(استعراض لنظريَّة شبكة الفاعلين)
” وعلى كلٍّ فإن (الشيءُ) يستردُ سيطرته على الإنسانِ في مجتمع ما بعد التحضُّرِ، حيث يتمتَّعُ هذه المرَّة (شأنه شأن كل مجتمعٍ استهلاكيٍ) بعالمٍ مثقلٍ بأشياء، بيد أنها أشياء خامدة وخالية من الفعاليّة الاجتماعيّة “ (مالك بن نبي: مشكلات الحضارة – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
” هناك “عالم الأشياء” ويشمل كل الوسائل المادية التي تُنتجها الحضارة، وهناك “عالم الأفكار” الذي يظل مزدهراً لينتج كل تقدم في المجالات المختلفة، ويظل عالم الأفكار في حركية وتدافع وإنتاج وإعمار لعالم الأشياء إلى أن يتمكن (الشيء) من (الفكرة) ويطغى عليها فيؤدي إلى جمودها وسكونها، ولا فرق بين البلاد المتخلفة والمتقدمة في مفهوم طغيان عالم الأشياء لأنه لأسباب عديدة، منها عصور الاستعمار، أصبح التماثل والتشابه كبيراً إلى حدٍ ما، وتطابقت مظاهر المنتج والمستهلك، فأصبح الشيء يطغى في البلاد المتخلفة بسبب ندرته، ويطغى في البلاد المتقدمة بسبب وفرته، فيؤدي هنا إلى عقدة الكبت والميل نحو التكديس، ويؤدي هناك إلى نوعٍ من الإسراف والتشبُّع “ (مالك بن نبي: مشكلات الحضارة – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
كما هو معلوم لدينا أن النظريات النقدية اختلفت في رؤيتها لمشروع الحداثة، نجد أنها اختلقت أيضاً في رؤيتها لمفهوم ما بعد الحداثة، لكن هذه الرؤية – في وقتنا المعاصر – أقل إيديولوجية وتشنجاً، وأكثر مصداقية وقابلية للتعميم من ذي قبل، وتنطلق من مقولة أساسية أن التكنولوجيا هي التي تشكل عالمنا الاجتماعي، أو كما يقال: التكنولوجيا هي محرك التغير، والمعرفة وقودها. وهكذا أصبحت معظم النظريات والمقاربات السوسيولوجية في مرحلة ما بعد الدولة القومية تركز على التكنولوجيا أكثر من الإنسان، إذ يجري الحديث عن سوسيولوجيا المعلومات والمعرفة ومجتمع الشبكة وثورة التكنولوجيا، فهي بهذا مشغولة ببنية هذه الثورة وطبيعتها، أكثر مما هي مشغولة بعالم الإنسان، ولعلها لن تكون قادرة على قراءته تماماً، بالنظر إلى أن ثورة المعلومات جعلت المجتمع في حالة من التغير اللا مستقر والثورة الدائمة. هذه هي إحدى التحديات المعرفية التي تواجه علم الاجتماع الجديد، وهي سرعة تغير المعرفة السوسيولوجية وتقادمها، من جهة، وفقدان القدرة على التنبؤ الاجتماعي، من جهة أخرى، ودخول المجتمع في مرحلة من التغيير أشبه ما تكون بالثورة التكنولوجية الدائمة، التي لا تخدم النظام، بل تدمره تدميراً خلاقاً، وتبعث عن هذا التدمير الخلاق مجتمعاً، تصبح فيه ثورة المعرفة هي النظام والإبداع، والثبات هو الفناء. إن جنون التكنولوجيا هو عنوان هذا التغيير، ودراسة أثرها على تشكيل السلوك الإنساني وإعادة إنتاجه بأنماط مختلفة هو موضوع العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن.
