مهمة هذه الأملية التنظير لمنفسحات تفكير تعاين معاثر الاحتدام الحضاري بين العرب والغرب، كما تسعى إلى تسييل أسئلة لم تُسأل بعد، وكذلك الأسئلة التي سُئِلت من قبل وظلت جواباتها طيِّ الاحتجاب…
لقد ابتنينا هذه المهمة على فَرَضية ترى إلى التنظير كمقترح معرفي ينتمي إلى سلالة التفلسف العملي ولا يفارقها أبداً. ولذا سنتاخمه في محضر مؤتمرنا هذا، باعتباره ممارسة تفكيرية تتوخي تحرِّي عِللِ الانسداد الحضاري بغية التعرُّف اليها، وفهمها، وإدراك ماهيتها، واستيلاد الاسئلة المتعلقة بشأنها.
والتنظير – بحسب فرضيتنا- غير موقوف على توصيف ظاهر الحدث وترصّده. فإنه قبل أي شيء، مجهود متبصِّر يروم معاينة المبدأ المؤسس للظواهر والأحداث والأفكار. به تنسلك مهمة المنِّظر في المسرى الانطولوجي؛ حيث يمضي إلى ما يؤسِّس وما يؤسَّسُ عليه من أفهام . وتلك مرتبة ترقى إلى التعرُّف على الأصل، وتنظر إلى ما يتعدى الاستكشافات العرضية للأحداث والمفاهيم. لكأنها توعز للمِنظُّر من بعد أن فرغ من اختباراته المريرة في سياسيات اللحظة وعالم الايديولوجيا، وأن يعبر إلى الضفة الأخرى. أي إلى ما لا يتناهى التفكُّر فيه كأن يحرز المنظِّر معها مَلَكَة المبادرة باتجاه فتحٍ معرفي يسبر الأغوار، ويعيّن التخوم، ويقدم التصورات والأفكار.
يكمن المغزى العميق للفعل التنظيري بوصفه فلسفة عمل وفعل. وحين يتوفر الفاعل على إرادة التفكير صار التنظير بالنسبة إليه – لا ضرورة معرفية فحسب – بل واجباً أخلاقياً أيضاً. في هذه اللحظة يشق المنظِّر سبيله نحو نظرية معرفة تقوم على النظر والإيجاد في آن. هكذا، تتأسس فلسفة التنظير على الثقة، بأن الذات قادرة على الفعل والإيجاد متى غادرت أنانيتها وتكاملت بحضورها في فضاء الحضارة الإنسانية الشاملة. حالذاك لا تعود الذاتُ حبيسة القلق والتشظي وانعدام اليقين. ولا يعود السؤال بالنسبة إليها مطروحاً لمجرد الاستفهام العارض، وإنما ذلك السؤال الذي يصدر عن ذات مسؤولة معتنية بضرورات الإجابة وواجبيتها.
* * *
التفكير المشرقي والإسلامي اليوم مدعوٌ إلى التحرر من غواية المفاهيم التي استورثها في غفلة من زمن، ثم استيقنها حتى ركزت في أعماق نظامه المعرفي. كانت ثنائيات مفاهيمية كمثل الإيمان والإلحاد، والغيب والواقع والدين الدنيا، والحدث والفكر، أشبه بحُجُب تشيّأ تفكير المستغربِ العربي بسببها، وترسّخ كسله، وحالت بينه وبين استقلاله الفكري مفاهيم ومصطلحات وفدت واستوطنت، حتى أرقدته في كهف الغربة.
لقد احتلت أفهام الحداثة المساحة العظمى في مجتمعاتنا لتنتج ضرباً من الهلع الفكري سحابة اللقاء غير المتكافئ مع الخطبة الفلسفية الغربية. ولقد تحولت تلك الخطبة لدى النخب العربية والإسلامية إلى مرجعية مهيمنة ظهرت في غالب الأمر على هيئة نظام معرفي لاشِيَة فيه. كما لو أن الاستغراب العربي الإسلامي قد غفل عن حقيقة أن المصطلحات والمفاهيم هي الحاصل المنطقي للحادث الحضاري الغربي. وإن المفاهيم والتعريفات لا تتخذ مسارها على خط مستقيم، وإنما تشكل دائرة رؤية وعبرة فحسب. فليس المهم من أين يبدأ المرء وإنما في الكيفية التي تمكننا المفاهيم من بلوغ الغاية التي تتحرر فيها مما نحن فيه من استفهامات عصية على الإجابة.
