لقد راهنت الشركات المنتجة لفيلم الخيال العلمي Dune Part Two على اكتساح شاشة السينما العالميَّة لسنة 2024 بهذا الأخير وهذا الذي حدث بالفعل (منذ عرضه في شهر جانفي لم يغادر قائمة IMDP لأفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما، نقاط تقييم مرتفعة سواء من النقاد أو الجماهير، تحقيقه لحد الآن إيرادات خياليَّة فاقت 630 مليون دولار)، ومن هنا نفهم مغامرة هذه الشركات بإنفاق ميزانيَّة ضخمة لإنتاجه (199 مليون دولار)، وكذلك حرصها على توظيف ممثلين عالميين مثل ديف باتيستا، جوش برولين، ربيكا فريغسون، أنيا تايلور، كريستوفر واكن، جوش برولين …الخ، ولكن المتابع للفيلم سيرى أن القصة بسيطة، مجموعة بشريَّة مستضعفة تعيش بكوكب ذي طبيعة صحراويَّة، يتعرَّضون للغزو والاحتلال من قوم آخرين أكثر منهم قوَّة وسلاحاً وتكنولوجيا، ما يجعلهم يضطرُّون لخوض حرب العصابات من أجل البقاء، فما الذي جعل شركات كبيرة تراهن بل تريد إنجاحه بهكذا استثمار مالي ضخم مقارنة رغم قصته المتواضعة (مألوفة عند الجميع وليس فيها إبداع)؟
أكيد أنّ من شاهد الفيلم انتبه إلى أنّ البطل الذي قاد القوم الضعفاء إلى الانتصار في الأخير كان منتظراً مجيئه عندهم في شكل نبوءة دينيَّة، ولقبه “المهدي المنتظر” (تمّ استخدام هذا المصطلح العربي في الفيلم رغم أن لغة هؤلاء القوم في الفيلم مختلفة عن لغات شعوب كوكب الأرض)، فهل كل هذا محض صدفة؟ أم أنّ وراء هذا التمويل الضخم لإنتاج الفيلم والترويج له وجعله عالمياً شيء في نفس يعقوب؟
تعتبر فكرة “المهدي المنتظر” من العقائد الراسخة عند غالبيَّة المسلمين، سنة وشيعة (الفرق بينهما في التفاصيل كزمن ظهوره وليس في جوهر الفكرة)، وأيَّة نظرة إبستمولوجيَّة لهذه الفكرة ستوضح مدى ارتباطها بتلك الحروب والصراعات التي وقعت بين المسلمين وعلى إثرها نشأت الكثير من الفِرق والمذاهب الإسلاميَّة، كل فرقة تبحث عما يبرّر موقفها من النصوص الدينيَّة، وهكذا نضجت عقيدة المهدي المنتظر عند العلويين في ظلّ الدولتين الأمويَّة والعباسيَّة نظراً لممارستهما العنف والاستبداد ضد كل المعارضين، فكانت فكرة ظهور المهدي الذي سينصره الله على الظالمين هي أمل المظلومين، بل وهي التي أسقطت دولاً وأقامت أخرى لأنّها كانت وراء اندلاع الثورات وعقد العزم وبث الروح في النفوس، فقد انهارت الدولة الأمويَّة أمام العباسيين الرافعين لراية آل البيت وحقهم في الولاية، ثمَّ كادت أن تنهار الدولة العباسيَّة نتيجة ثورة العلويين عليها تحت قيادة محمد النفس الزكيَّة (المهدي المنتظر)، ثم ظهر مهدياً آخر لم يستطع الخليفة العباسي المكتفي الظفر به، وجد أنصاراً آمنوا به في شمال إفريقيا (شرق الجزائر) وهكذا انتصر عسكرياً على الأغالبة وأقام الدولة الفاطميَّة (بنى عاصمة له في تونس اسمها المهديَّة) قبل أن ينقلها من جاء بعده إلى مصر (القاهرة)، دولة الموحّدين التي شملت كل بلاد شمال إفريقيا وامتدت إلى داخل الأندلس تأسّست أيضاً على هذه العقيدة حيث قاد ابن تومرت ثورته العسكريَّة ضدّ المرابطين تحت عمامة المهدي المنتظر وكراماته الربانيَّة … الخ.
