كِتَابُ “العفن” أراد الفيلسوف والمفكِّر الجزائري مالك بن نبي أن يكون شهادة يتركها لهذا الجيل والذي يأتي بعدهُ خاصة للذين لهم قابليَّة للاستعمار وبخاصَّة الإنسان الأهليindigène الذي هو إنتاجٌ استعماريٌّ أي من صنع الاستعمار كما يقول هو.
حاول مالك بن نبي في كتابه رفع الستار على المأساة الفكريَّة والماديَّة باعتبارهم المنشطين الفعليين لها، كشف فيه زاوية من المأساة تبيِّن العيوب الدقيقة للقابليَّة للاستعمار والأهداف المرسومة له، لقد عاش مالك بن نبي مراحل المأساة الأولى كطالب من 1931 إلى 1936 وحياته كمنبوذ هائم على وجهه، وتمتدّ من 1936 إلى 1954، وحياته ككاتب تمتد من 1946 إلى غاية وفاته.
وكتاب “العفن” هو الجزء الثاني لمذكرات “شاهد على القرن” أراد فيه مالك بن نبي أن يرفع اللبس عن بعض القضايا والمسائل التي ظلَّت مدفونة حتى لا تنكشف الحقائق، أراد لها البعض أن تظلَّ كذلك، كما يأتي هذا الكتاب ردًّا على الذين أرادوا أن يلصقوا بمالك بن نبي تهمة “التمسيح”، ففي الصفحات الأولى من الكتاب يتحدَّث مالك بن نبي عن مجموعة تنصَّرت وأخرى تفرنست من أجل الفوز بمنصب الوالي ومنهم حسين لحمق الذي نشر كتابه المعروف بـ: “رسائل جزائريَّة” lettres algérienne سنة 1931 وتولَّى الآباء البيض طبعه للترويج له، وكان عملا موجها ضدّ الإسلام ( ص20)، ويقال إن حسين لحمق (مرتد) في كتابه، قال إنَّ الإسلام فرض على الجزائريين فرضا، كما تحدث مالك بن نبي عن علاقة محمد الفاسي ببن غبريط عميد مسجد باريس في الثلاثينيات من القرن الماضي ثم مع ماسينيون، كما يذكر أحد الجزائريين اسمه عبد الجليل الذي كان يحرص على حضور حلقات تكوينيَّة في الدين المسيحي وبأمر من ماسينيون حتى أ صبح يلقب بـ: الأب عبد الجليل.
يكشف مالك بن نبي مدى عداء ماسينيون له وكذلك بومنجل، وكان هذا الأخير ينتقد بشدة المحاضرات التي يلقيها مالك بن نبي بجمعيَّة الطلبة، خاصَّة المحاضرة التي ألقاها بعنوان: ” لماذا نحن عرب؟” في نادي اتِّحاد الشباب المسيحيين، لم تكن لمالك بن نبي قابليَّة لاعتناق المسيحيَّة كما فعل الآخرون، بل كان يشكِّل خطرًا على الشباب النصارى وكان يوضح لهم أنَّ الإسلام لا علاقة له بإسلام الأندجيين “الأهالي”، نقرأ ذلك من خلال حديثه عن معاشرته للشباب المسيحيِّين أن مالك بن نبي يؤمن بفكرة التعايش بين الأديان والتقرُّب منهم لنصحهم، خاصَّة وأنَّ الإدارة الفرنسيَّة كانت تسع لتقسيم طلبة شمال افريقيا وتضع كل جماعة في مكان معيَّن، إلا أنَّه وصديقه حمودة بن ساعي تمكَّنا من إحباط المؤامرات التي كانت تخطِّط لها الإدارة الفرنسيَّة لتنصير أبناء شمال افريقيا والترويج لمذهب “الغودينيَّة”le godinisme وهي نسبة إلى غودان goden في الوقت الذي كان فيه بومنجل ينشر اشتراكيَّة بلوم والنزعة القبائليَّة.
