في ظلِّ التحولات الجيوسياسيَّة والأزمات الإنسانيَّة المتتالية التي تشهدها مناطق مختلفة حول العالم في مقدِّمتها منطقتنا العربيَّة، تبرز أهمِّيَّة جديدة وعاجلة لوسائل الإعلام وأشكال التوثيق المختلفة، خاصَّة في ظلِّ العدوان الإسرائيلي على غزَّة، إذ يكتسب التدوين الصوتي أهمِّيَّة بالغة كأداة لنقل الحقائق والتجارب الإنسانيَّة بصوتها الحيِّ ونبرتها الحقيقيَّة.
هذا النوع من التوثيق يوفِّر للصحفيِّين، والإعلاميِّين، والناشطين، والمواطنين وسيلةً فوريَّة ومباشرة لتسجيل الأحداث كما يعايشونها، ممَّا يجعلها تحمل في طيَّاتها طابعًا شخصيًّا، وعمقًا إنسانيًّا، لا يمكن للكتابة أو الصورة أن تعبِّر عنه بالدرجة ذاتها.
في عالم تنتشر فيه المعلومات المضلِّلة والأخبار الزائفة والانحيازات السياسيَّة، يصبح التدوين الصوتي سلاحًا قويًّا في معركة الحقيقة، ممَّا يعزِّز من قدرة المجتمعات على فهم الواقع من منظور شخصي ومباشر، إنَّه ليس مجرد وسيلة للتوثيق، بل هو أيضًا طريقة لإعادة صياغة السرديَّات وتمكين الأفراد من إيصال أصواتهم، في أوقات يكون فيها الصمت أو التجاهل مؤلمًا بشكل خاصّ.
من خلال هذا المقال، نقدِّم نظرة عميقة حول كيفيَّة استخدام التدوين الصوتي بفعاليَّة كأداة للتوثيق في زمن الحروب والأزمات، ونسلِّط الضوء على أهميِّته في حفظ الذاكرة الإنسانيَّة، وتعزيز المساءلة، ودعم جهود العدالة والسلام، سأقدِّم في هذه المقال نصائح مباشرة وإرشادات لكل من يسعى إلى تسجيل اللَّحظات التاريخيَّة بصدق وأمانة، معتمدًا على قوَّة الصوت في تجاوز الحواجز والوصول إلى القلوب والعقول عبر العالم.
أهميَّة التدوين الصوتي في الحروب والأزمات
في زمن الحروب والأزمات، يتجاوز التدوين الصوتي كونه مجرَّد وسيلة للتواصل؛ إذ يصبح شريان حياة يربط الإنسانيَّة بالحقائق والقصص الإنسانيَّة التي يمكن أن تضيع بسهولة وسط الفوضى والدمار. التدوين الصوتي، بطبيعته الفوريَّة والشخصيَّة، يقدِّم نافذة فريدة على الأحداث، ممَّا يمكِّنه من لعب أدوار متعدِّدة ذات أهميَّة بالغة في هذه الظروف، منها:
- توثيق الأحداث الفوري
التدوين الصوتي يلتقط اللحظات التاريخيَّة في لحظتها، موفِّرًا تسجيلًا لا يقدَّر بثمن للأحداث من منظور الأفراد الذين عايشوها، هذه التسجيلات تصبح جزءًا من السجلِّ التاريخي، ممَّا يضمن للأجيال القادمة فرصة فهم وتقدير التجارب الإنسانيَّة والتحدِّيات التي واجهتها المجتمعات المتأثِّرة.
- تقديم منظور شخصي
على عكس التقارير الإخباريَّة التقليديَّة، التي قد تكون محدودة بالحياديَّة أو الموضوعيَّة أو قيود التحرير، يوفِّر التدوين الصوتي منصَّة للأفراد تُعبِّر عن آرائهم، ومشاعرهم، وتجاربهم بأسلوب شخصي ومباشر، هذه الروايات الشخصيَّة تضيف طبقة عميقة من الفهم والتعاطف إلى تصوّرنا للأزمات.