في عصرنا، بقي كذلك تأثير هذه العقيدة في تفكير المسلمين وتوجهاتهم وسلوكياتهم بالغاً، فعلى سبيل المثال، أمام الغزو الأوروبي لكثير من الدول الإسلاميَّة (إفريقيا وآسيا) ونظراً للفرق الشاسع بين الطرفين من حيث المال والسلاح من جهة، انتهاج سياسة البطش والإبادة والتفقير والظلم من طرف الاحتلال الأوروبي من جهة أخرى، لم تجد هذه الشعوب المكلومة العزاء والأمل سوى في انتظار شخص موعود إلهياً بنصرة الحق على الباطل، الإيمان على الكفر، سينقذهم ويخلصهم من هؤلاء الأعداء الأجانب، وهكذا كان كل زعيم لثورة مسلحة ضد جيش الاستعمار إلا ويُعتبر المهدي المخلّص (تُحاط به الكثير من السرديات والأساطير)، فمثلا في ليبيا بعض مشايخ السنوسيَّة ادعوا المهدويَّة في حربهم ضد الاحتلال الايطالي، وفي الجزائر نفس الشيء ضد الفرنسيين (ثورة محمد بن عبد الله، ثورة بومعزة، ثورة بوبغلة، ثورة بوسيف، ثورة بوعمود …)، أما في آسيا فعلى سبيل المثال لا الحصر، ادعاء ميرزا المهدويَّة بالهند أثناء الاحتلال البريطاني (مؤسس الأحمديَّة)، أما ما حدث في إيران من إسقاط لنظام الشاه وتحوّل السلطة إلى نظام ولاية الفقيه فليس عنا ببعيد (ثورة دينيَّة قادها الخميني زاعماً أنه نائب الإمام المهدي المنتظر الحيّ والذي يكلّمه من غيبته الكبرى).
إذن فكرة المهداويَّة باختصار هي آخر ورقة تستخدمها الطائفة الضعيفة المنهزمة ضدّ من هزمها، حيث تبقى تتوعَّد المنتصر بيوم موعود، كما تحافظ على معنويات أتباعها عن طريق تبشيرهم بظهور المهدي الذي يقيم العدل ويأخذ الحقّ ممَّن ظلمهم وأنّ هذا وعد من الله وجب تصديقه.
قلت في البداية أنّ غالبيَّة المسلمين يؤمنون بهذه العقيدة ولكن ليس كلّهم، فمثلاّ المعتزلة يرفضون بناء العقيدة على خبر الآحاد، ولهذا لا يؤمنون بهكذا أخبار غيبيَّة، بل ذهب بعضهم إلى كشف زيفها وتهافتها، فها هو القاضي عبد الجبار (الخبير بالأديان والملل) يرى أنها فكرة مجوسيَّة كانت رائجة في بلاد فارس قبل ظهور الإسلام، حيث آمن المجوس بوجود المنتظر وهو حيّ بين خراسان والصين،[1] فهل من باب الصدفة أنّ منطقة ظهور مهدي المجوس هي نفسها منطقة ظهور مهدي المسلمين (“إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها ولو حبواً، فإن فيها خليفة الله المهدي” رواه الحاكم في المستدرك).
ابن خلدون في كتابه “المقدمة” انتقد بشدّة نظريَّة المهدي المنتظر وكشف تهافتها سنداً ومتناً مستخدماً منهج المحدّثين وقواعدهم في التعامل مع الأحاديث النبويَّة، وقال صراحة إنّها خرافة وكارثة على العقل المسلم.
كثير من علماء الإسلام المعاصرين رفضوا أيضاً هذه الفكرة وردّوها، مثل الشيخ محمد عبده ضمنياً والشيخ محمد رشيد رضا بشكل صريح في تفسير المنال وبعض مقالاته في مجلة المنار، الشيخ شلتوت … أما في المدرسة الحداثيَّة (من طه حسين إلى اليوم) فقد تمّ أصلاً تجاوز مناقشة مثل هذه المواضيع.