يلاحظ أنَّ مالك بن نبي في كتابه العفن يكثر الحديث عن ماسينيون، لأن هذا الأخير كان يؤيِّد الحرف العربي، كان ذكره لماسينيون أكثر من ذكره لصديقه محمد بن الساعي الذي كان هو الآخر يلقي محاضرات باللغة العربيَّة بنادي الترقي، كان مالك بن نبي يشعر بالإحباط، لأنَّ النخبة المسلمة خيّبت آماله ماعدا شخصان مسلمان على غرار السوري فريد زين الدين والمصري القبطي فريد صليب وكان الثلاثة أعضاء في جمعيَّة الجامعة العربيَّة التي أسَّسها فريد زين الدين، ما دفعه إلى اكتساب وعي بالروح المسيحيَّة في نادي اتِّحاد الشباب المسيحيِّين واعترافه بتأخُّر المجتمع الإسلامي، وهي الأسباب التي دفعت بالبعض إلى التشكيك في دينه، حسب مالك بن نبي كان وعيًا مزدوجًا بين الروح الإسلاميَّة والروح المسيحيَّة، وهذا التزاوج أحدث تأثيرًا خاصًّا على طباعه ( ص41)، ربما يقول قائل إن مالك بن نبي كانت له مساعٍ للتحوُّل إلى الديانة المسيحيَّة بمجرد أن يقرأ هذه العبارات، خاصَّة الذين قرأوا كتابه، لكن مالك بن نبي كان يسعى إلى إيصال الفكر الإسلامي لدى الشباب المسيحيين في إطار حوار الأديان، ففيما كتبه مالك بن نبي أنَّه كان يريد استيعاب العالم الغربي والتعرُّف على القيم الروحيَّة المسيحيَّة وهي عادة الباحثين الملتزمين بقضايا العصر، فمالك بن نبي كان منبهرًا بالروح العلميَّة التي كان يتمتَّع بها المثقف الأوروبي، مدركًا أنَّ هذه الروح العلميَّة لم ينتبه لها أحد من غالبيَّة الطلبة المسلمين ( ص42).
ولإنقاذ الطلبة المسلمين وبخاصَّة الجزائريين من التعسُّف الإداري لفصلهم من جمعيَّة شمال افريقيا، أنشأ مالك بن نبي “النادي المتوسطي” cercle méditerranéen وهي حركة انفصاليَّة كان ينشطها عمار نارون وقد لقي هذا الأخير معارضة من قبل بومنجل، والملاحظ كذلك أنَّ حياة مالك بن نبي تميَّزت بالترحال من مكان إلى آخر، إلا أنَّه كما يبدو كان متأثِّرًا جدا بالحي اللاتيني، فكثيرًا ما كان يذهب إلى مقهى الهقار الواقع بالحي اللاتيني رغم ما يجد فيه من تناقضات الحياة الجزائريَّة وعفويتها، ووجه الإنسان القادم من شمال افريقيا الذي يستسلم لريح الحياة على الطريقة الباريسيَّة، وكان النقاش محتدمًا عن قدوم فدراليَّة منتخبي قسنطينة بقيادة رئيسها بن جلول، من هنا ندرك أنَّ حياة مالك بن نبي كانت دعوة إلى الإسلام والقيم الإسلاميَّة حتى لا ينجرف الطلبة المسلمون في شمال افريقيا وراء التيار التغريبي، فقد كان يستعرض الإسلام كلَّما التقى بالشباب المسيحي.
وننتقل إلى الصفحة 76 من كتاب العفن، حيث نقرأ عن الصراع بين مالك بن نبي والشيخ العربي التبسي، كان العربي التبسي غالبًا ما ينتقد مالك بن نبي ويعاتبه كلَّما شكَّك مالك بن نبي في إمكانيات بن جلول، الذي كان من أكبر دعاة الاندماج، وكان كثير التصدِّي لحركة الإصلاح، ويقول إنَّ إنشاء بن جلول فدراليَّة المنتخبين كانت بمثابة دفن السلفيَّة، ثم أنَّ مالك بن نبي كان أول من طرح مشكلة الثقافة في الجزائر، وهذا سبب كافٍ لنشوء الصراع بينه وبين بن جلول خاصَّة في مسألة التدريس، فوجهة بن جليل كانت تصبُّ في خانة مصالح الإدارة الفرنسيَّة، وكيف رفضت صحيفة الدفاع la défense نشر مقال مالك بن نبي بخصوص هذه المسألة، أن لا شك الخلافات بين بن جلول ومالك بن نبي هو موقفه من مصالي الحاج حيث كان يرى أنَّه أقل خطرا على “البنجلوليَّة” التي تجلَّت روحها المجافية للإسلام، إنَّ هذا الموقف يعيدنا إلى ما جاء في التوطئة، حيث تمَّت الإشارة إلى أنَّ الأهالي نوعان: صنف الخونة الواضحين ومن بينهم الدكتور بن جلول، وصنف يقتات من أموال الاستعمار ومن ازدراء الشعب، وصنَّف الخونة المترفين الذين يعيشون من أموال الشعب باستغلال جهله.