يحاول التحليل ما بعد الاجتماعي تطوير فهم للتغيرات الحالية في العلاقات الاجتماعية بشكل عام. إن ما تطمح إليه نظرية ما بعد الاجتماعية هو تحليل ومناقشة البيئة التي تم من خلالها تحييد مضامين المبادئ والبنى الاجتماعية التقليدية، لتحل محلها العناصر والعلاقات الأخرى. وعلى الرغم من أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فإن طبيعة العلاقات والبنى الاجتماعية في حالة تغير دائم في الآونة الأخيرة بفعل التغيرات والتطورات التكنولوجية، التراكمية التي شهدها الواقع المجتمعي. وعلى العموم، يحاول مصطلح ما بعد الاجتماعي من خلال نظرية شبكة الفاعلين تسليط الضوء على التحولات المعاصرة التي تتحدى المفاهيم الأساسية للتفاعل البشري والتضامن والتعاون الإنساني، والتي تشير إلى ما بعد فترة التكوين الاجتماعي.
نشأت نظرية شبكة الفاعلين من خلال الدراسات الفرنسية والبريطانية، التي تبحث في علم اجتماع العلوم والتكنولوجيا بدءاً من عقد الثمانينيات في القرن المنصرم. وكان من أبرز الباحثين الأوائل في هذا المجال: برونو لاتور (Bruno Latour)، وجون لو (John Law). اعتمدت هذه نظرية في مرجعيتها الفلسفية والمعرفية على دراسات العلوم والتكنولوجيا، والأنظمة التكنولوجية الكبيرة، وعلى أعمال عدد من المثقفين الفرنسيين المعاصرين لفهم طريقة البشر وتفاعلاتهم مع الأشياء غير الحية. ومنذ التسعينيات فصاعداً، أصبحت نظرية شبكة الفاعلين شائعة كأداة للتحليل في مجموعة من المجالات خارج نطاق دراسات العلوم والتكنولوجيا، مثل: التحليل التنظيمي والمعلوماتية والدراسات الصحية والجغرافيا وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والدراسات النسوية والاتصالات التقنية، الاقتصاد.
ينظر في الآونة الأخيرة إلى نظرية شبكة الفاعلين باعتبارها منهجًا جديدًا ومعاصرًا في علم الاجتماع غرضها دراسة الوضعيات الاجتماعية ومبدؤها اعتبار العوامل من أشياء وأفكار وعمليات وغيرها فواعل إلى جانب الإنسان، مما أدى إلى الاستغناء عن مفهوم القوى الاجتماعية. أي إنها تنظر إلى العوامل المادية (بين الأشياء) والمعنوية ( نظام العلامات ” السيميوطيقية ” بين المفاهيم) على حد سواء.
تبحث النظرية المعاصرة في القرن الواحد والعشرين عن مدى تأثير العلم والتكنولوجيا على المجتمعات المعاصرة. فبينما تعاملت النظريات الاجتماعية السابقة مع العلم باعتباره واحداً من العديد من المؤسسات الاجتماعية، فإن النظريات المعاصرة للعلم والتكنولوجيا تُعامل العلم باعتباره قوة مركزية في تكوين وبناء المجتمعات الإنسانية. وبالأخص في مجال التنمية، وفي هذا السياق سنحاول استعراض نظرية شبكة الفاعل والنظريات ذات الصلة لما بعد الإنسانية وما بعد الاجتماعية.
ففي السبعينيات من القرن الماضي، وظّف روبرت ميرتون ” منهجه البنائي الوظيفي ” لدراسة العلوم وتأثيرها على الواقع الاجتماعي وإعادة بنائه، لقد عامل العلم كمؤسسة اجتماعية (متغير مستقل) متوسطة المدى تحكمها الأنماط. بينما لا يرى منظّرو شبكة الفاعلين أن العلم واحد من المؤسسات الاجتماعية المستقلة المتاحة للتحليل الاجتماعي. بل ينظرون إلى العلم على أنه شكل من أشكال المعرفة والممارسة الأساسية والمحورية التي تنظم المجتمع بشكل متزايد وتشكل الهويات. ولمواجهة العلاقات المتداخلة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، كان على علماء العلوم والتكنولوجيا تطوير لغات نظرية جديدة. ومن ثم يعاد التفكير في المجتمع من خلال عدسة العلم.
تعتبر نظرية شبكة الفاعل هي واحدة من أفضل الأمثلة على الطريقة التي أدت بها الدراسة الاجتماعية للعلوم إلى إعادة التفكير في النظرية الاجتماعية. بينما نراجع في هذا القسم عدداً من مفاهيم شبكة الفاعل، فإن الفكرة الأكثر أهمية هي أن المجتمع لا يتكون من فاعلين بشريين وحدهم. ويرى لاتور أن المجتمع المعاصر هو إنجاز يجمع بين الفاعلين من البشر وغير البشر مثل: (الحيوانات الأليفة، والإلكترونات، وأجهزة الكمبيوتر، والهواتف الذكية، وما شابه ذلك….) في الجماعة.
في هذا السياق يستبدل لاتور مصطلح (المجتمع) بمصطلح (الجماعي)، لأن ” المجتمع “، على الأقل كما هو مفهوم تقليدياً، يعني وجود بعض الكيانات المتعالية التي توجه الفعل البشري من الخارج. هنا ينتقد بشكل خاص مفهوم دوركايم للحقيقة الاجتماعية والذي، على حد قوله، قام عليه الكثير من علم الاجتماع المعاصر والنظرية الاجتماعية.
فقد أصبح تطبيق العلم والتكنولوجيا، أو علم التكنولوجيا، أمر حاسم لتشكيل هذه الجماعات الشبكية لأنها تسمح للممارسين بالجمع بين الجهات الفاعلة في مجموعات لم يكن بالإمكان تصورها من قبل. فعلى سبيل المثال، استطاع علماء الأحياء باستخدام مجهر عالي القدرة ” اكتشاف “، ومن ثم “ توظيف ” عامل بيولوجي جديد في التأثير الجماعة، كما هو الحال في جائحة كورونا التي اجتاحت العالم عام 2020، مما انعكس هذا التركيز على التواصل بين العملاء من البشر وغير البشر أيضاً في نظريات ما بعد الإنسانية وما بعد الاجتماعية.
ترى نظرية شبكة الفاعل بأن الكيانات أصبحت تأخذ شكلها وتكتسب سماتها نتيجة لعلاقاتها مع الكيانات الأخرى. في مخطط الأشياء هذا، ليس للكيانات صفات مـتأصلة. إن الموضوعات المادية ينظر إليها على أنها تُنشَأ وتكتسب معنى في شبكة من العلاقات مع الموضوعات الأخرى.
يمكن فهم نظرية شبكة الفاعل على أنها سيميائية (علم العلامات أو الإشارات) مادية. إنها تأخذ الرؤية السيميائية – تلك المتعلقة بنسبية الكيانات، وفكرة أنها تُنتج في علاقات – وتطبق هذا بلا تردد على جميع المواد وليس فقط المواد اللغوية.
هذا المنظور مستمد أكثر من البنيوية، ولكن يتم أخذ وجهات نظر شبكة الفاعل الأساسية الأخرى من نظريات ما بعد البنيوية. أي إن الكيانات تفتقر إلى الصفات المتأصلة، وما هي عليه نتيجة علاقتها بالكيانات الأخرى. وبعبارة أخرى، لا يوجد جوهر لأي كيان أو كائن مادي، بما في ذلك الناس. بالإضافة إلى ذلك، تعارض شبكة الفاعل الفكرة الحديثة جداً للبحث عن الأصول، سواء في التاريخ أو ما يقابله في الوقت المعاصر فكرة أن العوامل البشرية هي أصل كل شيء. وكما هي الحال مع ما بعد البنيوية (وما بعد الحداثة)، فإن شبكة الفاعل أيضاً معارضة للتأسيسية – أي إنها تعارض فكرة أن تحت كل شيء يوجد بناء أساسي وأن مهمة المحلل هي الكشف عن تلك البنية.
ومع ذلك، فإن المفهوم البنيوي الذي يذهب إلى جوهر شبكة الفاعل لا مركزي. بشكل عام، هذا يعني تحويل التركيز من المركز (أو الجوهر، أو الأصل، وما إلى ذلك) إلى الهامش. بشكل أكثر تحديداً، يعني هذا في شبكة الفاعل، التحول من التركيز على اتخاذ الفاعلين بعض الإجراءات إلى التركيز على ما هو موجود، وخاصة الشبكات والكيانات غير البشرية. وهنا يصبح الفاعل جزءاً من الشبكة، أي يمكننا التفكير فيما يتعلق بتحويل ” الفاعل” إلى ” شبكة “.
بذلك يصبح الفاعلون عبارة عن تابعين للشبكات، وبطريقة ما، هم نتاج الشبكات: الفاعلون هم تأثيرات الشبكة، إنهم يأخذون سمات الكيانات التي تشملهم ينتقل التركيز من الاهتمام الحديث بالفاعل إلى الشبكة، والأشياء، والكيانات غير المادية.
إن إحدى أبرز مساهمات شبكة الفاعل أنها فتحت العلوم الاجتماعية لغير البشر. وهكذا أصبحت علاقة غير البشر بالبشر جانباً مهماً فيما تسميه كنور ستينا العلاقات ما بعد الاجتماعية. بذلك بات غير البشر أي الأشياء الأخرى شركاء أدنى للإنسان. وهذا يعني أن ليس البشر فقط الذين يتصرفون بل يمكن للكيانات غير البشرية التصرف أي يمكن أن تكون فاعلة ونتيجة لذلك، يجب استخدام الإطار التفسيري نفسه للفاعلين من كلا النوعين.
إن الفاعلية ليست ما يفعله الفاعل، بل ما يزود الفاعلين بأعمالهم، وذاتيتهم، وقصدهم، وأخلاقهم عندما تعمل مع هذا الكيان الدوري فإنك تحصل جزئياً على الوعي والذاتية والشخصية وما إلى ذلك أن تصبح فاعلاً هو إنجاز محله هذا الكيان فقط.
وهكذا، لا يمكن فهم الجهات الفاعلة (أو الفاعلين) بمعزل عن الشبكات التي توجد فيها والتي هم جزء منها. في الواقع الفاعل والشبكة وجهان لظاهرة واحدة. ولهذا فإن منظِّري شبكة الفاعل يسعون إلى تجاوز الانقسامات التكامل الجزئي – الكلي، وصفة الفاعل – البنية التي ميزت الجانب الأكبر من النظرية الاجتماعية.
بناءً على ما سبق، يسعى كراو فورود إلى تعريف الشبكات وربطها بالفاعلين، ويرى أن الشبكات هي أنشطة متراكبة، يقوم بها فاعلون هي من تكونهم. وهذا يعني أن الشبكة ليست مجتمعاً أو مجالاً مجهولاً للقوى ولكنها مجموع التفاعلات من خلال أنواع مختلفة من الأجهزة، والنقوش، والأشكال، والصيغ في موضع محلي، عملي للغاية، وصغير جداً. لذا فإن التركيز على الشبكات يؤدي إلى الاقتراب أكثر من المحلي، بدلاً من الابتعاد عنه. فمن السهل التفكير في أن الفاعلين البشريين يشاركون في مثل هذه الأدائية، لكن شبكة الفاعل تتجاوز ذلك لرؤية الكيانات المادية على أنها تتميز بالأداء. وهذا يعني أن ما يميز نظرية شبكة الفاعل هو اهتمامها بالكيانات المادية، التي تشارك في توليد المعلومات، وعلاقات القوة، والموضوعات الذاتية والموضوعية. وهكذا، يُعتبر غير البشر مشاركين نشطين في الشبكات، وفي العلاقات الاجتماعية. مثال: كيف تكون أشياء مثل السجاد والديكور أدائية الطابع.