البيِّنٌ في الصورة الراهنة ان التفكير العربي – الإسلامي لم يفارق مباغتات الحداثة، بل ربما صار في أكثر الأحيان، أشدُّ تكيفاً مع إيقاعاتها ولنا أن نقرأ المشهد من ثلاثة أوجه:
ـ الأول، يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً لا محل فيه لمساءلة أو نقد.
ـ والثاني، يتبدَّى على صورة معارضات انفعالية لا تكاد تؤتي أُكْلَها حتى تذوي في محابسها الايديولوجية.
ـ وأما الثالث فهو ما يجيئنا على هيئة محاولات ووعود ، ثم لا يلبث بعد هنيهة حتى يظهر لنا فقْرَه وقصورَه عن مجاوزة مشكلات الانسداد الحضاري.
- في ضرورة التنظير وواجبيته
يفضي الكلام على واجبية التنظير وضرورته، إلى استغراب الأمر من غير وجه:
أولاً: لأنه ينطوي على استدارج السامع إلى مطرحٍ معرفي لا يُفهم منه للوهلة الأولى، إلا أنه دعوة إلى إنشاء لفظي لا حظ له من الواقع في شيء. الباعث على مثل هذا الفهم السلبي للتنظير يرجع –على غالب الظن- إلى واحدة من أشقّ الابتلاءات التي سكنت تفكير النخب في مجتمعاتنا وتجذرت فيه. عنينا بها القطيعة بين الفكر والحدث سحابة تاريخ كامل. فلقد بدا كما لو أن الحدث يسير من تلقائه على غير هدى، وإن الفكر ليس غير سلوى بمحكيَّات لا موطن لها ولا مستقر. لكأن شيطان الوهم استحكم بالمستغرِبِ العربي فدعاه إلى الاشتغال عن ظهر قلب بالمنقول من وافد المفاهيم، والإعراض عن معاينة الخاص من الهوية ببعديها الوطني والحضاري.
ثانياً: لأن فكرة التنظير، وان كانت تحظى بمشروعية معرفية وتاريخية، فقد بدت لنسبة وازنة من الأنتلجنسيا العربية، ولا سيما تلك العاملة في الحقل الأكاديمي وكأنها خارج السياق. ربما التَبَسَ الأمر على البعض فأرجأ ما كان ينبغي ان يدلي به إلى وقت لاحق. . فيما شريحة واسعة من هؤلاء اخذتهم الحوادث اليومية بغتة فاستغرقوا بدنياها وغفلوا عن أسئلة المابعد.
ثالثاً: لأن مشروع التنظير ينتمي إلى مقام مخصوصٍ ذي صفة متعالية لا ينالُها إلاّ الأقلون. اولئك الذين كتبوا على أنفسهم متاخمة الحدث ومعاينته وتأويله ليتبيَّنوا ضميره المستتر، ثم ليدركوا منتهاه، فيبنون على ذلك المنتهى مقتضاه.
رابعاً: من المفارقات الغريبة ان يُطرح سؤال التنظير وسط وهنٍ فكري يلقي بأظلّته على أوسع البيئات المشتغلة بعالم الأفكار. ولو دلَّ هذا على شيء، فعلى حالين:
أ- تراجع جاذبية المدوَّنة الايديولوجية بمدارسها وتياراتها الكلاسيكية (القومية والليبرالية والماركسية). ثم لتَدَع الميادين ومن عليها إلى الفراغ. حتى إذا استحلت النيوليبرالية عرش العالم هبط القول الفلسفي إلى دنيا الإنتفاعية ولم يعد لهذا القول أمام سطوتها من جدوى.
ب- الاسلام الايديولوجي الذي قدم نفسه كحامل مفترض لمهمة النهوض لم ينجُ من التموضع في القلاع الصماء التي انتصبت بصورة مباغتة في ما سمي اشتباهاً بـ “ربيع العرب”. ففي الخطبة الايديولوجية للإسلام السياسي المستحدث وقفت مقولة الاحياء الحضاري على أبواب السلطة طلباً للقربى أو طمعاً بها. جلّ ما كان في الخطبة من متساميات أمسى رهينة اللحظة ومقتضياتها. حركات اسلامية في مواطن شتى إنبرت إلى الأخذ بالفكرة الإحيائية لتسوِّغ مسعاها إلى الحكم، او أقله لتمنح نفسها مشروعية حضورها في المجتمع السياسي. وعلى الإجمال، لم يرقَ همٌ النهضة في انشاءات النخب بمنوعاتها القومية والعلمانية والنيوليبرالية فضلاً عن الإسلامية، إلى المقام الذي يصبح فيه همّاً تنظيرياً مسهماً في هندسة “كوجيتو” عربي يسدد التنظير ويمهِّد السبيل لقول فلسفي من طراز جديد.
خامساً: حداثة الغرب في العقل النخبوي العربي، لا تزال تستعاد على النشأة التي قرأها اصحابها الأصليون قبل اكثر من اربعة قرون. ما هو ادهى، ان العقل المشار إليه، وعلى الرغم من الميراث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ الحداثة، بقي حريصاً على متاخمة سيرة الحداثة الأولى ومقالتها البكر: اي بوصفها اطروحة لمدينة فاضلة جاءت تستنقذ العالم من فوضاه وجاهليته. ما يعني ان عقلاً كهذا لا يملك ان يرى إلى حداثات الغرب المتعاقبة الا بوصفها عالماً متخيلاً لا حظَّ له من الحقيقة الواقعية في شيء.
يفعل ذلك المعاصرون من المثقفين العرب كما فعل الاوائل من قبل. أولئك الذين اجتمعوا على مقالة النهضة حتى سمي الزمن الذي عاشوه باسمها. فكان ختام القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين عامراً بفردوس الشعارات الكبرى: الدولة الأمة، والديمقراطية، والمجتمع المدني، والتحرر من الاستعمار، والعدالة الاجتماعية، والتعددية، ونقد طبائع الاستبداد.
أكثر هؤلاء حملوا سؤال التقدم التاريخي على حسن الظن وسلامة النية. إلا أنهم لم يفارقوا دهشة الحداثة وما بعدها. ثم لم يدرك أن “أنوار الغرب” مكثت في الغرب ولم تتعدَ حدوده، ثم لم يأتِنا من حصاده سوى شراهة السيطرة ورعاية الاستبداد والعناية بالجاهليات المستحدثة.
في زحام الحداثة الفائضة التي نعبر تداعياتها اليوم لا ينفك المشهد يظهر على النشأة نفسها. ولكن مع فارق جوهري، هو ان السواد الاعظم من النخب يغيِّبون سؤال التنظير، بل ويستغربونه كما لو كان سؤال فائضاً عن الحاجة.
- التنظير النقدي لثنائية الإستغراب والإستشراق
التنظير النقدي لثنائية الاستغراب والاستشراق يقتضي العناية بخمسة حقول معرفية:
أولاً: حقل فهم الغرب. ويقوم على استقراء ابستمولوجي تاريخي للمكونات التأسيسية للحضارة الغربية الحديثة وآليات نشوئها وتطورها منذ نهاية العصر الوسيط إلى ما عرف بعصري النهضة والتنوير ناهيك عن الحداثة بأحقابها وتطوراتها اللَّاحقة.
ثانياً: حقل نقد الغرب لنفسه، ويعني بدرس الآثار الفكرية والمعرفية للتيارات والمدارس والمناهج التي أطلقت مسار النقد الذاتي في ميادين الفلسفة وعلم الاجتماع واللاهوت والفكر السياسي.
ثالثاً: حقل الاستشراق(أو علم تعريف الغرب للشرق). وهو حقل مفصلي في الدرس الإستغرابي. يهدف هذا الحقل إعادة قراءة الاستشراق في معارفه وأبحاثه وظروف نشأته وبيان مقاصده المعرفية وتوظيفاته الإيديولوجية قديماً وحديثاً.
رابعاً: حقل الاستغراب السلبي، وغايته نقد ظاهرة التبعية الفكرية من خلال دراسة أعمال الباحثين والمفكرين والأكاديميين في العالمين العربي والاسلامي، لا سيما أولئك تماهوا مع المنهج الاستشراقي وانتجوا منظومات تفكير انتهت إلى كونها نسخة محلية عن صياغات العقل الغربي الكولونيالي للشرق.
خامساً: حقل التنظير، وغايته توليد المفاهيم الأفكار والنظريات من داخل الحقول التي يتشكل منها النظام المعرفي لعلم الاستغراب.
