التنويريفكر وفلسفة

تدريس الفلسفة

*جاك داريلا/ *ترجمة: عبد الوهاب البراهمي.

“يقال إن التفلسف هو التفكير بأنفسنا. لكن ألا يمرّ تعليم الفلسفة بالضرورة عبر الإنصات لقولٍ مُعَلِّم؟ علينا أن نستنتج إذن بأن تعليم الفلسفة مشروع، إن لم يكن مستحيلا فهو على الأقلّ مفارقيّ …ومع ذلك فإنّ هذه المفارقة هي التي تتغذّى منها الفلسفة دوما وتغتني”. جاك داريلا” محاولات

(…) كان لا بدّ من  تدريس الفلسفة، وكان يجب لأجل هذه الغاية، أن نعطي مضمونًا حقيقيًّا لهذا التخصُّص الذي أضحى طيفيًّا. كنَّا ( نحن المدرسين) كما يقال، مكلَّفين بأن نعلِّم تلامذتنا كيف يستغنوا عنّا، أي أن يتعلّموا بأنفسهم، بما أن الفلسفة على ما يبدو تكمن في هذا تحديدا: معرفة ” أن نفكّر بأنفسنا”. تحدٍّ يبدو لأوّل وهلة لا يستقيم، بما أنّه، إذا كان يجب أن نفكّر بأنفسنا، فما الحاجة إلى الاستماع إلى مدرّس، لا يملك إلاّ أن ينحرف بك عن الطريق الأصيل والمتفرّد الذي هو طريقك؟ سؤال يطرحه فعلا تلامذتنا، الذين يخشون بشدّة في ذلك العصر” التلاعب” بهم، كما يقولون، أو على الأقلّ “أن يتأثّروا” بأساتذتهم، المتّهمين دوما، تحت غطاء المدرس، بتوصيل نزواتهم  وهلواستهم الذاتية إلى مستمعيهم. صحيح أنه لم يكن من الصعب أن نبرهن لمحاورينا أنه في شأن التلاعب، لم يكونوا هم بذاتهم بمنأى عن أيّ عدوى: حينما نطلب منهم أيّ موضوع يفضّلون معالجته – (مسألة مطروحة للنقاش، بما أنه لا بدّ إذن من كلّ شخص أن يكون بإمكانه التعبير بحريّة وممارسة عفويته ” المقدّسة”)- كان ثمّة كلّ الحظّ في أن يتعلق الاختيار الغالب بالبرنامج التلفزي بالأمس…وفي شأن التفكير بأنفسنا، فإنّنّا دوما، مع الأسف، نبدأ في التفكير “تلقائيا” بواسطة الآخرين. يعنينا إذن إفهامهم بأنهم لم يكونوا دمى يمكن أن نتلاعب بها دون عقاب، وأنهم يملكون في ذواتهم كنز الفكر، الذي هو من جانب آخر أفضل الأشياء قسمة بين الناس. 

كان لا بد من استعادة المبادرة، وأن نمسك الثور من قرنيه كما يقال، وأن نعطي بجرأة مضمونا للفلسفة. وبما أن “التفكير بأنفسنا” لا يتمثّل في قول ما يجول بخاطرنا، وأنه لا شيء أعسر من “أن نفكّر بأنفسنا”، مهمّة يجب، دون شكّ، أن نقضي فيها كل حياتنا، كان يجب أن نعود إلى البداهة، بداهة مفارقية في الحقيقة مثلما هي بالضرورة كل بداهة حقيقيّة : لكي نفكّر بأنفسنا، لابدّ أن نبدأ بالاستماع إلى الآخرين، أو بالأحرى بالاستماع إلى هذا القول الذي يدعونا إلى التفكير، والذي يعلّم، وهو ما يعني تحديدا أنه، في هذا المعنى، ينادي بإشعار بالاعتراض.