لكن هذا الإطار التفسيري يتجنب أي فصل بين المادة والرمزية من خلال اقتراح العوالم كنتائج للمشاركين الذين إما يقاومون أو يتواءمون بشكل متبادل، حيث تذهب المشاركة إلى ما هو أبعد من البشر لتشمل غير الأحياء كنشطين في أعمال روتينية (وجديدة)، والتي تشكل العالم.
يرتبط تطور نظرية شبكة الفاعلين بأفكار ما بعد الإنسانية وما بعد الاجتماعية. يتم تعريف ما بعد الإنسانية ” من خلال معارضتها للإنسانية، وكذلك تجاوزها. إنها ترفض مفهوم انفصال البشرية عن العالم غير البشري… وتقسيم المعرفة إلى مجالات منفصلة “. لأن الإنسانية تكمن في جوهر علم الاجتماع، وخاصةً التخصصات الاجتماعية الدقيقة، وتشكل ما بعد الإنسانية تحدياً كبيراً لهذا المجال. ومع ذلك، يمكن أن ينظر إليها على أنها فرصة لتوسيع علم الاجتماع بما يتجاوز الجهات البشرية الفاعلة إلى مجموعة واسعة من الظواهر الأخرى وإشراكهم جميعًا في إطار واحد.
تشكل فكرة ما بعد الاجتماعية تحدياً موازياً للأفكار التقليدية في المجتمع قد تستمر الاجتماعية، لكنها تتناقص في أهميتها (يتم تفريغ الأشكال الاجتماعية من العلاقات الاجتماعية) ويتم اتخاذ أشكال جديدة. من بين الأشكال الجديدة العلاقات الناشئة مع التوسع الهائل للأشياء في العالم المعاصر مثل التقنيات والسلع الاستهلاكية وكيانات المعرفة.
إن العلاقات ما بعد الاجتماعية هي روابط بشرية متصلة بعلاقات مع الموضوعات، ولا تتشكل إلا فيما يتعلق بهذه العلاقات… ما بعد الاجتماعية هو ما يمكن أن نسميه مستوى من الهدف المشترك الذي لم يعد قائماً على أساس التفاعل وجهاً لوجه وقد لا ينطوي في الواقع على تفاعل على الإطلاق، وأنظمة ما بعد الاجتماعية قد تنشأ حول نوع الارتباط الذي تم تمكينه بواسطة الإنترنت. فالأشكال اللاحقة للبحوث الاجتماعية ليست ثرية اجتماعياً بالمعنى القديم، لكنها قد تكون ثرية اجتماع بطرق أخرى، والتحدي هو تحليل وتنظير هذه التكوينات الجديدة.
يرتبط ظهور عدد متزايد من العلاقات ما بعد الاجتماعية بتطوير أنواع جديدة من إعدادات العمل والاستهلاك. أحد الأمثلة على الأمر الأول هو ” المنظمات الافتراضية ” التي تفتقر إلى المقر الرئيسي حيث يمكن للعمال أن يتجمعوا ويتفاعلوا للتعامل مع المهام المتعلقة بالعمل، وكذلك الانخراط في العلاقات الاجتماعية. في المنظمات الافتراضية، يتفاعل العمال وحدهم إلى حد كبير على أساس محدود أكثر بكثير مع العمال الآخرين، ومع الرؤساء، عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني أو الزيارات القليلة المباشرة وجهًا لوجه.
