في موسكو. هكذا تكون لوحة، ليست مع ذلك سوى” مساحة مسطحة مغطاة بالألوان ” ( الجمع” ألوان في نظام تجميع”، وفق تعريف دونيس Denis، ليست هنا ضروريا حتّى ) لوحة ليستبالرغم من ذلك خالية من المعنى، وتَحْمِل على التأويل”. (31)
من الضروري مع ذلك، الاعتراف بأنّ التأثيرات التي تحدثها الصور، دون أن تكون بالضرورة ” مثيرة” « sensationnelles »، يمكن أن يكون فعلا مباشر على الجهاز الحسّي، دون القدرة على أن تكون مترجمة في معاني، ودن إمكانية ” بديل” في الفهم، فيما يسمّيه باتاي Bataille “استخدام صرف” (32)، ويسميّه داريدا بعده ” هيجلية دون تكليف”(33). وفي هذه الحالة، فإنّ المحسوس ليس محفوظا ومتجاوز من الذهني. تقلب الصورة كثيرا المحسوس وتترك المعنى معلّقا. هنا نهاية التأويلية، كل تأويلية في ادعاءها الهيجلي تحويل كلّ علاقة قوّة إلى علاقة معنى، والسموّ بالباتوس إلى لوغوس. أي حدّا للتأويلية يحملنا على الاعتراف بوجود شيء ما في سلطة الصورة، يمرّ مباشرة من جسد إلى جسد، ويظلّ في دائرة المحسوس، ويجعلنا حرفيا بلا صوت. فحتى بول ريكور بوصفه تأويليا هو مهيأ لقبول ذلك، في “محاولته عن فرويد “، في خصوص قوّة الرغبة :” ربما في موقع الرغبة ذاتها تكمن إمكانية المرور من القوّة إلى اللغة، ولكن أيضا استحالة استعادة تامّة للقوّة في اللغة“. (34)” استحالة استعادة تامة…”، إذن إمكانية ” طاقاتية” دون ” تأويلية”، أليست في حدّ ذاتها ثغرة، ونقيصة، ونقصانا. إنها كذلك من منظور داخلي للتأويلية في بحثها الدائب عن المعنى. لكنها تفتح في ذات الوقت الطريق إلى أحساس دون تأويل، ليس بلا علامة، والذي يكون ” نحوه ” « grammaire » أو منطقه انفعالي وتحت مقالي. affective et infradiscursive. يسمّيه دولوز مع بيكون ” منطق الإحساس”« logique de la sensation » ، ويسميه سونتاج،” إيروسي”.
ليس الاعتراف بحدود للتأويلية رفضها. فليست هي كذلك بموجب، مثلما يلاحظ ذلك بول ريكور، إمكانية مرور بعض الانفعالات إلى الخطاب، عن طريق وساطة تأويلية. لكن، وخلافا لتأكيدات سونتاج، ليست كل تأويلية، تأويلية أعماق ( بحثا عن معنى خفيّ) أو تعقلّية.
وإذا كان من الضروري الاعتراف بإمكانية ومشروعية إحساس دون تأويل، وإذا آمكن لبعض التأويلات عرقلة ومنع المحسوس، فلن يقال بأن كلّ تأويل هو ما قبليا عائقا أمام الإحساس. إنّ تأويلية لسطح الحواس، التأويلية الفينومينولوجية للتشكيلات، تأويلية وصفية للمعنى الحرفي، وتأويلية تاريخية للمعنى المجازي، هي كثرة في مناهج التأويل، تساهم في مفصلة الحواس والمعنى، والمحسوس والعقلي، الباتوس واللوغوس للصورة.
إن التجديل لا يعني هنا أن المحسوس لن يحتفظ به إلا من أجل تجاوزه بشكل أفضل إلى ذهني، بل إنّ الانعطاف التأويلي يسمح في المقابل بزيادة الطاقة الانفعالية للصورة. إن المحسوس في توسّطه يكون بالتأكيد، قد فقد مباشريته الأولى، لكنه يكون قد غنم في كثافته.”
– هوامش:
* يتعلّق الأمر بالأسئلة التالية :[هل يؤدّي مع ذلك، وضع الإيقونولجيا خارج الدائرة، من طبقات كاملة من تاريخ الفنّ، بالتأويلية إلى الفشل؟ هل للتأويلية، بما هي في البدء وليدة النصوص، منابعَ لتأويل صورة متمرّدة على كلّ تاريخ، لا بل على كلّ مجاز، صورة لا يمكن أن تكون منصّصة textualisée؟ هل يمكن في نفس الوقت، لتأويلية، مُبرّرُ وجودها، البحث عن المعنى، وأن تساهم في التقاط القوى الحسيّة للصورة، دون أن تتعرّض لذمّ الفكرانية l’intellectualisme؟]
18- نيكولا بوالو 1966 مقالة في الرائع تمهيد، باريس بال لاتر.
19- طوني قريرات 2020،”الفنالشعري، مقالة في الرائع ” كنش الفرضيات : بوالو، غيرالخاضع.
20- كانط 1985 نقد ملكة الحكم باريس غاليمار ص 189-190.
21- كانط، نفس المصدر ص 203.
22- نيتشه 1977 ميلاد الترجيديا باريس غاليمار ص 40.
23- جيل دولوز 2022 فرنسيس بيكون ” منطق الإحساس” باريس سوي
24- دولوز “1995، فن المستحيل، محادثات مع دافقيد سلفاستر باريس نشر البار سكيرة.
25- جيل دولوز، فرنسيس بيكون ” منطق الإحساس” باريس سوي ص 12
26- نفس المصدر، ص 57.
27- سيزان سانتاغ ” استئناف التأويل” بيغان كلاسيك 2009.
28- نفس المصدر ص 4
29- نفس المصدر ص 6.
30- نفس المصدر ص 10.
31- جاك داريللا ” تأملات في المنهج الإيقونولوجي لتاويل الأثر الفنّي” 2007.
32- جورج باتاي 1967، الجزء الملعون باريس نشر مينوي.
33- داريدا 2014، الكتابة والاختلاف. باريس نشر سوي.
34- ريكور، 1965، في التاويل محاولة عن فرويد، باريس، نشرسوي، ص 79.
.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.