ملحدٌ عاشقٌ الله
لا يزال الإنسان قديماً وحديثاً يتساءل عن العلاقة بين الله والعالم؟ مهما كان اسم الدين الذي يعتنقه، ومهما كان شكل تديّنه، ودرجات إيمانه مرتفعة في ترمومتر الزهد والتقوى والالتزام، لا يزال يستفسر عن أثر الله الكامل العلم والقدرة والرحمة والحكمة في عالم مليء بالشّر والظلم والفساد؟ يتأمّل هذا الكون الممتد في ظلام لامتناهي حيث نظام المجرات والنجوم والكواكب متناسق جداً للحفاظ على سيرورة حياةٍ على كوكب أزرق مجهري جوهرها الصراع على البقاء بافتراس القوي الضعيف، ثم يسأل ويبحث ويناقش عن حقيقة كل هذا؟ ولماذا أصلاً هو هكذا؟ ليعود إلى البداية والسؤال الوجودي القديم الحديث عن العلاقة بين الله والعالم؟ فهل هما متمايزان ولا تداخل وتدخل بينهما؟ أم هما متحدان؟ أم هناك تفسيراً آخر؟
من المذاهب الدينية التي قدّمت إجابة أو بتعبير أدّق (إجابة عند أصحابها)، نجد تيار “وحدة الوجود” في المدارس الصوفية، والمقصود بهذه الفكرة بصفة عامة أنّ الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله.
يعتبر الحاخام الفيلسوف اليهودي اسبينوزا من أشهر المنظّرين لفكرة وحدة الوجود رغم أنهّا أقدم منه بكثير (قال بها متصّوفة هنود وإغريق)، حيث نجده في أعماله يتحدث عن الله والطبيعة وكأنّهما مترادفان، وهذه تُعتبر هرطقة وزندقة في كل الأديان (المذاهب الأرثوذكسية)، ولكن اسبينوزا استخدم لغة يفهمها البشر، فإذا فسّرنا نظريته على أنّ الله هو العالم، وجّب أيضاً البحث عن تفسيرٍ للفظة الهوية “هو”، فهل قصد الرجل أنّ الكلمتين (الله / العالم) تطلقان على شيء واحد؟ بمعنى أدّق: هل قصد أنّ كلمة “الله” ما هي سوى اسم آخر للعالم؟
للأمانة الرجل لم يشر إلى هذا القصد لا من قريب ولا من بعيد، ولو فعل (لا نعلم النوايا وما في القلوب)، فهذا غباء وضرب من الجنون في استخدام اللغة (تخيّل شخص يطلق اسم فيل على منزل، اسم سماء على بيضة …).
الراجح أنّ مقولة اسبينوزا لا يمكن فهمها من دون وضعها في سياقها الطبيعي، أي تجربة صوفية فردية حيث اللغة تتحّول إلى مجموعة من الرموز والإشارات، تأويلها يؤدي إلى نتيجة واحدة ملخصها أن وحدة الوجود عند اسبينوزا تتضمّن الهوية في التمايّز والاختلاف بين الله والعالم، أي أنّ العالم متحّد مع الله ومختلف عنه في آن واحد، وهذا ما يُعرف ب “مفارقة وحدة الوجود”.
في كتابه الأخلاق يرى أن الوجود جوهر وصفات وحال (نفس ما قالته المعتزلة في نظرية المعرفة)، ونجده تارة يعتبر الجوهر (الله) يتألف من الصفات، هذا الاتحاد مع الصفات هو نفسه معناه الاتحاد مع العالم، ثم في صفحات أخرى من نفس الكتاب يناقض أقواله باعتبار الجوهر وجود متميّز، وهكذا نفهم منه تارة أن الجوهر حامل للصفات، وتارة أخرى على أنّه مجموعة الصفات، وينتج عن تأويل الأول تصّور الله مفارق للعالم متميّز عنه، وفي التأويل الثاني لا فرق بينهما لإتحادهما.
اجتماع التضاد في تفكير اسبينوزا يُعتبر مغالطة منطقية في عقولنا، ولكن في التفكير الصوفي فلسفة قائمة بذاتها ناتجة عن امتزاج مشاعر وعاطفة الباحث عن معرفة الله مع تفكيره ونظره العقلي، والراجح أن اسبينوزا كان ذا عقل صوفي تارة، وعقل لاهوتي تارة أخرى وهو ما سبب الاختلاف في تصنيفه، فمن قرأ مقولته الشهيرة “الله أو الطبيعة” وفهِم منها أن الله ما هو سوى تسمية أخرى للطبيعة، فمنطقي جداً أن يراه “ملحداً منكراً لوجود الله”، ومن رآه صوفيّاً وفهِم العبارة من هذا المنطلق العقائدي، أي أنّ الله غير منفصل عن العالم ومتميّزاً عنه، فبلا شك سيراه “مؤمناً عاشقاً لله باحثاً عنه في عالمه”.
في الأخير، يمكن القول أنّ نظرية وحدة الوجود الصوفية التي تبحث العلاقة بين الله والعالم وترى أنّها حالة اتحاد، ترى أيضاً في نفس الوقت باختلاف الطبيعة بينهما وتمايزهما، مع التأكيد أن الموضوع لا يزال يثير أقلام الباحثين في العقائد وخاصة الباطنية منها نظراً لصعوبة تشفير لغتها، ألغازها، بالإضافة لطابع السريّة التي تحيط بها إذ في الغالب ما يصّرح به الصوفي الفيلسوف ظاهراً للناس وفي كتبه ليس ما يبطنه ويسّره لخاصته.
——–
* العفيفي فيصل، أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في أصول الدين – جامعة تلمسان / الجزائر.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.