هناك العديد من الأمثلة على مثل هذه العلاقات ما بعد الاجتماعية في مجال الاستهلاك. على سبيل المثال، بدلاً من التفاعل مع الصرافين في أحد البنوك، من المحتمل بشكل متزايد أن نتفاعل مع أجهزة الصراف الآلي أو شراء الكتب عبر الإنترنت. في مثل هذه الحالات، تحل التقنيات والكيانات الأخرى محل البشر كشركاء في العلاقة أو تعمل كوسيط في العلاقات بين الناس. غالباً لا يتاح لنا الآن التحدث إلى إنسان حقيقي قبل أن نكون قد استنفدنا كل الخيارات المتاحة عبر الرسالة الهاتفية المسجلة آلياً.
وهذا بطبيعة الحال، الإنترنت هو مثال على ما بعد الاجتماعية بامتياز. نحن نتفاعل مع لوحات المفاتيح، وشاشات الكمبيوتر، ومواقع الويب، والبريد الإلكتروني، وغرف الدردشة، والألعاب الجماعية متعددة اللاعبين، وما إلى ذلك. في بعض الحالات، قد تتضمن علاقات الإنترنت التفاعلات وجهاً لوجه (أحياناً ما تكون لها عواقب خطيرة)، ولكن أياً تكن العلاقات البشرية الموجودة على الإنترنت، فإنها غالباً ما تحدث عبر وساطة مجموعة واسعة من التقنيات المرتبطة به.
خلاصة القول، هذا التحول ما بعد الاجتماعي، والذي يشار إليه في مكان آخر من خلال دراسات العلوم والتكنولوجيا، ونظرية شبكات الفاعلين والعلم التكنولوجي، وما بعد الإنسانية، يدعو الباحثين إلى إبعاد الإنسان باعتباره نواة الحياة الاجتماعية وبالتالي الاعتراف بأهمية الفاعلين غير البشر (مثل الحيوانات، التكنولوجيا) ضمن التحليل السوسيولوجي (ما بعد الاجتماعي).
أهم ما يؤخذ على هذه النظرية أنها تجاهلت تماماً قضايا النزعة الداخلية للإنسان مقابل النزعة الخارجية وجعلته مسلوب الإرادة والحرية بل جعلت منه عبداً مُسَيِّراً بأسلوب حضاري قائم على مفرزات العقلانية التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، كما أنها تتسم بالغموض في تحديد مفاهيمها ومصطلحاتها في ظل غياب شبه تام لوضوح مقولاتها النظرية مما أفقدها القدرة على تفسير الواقع الاجتماعي بشكل موضوعي لأنها جعلت الإنسان تابعاً لعالم الأشياء التي يمتلكها بل أصبحت هي من تمتلكه.
_____
– مراجع المقال:
1. جورج ريتزر، جيفري ستيبنسكي: النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علمياً: ذيب محمد الدوسري وآخرون، مكتبة جرير والجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية، الرياض، ط1، 2021.
2. عبد القادر عرابي: علم الاجتماع والعالم الجديد- مقاربة نظرية ومنهجية جديدة، دار الفكر، دمشق، ط1، 2018.
3. مالك بن نبي: مشكلات الحضارة – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة: بسام بركة وأحمد شعبو، إشراف وتقديم: عمر مسقاوي، دار الفكر، دمشق، ط2، 2002.
4. George Ritzer: Postmodern Social Theory, Rawat Books, India, 1st ed, 2019.
5. Michelle Garbriel & Keith Jacobs: The Post-Social Turn: Challenges for Housing Research, Volume 23, Issue 4, Housing Studies, Received 01 Nov 2007, Published online: 11 Aug 2008, PP.(527-540).
https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/02673030802101666
6. Karin Knorr Cetina: Post social, Encyclopaedia of Social Theory, Edited by: George Ritzer, SAGE Publications, Inc., 2005, Online pub date: September 15, 2007. https://sk.sagepub.com/reference/socialtheory/n223.xml
7. Charlotte Nickerson: Latour’s Actor Network Theory, Simply Sociology, May 12, 2023. https://simplysociology.com/actor-network-theory.html
________
**د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.