أجرى الحوار محمد نجيم
راكم الباحث الناقد المغربي والأستاذ الجامعي د. محمد الداهي مؤلَّفات تحوم في مجملها حول السيميائيات الذاتيَّة التي تعنى بانطباع الآثار الذاتيَّة في الخطاب، وبمواقع المتلفِّظ والسارد في الأدب الشخصي (أنواع الكتابة عن الذات)، وبالمشاريع السيميائيَّة والصُّوريَّات التي تُعنى بتمثيلات الذات ناظرة ومنظورا إليها. صدر له مؤخَّرًا كتاب جديد عن المركز الثقافي للكتاب في 400 صفحة (حياة المعنى التدبير السيميائي لمعنى الحياة)؛ ولذا ارتأيت أن أجري معه الحوار الآتي لأخذ فكرة مجملة عنه.
من مؤلَّفاته الصادرة مؤخّرًا: السارد وتوأم الروح (من التمثيل إلى الاصطناع)، متعة الإخفاق (المشروع التخييلي لعبد الله العروي)، سلطة التلفُّظ في الخطاب الروائي العربي، من أرشيف محمد زفزاف.
- يبدو لي عنوان الكتاب ملغَّزًا. ما دلالة هذا اللغز؟
يقدِّم الكتاب تصوّرًا سيميائيًّا عن المعنى من حيث حياته (حياة المعنى) ومشروعه ومآله (معنى الحياة). قد يبدو العنوان تلاعبًا لفظيًّا بقلب مواقع اللفظ في سياقين مختلفين، لكن صياغته على هذا النحو تقتضي معالجة المعاني المختلفة والمتضاربة التي يحفل به الكون، ونصادفها أينما حللنا وارتحلنا، وتفعم حياتنا بأريج المشاعر والأحاسيس، كما تحتَّم علينا أن نختار زاوية من الزوايا المتعدِّدة لتبئير وجهة نظرنا على حيِّز أومجال محدَّد باعتماد المقاربة المناسبة (السيميائيات على سبيل المثال).
- بُني الكتابُ على تدبير المعنى بصفته حياة ومشروعًا للحياة؟ أليس كذلك؟
سعيت إلى إبراز راهنيَّة الموضوع وجِدِّته بالنظر إلى امتداد المعنى وانتشاره في جميع الأنساق و الدعامات الدلاليَّة (المعمار، الإشهار، اللباس، الطعام..)، وملازمته الوجود في مختلف مظاهره وتجلياته أكانت ذات الصلة بالغلاف الإحيائي (الحيز الذي توجد فيه الحياة، وتتقاسمه الكائنات الحيَّة) أو بالغلاف السيميائي(حيز التعدُّد اللغوي والثقافي، ما يميِّز الإنسان بصفته حيوانًا ناطقًا). والحال هكذا، ارتأيت أن أعالجه من المنظورين الآتيين، وهما:
- باحتكاك الإنسان بالعلامات يوميا يعطي لحياته معنى، ويحرص على تدبير هذا المعنى لتحسين علاقاته بالكائنات الحيَّة والموجودات، وتحقيق أهدافه، وتفادي ما يُكدِّرُ ويُنغِّصُ عيشَه. لا يخلو” تدبير المعنى” من توتر وصراع بسبب تضارب المصالح والنزاعات الترابيَّة والمحليَّة. وفي هذا الصدد، حرصت السيميائيات على مقاربة المعنى من زوايا متعددة لإبراز تحركات الإنسان وأعماله (سيميائيات العمل)، وأهوائه ومشاعره (سيميائيات الأهواء)، وقيمه (السيميائيات الأكسيولوجيَّة)، وبيان علاقاته بالموجودات (سيميائيات الأشياء)، وبمَسْرحة الحياة والشعائر الاجتماعيَّة (السيميائيات الثقافيَّة)، وبالممارسات اليوميَّة (سيميائيات أشكال الحياة). وهذا ما حرصت على تحليله بطريقة تركيبيَّة ونسقيَّة حتى يأخذ القارئ العربي فكرة مجملة عن المشاريع السيميائيَّة التي ما فتئت محافظة على سمتها وراهنيتها وجديتها. وهذا ما ينطبق على فهم كينونة الإنسان المعقدة في تساوق مع سعيه إلى تدبير شؤونه اليوميَّة، ومشاريعه المستقبليَّة، وتكريس تشبثه بأهداب الحياة.
ب- ما يحرص عليه الإنسان باحتكاكه يوميا بالكائنات الحيَّة والأشياء هو الرقي بالمعنى من الحالة العابرة والمبتذلة إلى الحالة المستديمة والجديَّة. وهو ما يحفزه على البحث عن المعنى، ويقتضي منه حسن تدبيره حتى لا تكون له عواقب غير محمودة. ومن ثم، ركز السيميائيون على هوى “الإصرار” بصفته شكلا من أشكال الحياة للمضي قدما إلى الأمام أيا كانت الظروف والعوائق. الإصرار شكل من أشكال الحياة الذي يستدعي- علاوة على المؤهلات الذهنيَّة والجِهيَّة واللغويَّة- طاقة نفسيَّة جبارة. أستحضر- في هذا الصدد- شكلين من أشكال الحياة أضحيا شائعين في المجال الرياضي.وهما: “الكرينتا” Grinta (لفظ إيطالي يعنى به المثابرة والعزيمة)، و”الريمنتادا” (Remontada) (لفظ إسباني يعنى به التعافي والعودة القويَّة). يحقق الفريق الرياضي بفضلهما النصر المنشود والنتيجة المرضيَّة دون أن يتأثر بضعف أدائه أو تلقيه هدفا مباغتا في بداية المباراة. وهو ما يتجسد أيضا في إصرار الإنسان على تحدي المصاعب والعراقيل، وتحمل المشقة والعناء سعيا إلى تحقيق أهدافه.
- بتصفُّح الفهرس نعاين أنك عالجت ” حياة المعنى” بطريقة تركيبيَّة ملما بالمرجعيَّة السيميائيَّة كما نهجتها ” مدرسة باريس” لرائيها ألجيرداس جوليان كريماص وأتباعه؟
أشكرك على هذه الملاحظة الذكيَّة. أحرص في كتاباتي بصفتي باحثا أن أتفادى المقاربة المدرسيَّة التي تراهن على تذليل المعارف العالمة وتقديمها في حلة مبسطة وميسرة للقارئ. لا أنفي دور هذه المقاربة التي لها أهميتها وملاءمتها للمساهمة في تثقيف القراء وإرشادهم إلى المعارف المناسبة. أحرص في كتاباتي على معالجة إشكال يستأثر باهتمامي بالنظر إلى تخصصي. سعيت في هذا الكتاب إلى إبراز كيف عالج السيميائيون المعنى من مختلف الوجهات والتصورات أكانت عَمليَّة أم استهوائيَّة أم تلفظيَّة أم ظاهراتيَّة أو أكسيولوجيَّة، ثم التموضع بصفتي في الضفة المقابلة ضمن السيميائيات الذاتيَّة (Sémiotique Subjectale) التي اتخذتُها موئلا ومصدرا لتناول مظاهر التلفظ وتجليات الذاتيَّة في الثقافة العربيَّة، وخاصة في متغيرات السيرة الذاتيَّة (ما أصطلح عليه بسرديات البرزخ).
كل كتاب يفرض علي طريقة لمعالجة محتوياته بالنظر إلى طبيعة القارئ الذي أتوجه إليه. أعرف مسبقا أن السيميائيات هي علمٌ له مُصطلحيَّته ولغته الواصفة ومنهجيته ورواده، وهو ما يحتم علي أن أتوجه إلى جمهور محدد يتمتع بالخلفيات المعرفيَّة المناسبة. ومع ذلك حرصت في الكتاب على المسعييْن التواصلي (مخاطبة جمهور أوسع من القراء) والذاتي (تبني “نقد النقد” بتعبير تزفيتان تودوروف لتقدير جهد باحثين وكتاب سيميائيين تعلمت منهم، واهتديت بهم في مساري الفكري).
- بدا لي – بتصفح الكتاب- أنك راهنت على القارئ المطلع أو القارئ النموذجي بتعبير إمبرتو إيكو. ما الهدف الذي توخيته من وراء ذلك؟
كل كتاب يفرض- كما قلت- على صاحبه أسلوبا معينا بحسب طبيعة الجمهور المستهدف من جهة، وبالنظر إلى الموضوع المعالج من جهة ثانية.
أتاح لي الكتابان الأخيران (السارد وتوأم الروح ، ثم متعة الإخفاق) هامشا من الحريَّة لتطويع النظريَّة حتى تغدو ميسرة ومنقادة لدى القراء على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم. كل قارئ قد يجد فيه ما يناسبه بحسب مؤهلاته وخلفياته. لكن الأمر يختلف في الكتاب الأخير الذي صدر مؤخرا (حياة المعنى)؛ إذ طبيعة الموضوع حتمت علي مخاطبة فئة من القراء سواء من لهم تكوين سيميائي أم هم في عداد الساعين إلى تعرُّف المجال السيميائي الرحب والتخصص فيه. علاوة على ذلك فالمجال السيميائي هو علم له قواعد وضوابط ولغة واصفة، وهو ما يقتضي من أي قارئ أو باحث – قبل الخوض فيه- أن يكون ملما بالمجال، ومطلعا على خباياه وتطلعاته.
حرصت- بالحفاظ على اللغة السيميائيَّة الواصفة- على تقديم تصور شامل للقارئ العربي عن المشاريع السيميائيَّة التي اضطلعت بها ” مدرسة باريس للسيميائيات” (العمل، والأهواء، والأشياء، والثقافة، والكلام)، وبيان الطفرات التي حققتها بالانتقال من المراهنة على القواعد السرديَّة (الخوارزميات السرديَّة الكونيَّة) إلى مواكبة أشكال حياة الإنسان وأساليبه في العيش (سيميائيات المعيش)، وإبراز إشعاعها الكوني بعد أن استوعبت جغرافيات سيميائيَّة جديدة (بما فيها السيميائيات العربيَّة)، واستقطبت اهتمامات متعددة في ربوع المعمورة.
ومع ذلك ما فتئ القراء العرب يجدون مصاعب في فهم الكتب السيميائيَّة بحكم مصطلحيَّتها ومرجعيَّتها ومقصديَّتها، وأحيانا قد يختلط عليهم الحابل والنابل بتطاول أشخاص على المجال وتقحُّمه دون درايَّة. وفي هذا الصدد يتحتم على السيميائيات الانفتاح على ثقافة الآخر بحثا عن تلاقح الأفكار، وتعاضد الرؤى، وتكامل وجهات النظر، وتعزيز سبل العيش المشترك. و هي – في ذلك -تؤدي دورا أساسيا في إعطاء المعنى لحياتنا بمساءلة وجودنا، وتدبير خلافاتنا وصراعاتنا، واقتراح بدائل جديدة للعيش وللسلم المستديم.
ولا بد في الأخير من التمييز بين النقد الانطباعي الذي يصدر أحكاما باعتماد الذوق والتأثير وبين النقد الرصين الذي يستند إلى أدوات ومفاهيم وفرضيات علميَّة. ومع ذلك يستحسن أن ننزل النقد من عليائه أو برجه العاجي حتى يسهم في إثارة النقاش العمومي، و في تنوير الرأي العام بقضايا تهم عموما الوضع البشري. وفي هذا السياق، تندرج مؤلفاتي بالحرص على المواءمة بين الذاتي والموضوعي، بين الجامعة والمحيط، بين المركز والضاحية، بين الفرد والجماعة. وعليه لا بد للنقد من الانخراط في الحياة العامة عوض التقوقع والانقطاع عن شواغل الناس وأهوائهم وتطلعاتهم.