- من الاستغراب السلبي والاستغراب الخلَّاق
في عالم المفاهيم يصبح الكلام على «مصطلح الاستغراب» أكثر تعقيداً. ومرجع الأمر إلى فرادته وخصوصيته، وإلى حداثة دخوله مجال المداولة في الفكر الإسلامي والمشرقي المعاصر. ربما لهذه الدواعي لم يتحول هذا المصطلح بعد إلى مفهوم، وبالتالي إلى منظومة معرفية. ذلك على الرغم من المجهودات الوازنة التي بذلها مفكرون عرب ومسلمون من أجل تظهير علم معاصر يُعنى بمعرفة الغرب وفهمه ومعاينته بالملاحظة والنقد، ويكون بالتالي نظيراً كفوءاً لعلم الاستشراق. فلكي يتخذ المصطلح مكانته كواحد من مفاتيح المعرفة في العالم الاسلامي، وَجَبَ ان تتوفر له بيئات راعية، ونخب مدركة، في اطار مشروع حضاري عربي متكامل.
لكن واقع الحال اليوم، يفيد بأنّ ثمة بيئات مترامية الأطراف من هذه النخب لم تفارق مباغتات الحداثة الغربية ان على صعيد إعادة انتاج المفاهيم أو في فضاء تكنولوجيا المعرفة. وتلك حالة سارية لا تزال تُعرِبُ عن نفسها في المجتمعات المشرقية والإسلامية بوجوهٍ شتى:
ـ وجه يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً تمامياً لا محل فيه لمساءلة أو نقد. وهو ما تبرز ظواهره على أتمِّ صُوَرِها في تأسيسات الاستشراق، وسيرورة حضوره التاريخي داخل المجتمعات العربية والإسلامية .
لم يساورنا الشك لحظة، من أن تحويل الاستغراب إلى حدث فكري، هو مشروع معرفي وإحيائي ذي بعد انطو- تاريخي يستلزم جهداً ضخماً يطابق الغاية التي طرحت من أجلها.
إذا كان «الاستغراب» يعني «علم معرفة الغرب»، فمن اولى مقتضياته السعي إلى تظهير فهم الغرب من خلال التعرُّف على مناهجه وأبنيته الفكرية والثقافية والأيديولوجية، وإعادة قراءتها بروح نقدية عارفة. وعليه تقوم دراسة الاستغراب على خمس ضرورات:
1- ضرورة تاريخية، أوجبتها التحولات الحضارية التي حدثت في مستهل القرن الحادي والعشرين. حيث بدا بوضوح لا يقبل الريب، أن حضور الإسلام عقيدة وثقافة وقيماً أخلاقية لم يعد في نهايات القرن المنصرم مجرد حالة افتراضية، وانما هو حضور له فاعلية استثنائية في رسم الاتجاهات الاساسية لراهن الحضارة الانسانية ومستقبلها.
2- ضرورة توحيدية، ويفترضها التشظِّي الذي يعصف بالبلاد والمجتمعات الاسلامية ويجعل نُخبها ومثقفيها ومكوّناتها الإجتماعية، أشبه بمستوطنات مغلقة. وَتَبَعاً لهذا التشظّي وكحاصل له، تنحدر هموم الأمة إلى المراتب الدنيا من اهتماماتها.
3- ضرورة تنظيرية، وتتأتى من الحاجة إلى استيلاد مفاهيم ونظريات ومعارف من شأنها تحفيز منتديات التفكير، وتنمية حركة النقاش والسجال والنقد.. والى ذلك كذلك، الحاجة إلى تسييل حركة الفكر العالمي من خلال التعريب والترجمة والنقد، وعلى نحو يسهم في تفعيل مشتغلات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وإقامتها على نصاب الحيوية والجِدَّة.
4- ضرورة معرفيّة، وتنطلق من أهمية لمنطقة جاذبية تتداول فيها نخب المجتمعات الغربية والاسلامية الأفكار والمعارف، وتمتد عبرها خطوط التواصل والتعرف في ما بينها.
5- ضرورة نقدية: ثمة أربعة عوامل تستحثّ على تفعيل التنظير النقدي بوجهيه الذاتي(العربي- الإسلامي) والآخَري(الغرب):
العامل الأول: وجوب تفكيك اللَّبس الذي تراكم في الوعي الإسلامي على امتداد أجيال من المتاخمة والاحتدام مع مواريث الحداثة الغربية بوجهيها المعرفي والكولونيالي. في سياق هذه المهمة يحدونا الأمل إلى بلورة نظرية معرفة ترسي قواعد فهم جديدة للأسس والتصورات التي يقوم عليها العقل الغربي، وهو الأمر الذي يفتح باب الإجابة على التساؤل عما لو تيسَّر لنا ان نكوِّن فهماً صائباً عن غربٍ انتج شتى انواع الفنون والقيم والأفكار، وجاءنا في الوقت عينه بما لا حصر له من صنوف العنف والغزو والحروب المستدامة.
العامل الثاني: جلاء حقيقة ان لمعارف الغرب حواضن في المجتمعات العربية والإسلامية تتلقى تلك المعارف وترعاها، ثم لتعيد إنتاجها على النحو الذي يريده لها العقل الغربي نفسه. بيان ذلك أن هذا الأخير، يجد لدى نخب تاريخية واسعة في مجتمعاتنا من يتماهى معه في خطبته ومنطقه، أو أن يمتثل إلى معارفه المستحدثة. هذا حال من جاز أن يُنظر إليهم وهم على نصاب «الاستغراب السلبي». فما نعنيه بهذا النوع من الاستغراب، هو ناتج تفاعل مركّب بين دهشة العربي المسلم بحداثة الغرب ومنجزاتها من جهة، وطريقة تعامله معها من جهة أخرى. فبنتيجة هذا التركيب على الإجمال، بدا هذا «المستغرِب» في حالة استلاب وتبعية لمنظومة الغرب وخصوصياتها، وتالياً كامتداد محلي لها. اما حاصل الأمر، فكان أدنى إلى استيطان معرفي لا يفتأ يستعيد أسئلة الغرب وأجوبته على نحو الاذعان والتسليم. ولسنا نغالي لو قلنا أن الاستغراب السلبي الذي نقصده لوصف احوال شطر وازن من مثقفي العالم الاسلامي، هو فكر انتجته الدهشة، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ثم لترتضيه نخب وازنة من مجتمعاتنا فتتخذه سبيلاً لفهم ذاتها وفهم غيرها، فضلاً عن فهم العالم من حولها في الآن عينه.
العامل الثالث: وضع منظومة معرفية تفضي إلى تسييل المعارف والمفاهيم الإسلامية ضمن تعرُّف خلاَّق لا تشوبه التباسات ثقافة الاستشراق وعيوبها. وما من ريب في أن الداعي إلى هذا التعرف تجاوز الانسداد الحضاري الذي لا نزال نعيش تداعياته وآثاره على امتداد خمسة قرون خلت من ولادة الحداثة. كما تستهدف هذه المنظومة اجتياز الموانع التاريخية التي تركها مسار الحداثة الغربية عندما أنشأ الاستغراب الإسلامي على هَدْي كلماته ورؤاه من دون ان يُحِلَّ فيه ما هو بنَّاء في نهضته وحداثته. فكانت الحصيلة ان بلغ به الحال حدّاً صار فيه مستغرِباً كل ما له صلة بعالم المفاهيم والأفكار وما أنجزته تقنيات ما بعد الحداثة من صناعات مذهلة.
العامل الرابع: ومقتضاه إجراء تحويل جوهري في فضاء التناظر المعرفي بين الإسلام والغرب. قوام هذا التحويل، تفكيك التبعية التفكيرية للغرب ومناظرته على أرض التضاد الإيجابي. الأمر الذي يقيم الإستغراب الخلَّاق على نشأة معاكسة للمسار والمحتوى والغايات التي أرادها له المستشرقون عن سابق تصور وتصميم. وبسبب من الوعي الامبريالي المبثوث في عالمنا العربي ان الشرق ظل شاهداً براَّنياً على عقل الغرب، ونظيره الضعيف والتابع في آن. حتى ان كثيرين من الدارسين الغربيين لم يروا إلى الحركات الفكرية في الشرق الا كظلٍّ صامتٍ ينتظر من يهبه الحركة والحياة. الأمر الذي أدى إلى حضور المستشرق الغربي حضوراً بيِّناً في إعادة تشكيل وعي الشرق وثقافته وفي طريقة تفكيره حيال نفسه وحيال الغرب في آن. وكل ذلك جرى في مقابل غياب همّ الشرق في فكر المستغربِ العربي المثقل بوعثاء الحداثة وضوضائها. ولأن الاستغراب بهذا المعنى والمسار، صار الوجه الآخر للاستشراق، فقد أضاعت الانتلجنسيا الإسلامية ماهيتها وهويتها وسمْتَها الخاص، فإذا هي مستلبة أو قاصرة، بل وغير قادرة على إنتاج فهم مطابق لروح الزمن الذي تعبره، لا بإزاء نفسها ولا بإزاء الآخر.
_____
د. محمود حيدر: مفكر ورئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة/ رئيس تحرير فصلية “علم المبدأ” – لبنان.