فإذا كنت تدوِّن ما حدث ويحدث معك بعد أن نجوت من قصفٍ أو قنص، ووقفت للتوِّ بعد الجري لعشرات الامتار، سجِّل تدوينتك وأنت تلهث، لا تنتظر أن ترتاح. إذا كنت تبكي أو كنت خائفًا، متعبًا، مرعوبًا، سجِّل كل ذلك حتى وأنت تتقيَّأ بسبب منظر دموي رأيته خلال التدوين. سجِّل كل لحظة إنسانيَّة عشتها وأنت في قلب الحدث.
- تعزيز الوعي والفهم العالمي
من خلال نقل قصص حيَّة من قلب الأحداث، يمكن للتدوين الصوتي أن يلعب دورًا حيويًّا في تعزيز الوعي وتوليد فهم عالمي أكبر للتحدِّيات التي تواجهها المجتمعات، يمكن أن يساعد هذا في حشد الدعم الدولي وتعزيز جهود الإغاثة، وليس ببعيد عن ذاكرتنا تلك المكالمة الصوتيَّة التي سُجِّلت للطفلة هند التي كانت وأسرتها تحت مرمى نيران جيش الاحتلال في غزَّة؛ تصرخ هند، وتصف ما يحدث معها بكلِّ تجرُّدٍ وطفولة، وبكلِّ عواطفها من عزمٍ وخوفٍ ورجاء، هكذا أسمعَت العالم كلّه معاناتها ومعاناة غزَّة وشعبها، بل وأبكَت كل من تبقَّى لديه أثر من إنسانيَّة، بقيت وستبقى هند في ذاكرة هذه الحرب لأنَّها نقلت المشهد بالصوت، وتركت لكل من يسمع أن يكمل الصورة.
- مكافحة المعلومات المضلِّلة
في ظلِّ انتشار المعلومات المضلِّلة، يمكن للتدوين الصوتي أن يقدِّم طريقًا مباشرًا للحقيقة، ممَّا يمكِّن الأفراد والمنظَّمات من تقديم روايات موثوقة ومصدَّقة للأحداث، فالتسجيلات الصوتيَّة الأصيلة يصعب تزويرها مقارنة بأنواع أخرى من المحتوى المكتوب، ممَّا يجعلها أداة قيِّمة في مكافحة التضليل.
- تمكين الأصوات المهمَّشة
في النزاعات، يستطيع التدوين الصوتي تسليط الضوء على الأصوات التي قد تُهمَّش في التغطيات الإعلاميَّة التقليديَّة، سواء كانوا مدنيِّين عالقين في مناطق الصراع، أو نشطاء يسعَوْن للتغيير، أو حتَّى مسعفين ومنقذين يشاركون تجاربهم، إذ يوفِّر التدوين الصوتي منبرًا لهم لمشاركة قصصهم بأمانتها وتعقيدها.
- دعم الجهود القانونيَّة والإنسانيَّة
التسجيلات الصوتيَّة يمكن أن تلعب دورًا مهمًّا في الجهود القانونيَّة والإنسانيَّة، سواء كانت في تقديم الدليل لدى المحاكم الدوليَّة، أو في تسليط الضوء على الحاجات العاجلة للمجتمعات المتأثِّرة، إنَّها توفِّر مواد دامغة يمكن استخدامها لدعم العدالة والمساءلة.
- خلق التاريخ الشفوي
التدوين الصوتي يساهم في خلق التاريخ الشفوي للأحداث، ممَّا يوفِّر للباحثين والمؤرِّخين مصادر ثريَّة ومتنوِّعة لدراسة الأحداث الحاليَّة وتأثيرها على المجتمعات الإنسانيَّة، هذه التسجيلات تصبح أرشيفًا حيًّا ينقل القصص والأصوات عبر الأجيال، فالتدوين الصوتي في زمن الحروب والأزمات ليس مجرَّد أداة للتوثيق والتعبير، بل هو أيضًا وسيلة للشهادة، والتأثير، والمقاومة.
تقنيات التدوين الصوتي
لجعل التدوين الصوتي أداة فعَّالة في توثيق الأحداث، خاصَّة في زمن الحروب والأزمات، من المهمِّ اتِّباع تقنيات واستراتيجيات محدَّدة تضمن جودة التسجيلات وفعاليتها في نقل المعلومات والتجارب بصدقٍ ووضوح، فإذا كنت مواطنًا غير صحفي فكل ما هو مطلوب منك أن تفتح هاتفك على برنامج التسجيل الصوتي وتسجِّل عليه مباشرة، أو من خلال المايكرفون الموجود على سمَّاعة الأذن المتواضعة التي تستخدمها، أمَّا إن كنت صحفيًّا أو ناشطًا في قطاعات الإعلام، فإليك بعض النصائح والتقنيات الأساسيَّة:
- اختيار الأدوات المناسبة.
- استخدام ميكروفون خارجي يمكن أن يحسِّن جودة الصوت بشكل كبير، ابحث عن ميكروفون يناسب جهازك وظروف التسجيل.
- إن لم تكن تملك جهاز تسجيل متخصِّص (Recorder) فهناك العديد من التطبيقات المتاحة على الهواتف الذكيَّة والكمبيوترات التي توفِّر خيارات متقدِّمة للتسجيل والتحرير، علمًا أنَّه حتى في الهواتف غير الذكيَّة هناك خاصيَّة لتسجيل الصوت.
- تحسين جودة الصوت.
- إذا كنت ستسجِّل لتقريرٍ صحفي بعد انتهاء الحدث، فابحث عن مكانٍ هادئ قدر الإمكان للتسجيل، وتجنَّب الأماكن ذات الضوضاء العالية في الخلفيَّة، وحافظ على مسافة مثاليَّة من الميكروفون لتجنُّب صوت التنفُّس المتسارع والمرتفع أو الضوضاء، استخدام فلاتر الصوت وحوامل الميكروفونات، يمكن أن يقلِّل من الضوضاء، ويحسِّن جودة الصوت.
- أمَّا إذا كنت تسجِّل في وسط الحدث، فاضرب كل ما ذكر في النقطة السابقة بعرض الحائط، واضغط على زرِّ التسجيل، وباشر عملك؛ سجِّل وصفك للحدث إلى جانب كلّ الأصوات التي تحيط بك، سجِّل كل شيء يمكن تسجيله.
- التحضير والبنية
- حتى في التسجيلات العفويَّة، من المفيد وضع خطَّة مختصرة أو نقاط رئيسة ترغب في تغطيتها؛ حافظ على تسجيلاتك منظَّمة، مع تقديم واضح للموضوع، وتطوُّر الأحداث، وخاتمة.
- التحرير والإنتاج
- استخدام برامج التحرير لتنقيح التسجيلات؛ مثل إزالة الفواصل الطويلة، أو الأصوات غير المرغوب فيها أو غير المفهومة.
- في تقارير الحروب والأزمات لا أفضِّل الاستعانة بأي موسيقى أو مؤثِّرات، استعِض عنها بالتسجيلات الحيَّة للوقائع من بيئة الحدث، واحرص دائمًا أن تسجِّل العديد منها، على سبيل المثال لا الحصر: أصوات الأطفال وهم يتسابقون لجلب الطعام، أصوات التفجيرات والقصف، بكاء الأطفال في المشفى، الهتافات والنداءات في الميدان، الحوار بين رجال الدِّفاع المدني والمتطوِّعين المدنيِّين في عين المكان، إلخ..
- النشر والمشاركة
- انشر تسجيلاتك على المنصَّات التي توفِّر أوسع نطاق للوصول إلى جمهورك المستهدف.
- تأكَّد من أنَّ وصف التسجيل الصوتي واضح وجذَّاب، مع استخدام الكلمات المفتاحيَّة المناسبة لتسهيل العثور على تسجيلك.
- شجِّع المستمعين على التفاعل مع التسجيلات الصوتيَّة من خلال التعليقات، أو المشاركة، أو حتى المشاركة في محادثات متعلِّقة بالموضوع.
- الأمان والخصوصيَّة
- في ظروف الحروب والأزمات، من الضروري التفكير في الأمان الشخصي وخصوصيَّة الأفراد الذين يتحدَّثون في التسجيلات أو يتمّ ذكرهم، وفي الحالات التي تتطلَّب حماية هويَّة المتحدِّث، يمكن استخدام تقنيات تغيير الصوت أو عدم ذكر الأسماء الحقيقيَّة.
- النهج الأخلاقي
- تأكَّد من التزامك بالحقائق وعدم تحريف المعلومات أو نشر معلومات غير مؤكَّدة.
- كن واعيًا بحساسيَّة المواضيع التي تتناولها، خاصَّة في الحروب والأزمات، وحاول التعامل معها بالحرص والاحترام اللازمين.
إتقان هذه التقنيات والنصائح يمكن أن يساعد الصحفي في جعل التدوين الصوتي أداة قويَّة للتوثيق والتأثير، سواء كنت تسجِّل لأغراض إعلاميَّة أو تأريخيَّة.
أمثلة على التدوين الصوتي الفعَّال
في عالم التدوين الصوتي، هناك أمثلة ملهمة تُظهِر القوَّة الهائلة لهذا الوسيط في توثيق الأحداث وتأثيرها على الرأي العام والتاريخ. أحد الأمثلة البارزة هو استخدام التدوين الصوتي خلال الربيع العربي، حيث سجَّل ناشطون ومواطنون شهادات حيَّة عن الاحتجاجات والأحداث السياسيَّة، ممَّا ساعد في نشر قصصهم عبر العالم، وجذَبَ انتباه الإعلام الدولي.
كمثال آخر، في النزاعات المسلَّحة مثل الحرب في سوريا، استخدم صحفيُّون ومواطنون التدوين الصوتي لتوثيق الظروف المعيشيَّة القاسية والانتهاكات الإنسانيَّة، ممَّا ساهم في تسليط الضوء على الأزمة الإنسانيَّة هناك.
بالإضافة إلى ذلك، تُعَدُّ تجربة بودكاست “Serial” مثالاً على كيفيَّة استخدام التدوين الصوتي لبناء قصَّة محكمة تجذب الجمهور، وتحفِّز على التفكير والنقاش حول القضايا القانونيَّة والعدالة، إذ حقَّق البودكاست في موسمه الأول بجريمة قتل الطالبة “هاي مين لي” عام 1999م واتِّهام عدنان مسعود سيد بقتلها عام 2000م، إذ لفت هذا البودكاست الانتباه الدولي إلى الجريمة وإلى مُحاكمة عدنان، ممَّا جعل الإدانة مَوضع تساؤل، ودفع بالقاضي “مارتن ب. ولش” لإلغاء إدانة عدنان والأمر بإجراء مُحاكمة جديدة في يوليو عام 2016.
هذه الأمثلة توضح القدرة الفريدة للتدوين الصوتي على تجاوز الحدود، وتعزيز فهم أعمق للقضايا الإنسانيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة. فمن خلال توفير منصَّة للأصوات التي قد لا تُسمَع غالبًا، يمكن للتدوين الصوتي، أن يلعبَ دورًا حاسمًا في تشكيل التفاهم والتعاطف بين الناس حول العالم.
____________
*الأستاذ عبيدة فرج الله: خبير وباحث في شؤون الإعلام والصحافة والاتِّصال السياسي، ورئيس تحرير عدد من المجلَّات والمنصَّات الإعلاميَّة المتخصِّصة.
**المصدر: مجلة الصحافة- الجزيرة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.