إنّ النصوص الكبرى، التي تشهد في صمت على الأصوات الضخمة التي صَمَتت، والتي عُرفت بكونها تملك أكثر من غيرها هذه القوّة للنداء التي من غيرها لا يوجد تعليم حقيقيّ، يمكنها أن تتدخّل. لكن شريطة لا أن تُعتبر بمثل كثير من الأنساق أو المذاهب، أي آراء متناسقة ومتطوّرة جوهريا، وأن لا تَتصوّر تاريخ هذه النصوص بمثل نوع من محلّ الملابس الجاهزة، حيث يكون مسموحا لنا، بحسب طبعنا أو مزاجنا، أن نضع على ظهورنا دون تمييز لباس الأخلاق الكانطية، ونظرية المعرفة الأفلاطونية أو النقد الماركسي للإيديولوجيا. إذ لو لم تكن الفلسفة، تبعا للمثل الأعلى لمجتمع الاستهلاك، سوى خدمة ذاتية self-service حيث يمكن لكلّ منا أن يختار حسب هواه ما يناسب ميولاته، لكانت (الفلسفة) إذن خالية من الجدّية والقيمة بمثل مجرّد سلعة، في النمطية الكونية التي تغزو من هنا عالم الأفكار مثلما تغزو عالم الأشياء، فلكل شيء قيمة ولا شيء له قيمة، أكلة سريعة مثل مأدبة أفلاطون، سيلفي selfie، مثل كوجيتو ديكارت أو قراءة صحيفة مثل فلسفة التاريخ لهيجل. فلا يكفي، كي نعطي محتوى للفلسفة، أن نضع قائمة نصوص يجب قراءتها، لابد أيضا من التفكير فيما هو مشترك بينها، وفيما يعيد إلى هذا التنوّع وحدته ومعناه. وإذا ما أردنا تجنّب الغرق في السخرية – والمطالبة المراهقية، لاقتضاء مفرط، يخادع بمهارة في هذه النقطة لتعليم المُعلّم- فيجب تعليم، لا الفلسفات، بل الفلسفة، ويجب فهم بأنّ كل الفلسفات هي بطريقة ما، ومن وراء تناقضاتها العنيفة أحيانا، واحدة ونفس الفلسفة. لا يجب تدريس تاريخ الفلسفة، بل فلسفة هذا التاريخ، النقطة العمياء التي يحوم حولها تساؤل يبدو بلا نهاية.

ليس من العسير فعلا فهم أنّه، لما كان لكل هذه النصوص هدف مشترك هو الدعوة إلى التفكير، فذاك يعني أنّ الفكر ذاته هو موضوعها الوحيد الأوحد، وأنه يتعلّق الأمر فعلا هنا بما تدعو كل فلسفة أصيلة إلى التفكير فيه. هكذا، وعلى خلاف ما يحدث تحت أعيننا بالنسبة إلى العلوم، التي يجهد كل واحد منها في التفكير ومعرفة موضوع محدّد يجعله الفكر لنفسه مبحثا لدراسته- أحداث الماضي بالنسبة إلى المؤرخ، الأشكال التي يمكن بناءها في فضاء n مساحة بالنسبة إلى الهندسيّ، بنية المادّة بالنسبة إلى الفيزيائيّ – (فإنّ الفلسفة هي الفكر الوحيد الذي لا يريد سوى استقلاليته، وبالتالي أن لا شيء معطى لديه بل كلّ شيء مبنيّ بواسطته. لأجل ذلك لا تعرف الفلسفة موضوعا آخر غير ذاتها، في معنى أنها تضطلع بمهمة التفكير واختبار الفكر ذاته، والتفكير فيما تسمّيه تفكيرا) – وهو ما ليس تخيّلا ولا تكرارا لحسابنا الخاص الآراء الجاهزة غير المؤسسة، ولا حتى معرفة، طالما بإمكان الفكر أن يكون غير قابل للمعرفة في معنى أنه لا يقدر، ربما، أن يجعل من نفسه موضوع معرفة. لا يجب مع ذلك استنتاج انه من العقيم التفكير في الفكر الذي يمكننا معرفته، إذ قد يحدث أن ننسى فعلا القيام بذلك، وأن نتخلّى طويلا عن تمرين التأمّل، وهو ما يفيد بلا شكّ نسيان إنسانيتنا أيضا، إذا ما صحّ أنه يعود إلى الإنسان، والإنسان وحده، لا التفكير، بل التفكير في أنه يفكّر. وعلى هذا النحو دون شكّ، نسياننا أن نكون كائنات بشرية، فسنصير لا إنسانيين. 