أما عن مصالي الحاج يرى مالك بن نبي أنَّه أقل خطرا، بحيث لم يقطع به صلته، لأن مصالي لم يكن يرفض أي تدخل لمساعدة أبناء الجزائر وكان دوما يستقبل الطلبة ولم يكن متشدِّدًا في كثير من المسائل، أما بالنسبة لفرحات عباس كان مالك بن نبي يغتاظ منه خاصَّة بعد نشر مقاله في جريدة الزمن le temps الفرنسيَّة بعنوان: “فرنسا هي أنا” واعتبره مقالا سافلا (ص97)، يشير مالك بن نبي أن سنة 1936 شكَّلت في الجزائر منعطفا، فقد كانت فرنسا تعتبر الجزائريين منبوذين لدرجة أنَّ محمد بن ساعي عاد إلى الجزائر دون شهادة الدكتوراه من جامعة السربون، يقول مالك بن نبي، إن ماسينيون كان وراء هذه الإقصاءات(ص 110 هامش)، الواقع فقد واجه الطلبة الجزائريُّون صعوبات وعراقيل حتى مع إخوانهم في الدين، نقرأ ذلك في محور خاص عنونه بـ: “المنبوذين” كان ماسينيون يقف حاجزًا بينهم، وكانت السلطات الاستعماريَّة ترفض تشغيل حاملي الشهادات من أجل إذلالهم وبالتالي يقبلون بالأعمال الشاقَّة كما حدث مع المهندس صالح بن ساعي شقيق حمودة (محمد) بن ساعي.
فقد عمل صالح بن ساعي حمّالًا في محطَّة ليون للقطار من أجل لقمة العيش (ص115)، هكذا كان الصراع الفكري الرهيب الذي كان يحاك ضدّ الجزائريين، لدرجة أنَّ بعض الشخصيات التي كانت موضع تقدير في عيون الجزائريِّين خيَّبت آمالهم وبخاصَّة العلماء، فنحن نقف في الصفحة 124 لنعرف مدى تأثير ماسينيون على المجموعة الجزائريَّة، حيث تمكَّن من التأثير حتى في العلماء الجزائريين ومنهم الورتلاني ممثِّل العلماء في فرنسا الذي كما جاء في الصفحة نفسها ( 124) يغازل ماسينيون من أجل الحصول على تأشيرة لمصر دون صعوبة، وهكذا تشتَّت المجموعة وتفرَّقت، هكذا يقول مالك بن نبي الذي كان مصدوما وهو يرى العربي التبسي وبرنار لوكاش يتعانقان بتبسة لدرجة أنَّك تخالهما أخوين، بلغ الأمر أن أصبح العربي التبسي يحرِّض كل من صادفه ليقف ضدّ مالك بن نبي من أجل التقليل من شأنه وفكره، في وقت كان بن جلول وفرحات عباس يرعيان زردة المعمرين ( ص125)، يقول مالك بن نبي في الصفحة 130 : ” هذا هو المنحدر الخطير الذي وضع فيه بن جلول وشريكه فرحات عباس الضمير الجزائري منذ 1936.
خلاصة القول إنَّ مذكَّرات مالك بن نبي كشفت الكثير من الحقائق المخفيَّة، فكانت أفكاره موضع دراسة وتحقيق لباحثين وحتى أدباء مثلما نقرأه عن المقال الذي كتبه الروائي المصري إحسان عبد القدور في مقال له نشر بمجلة روز اليوسف المصريَّة عدد 1461 سنة 1956بعد أن أجرى مع مالك بن نبي مقابلة تناول فيها فكرة القابليَّة للاستعمار، وقد نقلت هذه المقالة من كتاب “حاطب أوراق” للدكتور أبو القاسم سعد الله الذي جمع بعض نصوص مالك بن نبي في كتاب بعنوان: مالك بن نبي كان دولة صدر عن دار الأصالة للنشر الجزائر، تقديم الدكتورة سليمة بوعسيلة وقال عنه أبو القاسم سعد الله بأن مالك بن نبي كان مدرسة فكريَّة مستقلَّة بين المدارس الفكريَّة التي عرفتها الجزائر منذ الحرب العالميَّة الأولى وكان دولة بكل معاني الكلمة.
_______
قراءة علجيَّة عيش