الآن نعود لفيلمنا الأمريكي العالمي ونتساءل لماذا تمّ إقحام المهدي المنتظر فيه كشخصيَّة بطلة؟
اعتقد أنَّ الإجابة من الأفضل أن تكون بمقارنة هذه النبوءة الإسلاميَّة بنبوءة أخرى مشهورة باسم “معركة هرمجدون”، أو “معركة آخر الزمان”، أو “الملحمة الكبرى”، وملخَّصها نشوب حرب كبيرة بين أهل الحقِّ والباطل في فلسطين مع اقتراب نهاية العالم وقيام الساعة.
خلال العشرين سنة الأخيرة، الكثير من الأفلام الأمريكيَّة روجّت لهذه القصة، وبلا أدنى شكّ تحت تمويل شركات صهيونيَّة، حيث يزعم اليهود أن نبوءة سفر الرؤيا 16 تتحدَّث عن معركة كبيرة بينهم وبين غير المؤمنين، وستقع عند جبل مجدون بفلسطين، وحينها سيظهر المسيح المنتظر ومعه الملائكة وسيحقّقون النصر ويقيمون العدل وملكوت الله على الأرض، يشاركهم نفس هذا المعتقد أتباع المسيحيَّة البروتستانتيَّة وخاصة الإنجليكانيَّة والفالكانيَّة، ولهذا يساعدون اليهود في حربهم ضد الفلسطينيّين إيماناّ منهم في نزول المسيح، ولكن المشكل أنّ المسلمين تلقَّفوا الفكرة كما هي وراحوا يبحثون في كتب الأحاديث والتفاسير وقالوا فعلاً هذه المعركة ستقع مستقبلاً وقد وجدناها في ديننا ولكن سيكون المسيح في صفنا مع المهدي ونحن من سينتصر عليكم، يعني بتعبير آخر، الصهاينة يعرفون جيداً أن هذه مجرد ميثولوجيا وأساطير ولكنهم خلقوا لأنفسهم التبرير لشرعنة الحرب في فلسطين ومن معتقدات المسلمين أنفسهم (جعلها حتميَّة دينيَّة).
الراحج أنّ نفس السيناريو يتكرَّر بإعادة الترويج لعقيدة المهدي المنتظر والغريب من دون حتى التمويه، ترك لقبه باللغة العربيَّة، تصويره صاحب كرامات (يشرب السمّ ولا يموت، يتحكَّم في حيوانات ومخلوقات شرسة، والدته مؤمنة جدا …)، تصويره مع قومه في بيئة صحراويَّة شبه عربيَّة (تصوير الفيلم في الأردن)، تصوير قومه من أهل الدين والالتزام والإيمان بالنصر الإلهي، فقراء ومظلومين، تصوير الأعداء من الأشرار وأصحاب القوّة والأسلحة الفتاكّة والمتطّورة … وطبعاً في الأخير هو من سيحقّق النصر لقومه (انتصار المؤمنين على الكفار رغم الفرق بينهما في العلم والتكنولوجيا والسلاح)، بتعبير آخر، عند الغرب رغبة في بقاء المسلمين على الكثير من هكذا معتقدات (انتظار المنقذ المؤيد من السّماء لتحقيق النصر) ومن أفضل الطرق لفعل هذا، عالم السينما نظراً لما تتركه الأفلام من أثر في العقل الباطن، وبالمناسبة فإنّ مخرج هذا الفيلم انتهى من كتابة الجزء الثالث منه بعنوان DUNE MESSIAHوسيتّم تصويره خلال الأشهر المقبلة ولكم واسع النظر.
سيأتي من يقول بصعوبة (ربمّا استحالة) ردّ عقيدة المهدي المنتظر أو نقدها في الوسط الإسلامي لأنّ الكثير من العقائد الأخرى مرتبطة بها، كما أنّها من أصول الدين في بعض المذاهب الإسلاميَّة (الشيعة)، ولهذا ليس المطلوب النقد بمعنى النسف والإقصاء كما يتصّور البعض، وإنّما المطلوب “عقلنة الخطاب الدين” حتى نستطيع التصالح مع الواقع بعصرنته وحداثته ولا يبقى مصيرنا مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالسحر والمعجزة.
[1] القاضي عبد الجبار، دلائل النبوة. ص 01/179
______
العفيفي فيصل، أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في أصول الدين، جامعة تلمسان – الجزائر .