من هذا الطريق، يمكن لتعليم الفلسفة – (ومن وراء أزماته التي جعلته موضوع شكّ جذريّ)- أن يُؤَسَّس من جديد. وليسمح لي بتدقيق: إذا ما كانت كلّ فلسفة، كما أسلفت القول، هي فكر الفكر، فذاك لا يعني مع ذلك، بأنه على الفلسفة أن تُختصر في ميتافيزيقا الوعي بالذات Selbstbewusstsein، بل بالأحرى أنّ مبحث الوعي بالذات هو رهان مركزيّ للنقاش الفلسفي، سواء كان من أجل أن نضع له أساس كلّ معرفة مغلقة أو ثابتة أو على العكس من أجل إدانة الوهم التأملي لتعال روحيّ. في هذا المعنى يكون السؤال المطروح اليوم عن “الذكاء الاصطناعيّ” – (سؤالا سخيفا في نظري إذ لا بد من التفكير في الفكر قليلا حتى نتخيّل للحظة واحدة أن آلة إعلامية، جدّ مركّبة  يمكن أن تكون قادرة، حتى لو في سرعة البرق،على التفكير)- بأنّه سؤال، سيء الصياغة جدّا، يعني مع ذلك فعلا التساؤل الفلسفي.  يتبقى أيضا – ( حتى ننهي هذا الحديث عن المنهج التعليمي، أو، حتى نعبّر بصورة أبسط، عن هذه الإشارة إلى المسار الذي كان مساري أثناء تعليمي) – لنفهم في أيّ اتجاه يمكن لهذا التخوّف من التمرين الفلسفي أن يجدّد دراسة النصوص التي عُرِفت بدعوتها، أكثر من غيرها، إلى التفكير. وإذا أمكننا بالفعل الآن الالتفات صوب قراءة الفلاسفة، أو أولئك الذين يعتبرهم التقليد كذلك- (ما يعود إلينا رفضه أو قبوله برضانا كما يقول ديكارت، بالاستعانة بمعيار كنا قد صغناه، بمعنى أن كلّ فلسفة أصيلة هي فكر الفكر)- فليس ذلك من أجل دراسة أفكار متنوّعة تُقدّم بوصفها حكيمة، بل من أجل مطالبة هذه النصوص بالتفكير في الفكر ذاته، أي بمساعدتنا على الوعي بسلطة التفكير التي فينا، والتي من دونها لا يمكن أن تكون هناك حريّة – ( والتي لا تتمثّل في التفكير فيما نريد، بل في التفكير بشكل مناسب أو سليم، أي وفق ضرورة المفهوم وحدها ) – ولا يمكن أن تكون هناك قدرة حقيقية على الفعل والحياة. وهذا ما يعني أيضا بأنّ الأمر لا يتعلق بالمرة بتعليم الفلسفات بوصفها أنساقا متمايزة، ولا حتى ببناء مجموع كل ّ المجموعات، أو نسق الأنساق التي يمكن نختار من بينها(1)، بل بتوسيع هذه الأفكار بالحدس الأولي، أو الفكر الجوهريّ الذي يغذّيها ويمنحها الحياة. ولا يتعلّق الأمر بتعليم الفلسفات، بل إعادة التنشيط لحسابنا الخاص، لتمرين تفكير هو غنّي كفاية وقويّ، حتى يوجد مجموعا من العقول المترابطة والمتناسقة فيما بينها. ولا يتعلّق الأمر بتعلّم مذاهب، بل بإعادة خلقها انطلاقا من النقطة – المنبع التي ولّدتها، انطلاقا من هذه النقطة التي كتب عنها برجسون في محاضرة رائعة سنة 1911 (2)، بأنّها ” شيء ما بسيط، وجدّ بسيط بشكل خارق بحيث لم ينجح الفيلسوف قطّ في قوله. ولأجل ذلك تكلّم عنه طيلة حياته”. وفي هذا المعنى فعلا يجب أوّلا الاستماع إلى الآخرين كي نتوصّل في النهاية إلى التفكير بأنفسنا: لا من أجل التدرب على أفكار ليست أفكارنا، بل على العكس، من أجل تعلم العثورعلى أنفسنا في فكرٍ، هو لأول وهلة غريبا عنا، وهو ما ليس مستحيلا إلا بشرط أن لا نكتفي بمجرّد تسميع مذهب، بل أن نعيد لحسابنا الخاص اختراع فلسفة انطلاقا من البذرة التي منها نشأت.  

إذا كان هذا هو حقّا تعليم الفلسفة – (وهو ما ليس سهلا دون شكّ، بل نحن نعرف بأنّ ” كل ما هو جميل صعب بقدر ما هو نادر” (3)- فمن الجائز، كي نختم، ذكر الأثر الذي يحدثه مثل هذا التعليم.  يقينا، لا يتعلّق الأمر بإملاء درس، بل فعلا  بتشغيل عملية التفكير. يحدث، كما يقول باشلار، أن نضيّع درسا كما نضيّع نارا، يصدر الخشب أزيزا وأزيزا لوقت  في المدفأة، يحترق ثمّ ينطفئ. لكن يحدث أيضا، أحيانا، أن يكون التعليم فعليا وأن يتَّقِدَ نارا. بأيّ علامة نتعرف على هذا السعير؟ هل بالنشاط الصامت والمنشغل الذي يتبع خيط الحجاج والذي يستمرّ في صمت في عمله السرّي بعد أن ينتهي الدرس، مولّدا حشدا من الأفكار الجديدة والمُلهمة، لمن يسمع ضجيج النحل الداخلي، السلطة المطلقة للتفكير التي فيه. هكذا حدث لي أن قدّرت عمق الحوار مع طلبتي بكثافة صمتهم. وفي كلّ مرّة يواتينا فيها حظّ إثارة هذه الحيرة الخِصْبة، نستطيع أن نقول بأننا لم نضيّع وقتنا . وأن الأمر يستحقّ عناء تكريس حياتنا في تعليم الفلسفة.

______

*جاك داريلا ” محاولات”.

https://www.jdarriulat.net

هوامش:

* – جاك داريلا : أستاذ فلسفة  الاستيتيقا بجامعة السربون.

1- مارسيال جيرو ” فلسفة تاريخ الفلسفة” باريس اوبي مونتاني 1979

2- ” الحدس الفلسفي ” في ” الفكر والمتحرّك” محاضرة لبرجسون 10 أفريل 1911.

3- تلك هي الكلمات الأخيرة لكتاب ” الإيتيقا” لسبينوزا.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة