يحقِّق مسلسل الأنمي Record of Ragnarok بأجزائه الأربعة لحدِّ الآن في انتظار إصدار البقيَّة على أعلى أرقام المشاهدة عالميًّا رغم حظر عرضه في كثير من الدول وخاصَّة الإسلاميَّة منها، موضوع القصَّة باختصار يبدأ حينما قرّرت الآلهة بقيادة رئيسها “زيوس” القضاء على البشر نظرًا لفسادهم في الأرض، تتدخَّل بعض أنصاف الآلهة للمعارضة مستخدمة حيلة ربّما قد تنجح في إنقاذ الجنس البشري من حتميّة الفناء رغم أنَّ نسبة النجاح شبه معدومة، الحيلة تتمثَّل في إعادة تجريب الجنس البشري ولكن بشكل مباشر وذلك بإقامة منازلات فرديَّة بين أقوى الآلهة وأقوى البشر، والفريق الفائز هو الذي يتغلَّب في سبع معارك من أصل ثلاثة عشر وعلى أثر هذه النتيجة يتّم إصدار الحكم النهائي حول مصير البشر، سخِرت الآلهة من هذا الاقتراح لأن الحرب بين الأرض والسّماء محسومة لعدم توازن القوى، ولكن وافقت لغرورها معتبرة أنّ هذه المعارك ستكون مجرَّد تسلية لها.
بدأت هذه المعارك وليس لي أي تعليق لا على المحتوى ولا على الشكل، ولكن خلال الجزء الرابع وقع حدث ترك الجميع في صدمة من شدّة الذهول، مفاجأة من العيار الثقيل لم تخطر على بال أحد (لا على شخصيات الأنمي ولا على المتابعين وأنا منهم)، لقد قام “بوذا” وهو من الآلهة بالتحالف مع البشر والقتال إلى جانبهم، لقد فضّل بوذا الاصطفاف مع الإنس، وفعلاً قاتل أحد الآلهة وصرعه مانحاً الفوز للبشر، فلماذا قام المخرج الياباني بهذه الحركة غير المنتظرة إطلاقًا، مع العلم أنَّ منتج الأنمي شركة يابانيَّة عملاقة ممنوع الخطأ عندها؟ وكيف يمكننا فهم جرأة جعل بوذا صاحب ميولات إنسانيَّة رغم أنَّ أتباع الديانة البوذيَّة حوالي نصف مليار نسمة في العالم؟ بل وما تفسير هذا والدين البوذي أصلاً منتشر بقوَّة في اليابان؟
أسّس البوذية الحكيم “سيدهارتا” (563 – 483 ق م)، معروف بلقب “بوذا” الذي معناه “المستنير”، وهو مرتدّ عن الديانة البراهمانية بسبب طقوسها المعقَّدة في عبادة الآلهة وكذلك تكريسها لنظام طبقي غير عادل بين الناس، ورغم قبول بوذا بعض التعاليم الفيدية كالكارما والتناسخ في مسألة الجزاء، إلا أنه لم يدعُ إلى عبادة أي إله، ولهذا الكثير من علماء الأديان لا يصنفون البوذية مع الأديان (لعدم وجود معبود مقدّس)، والسبب أنّ بوذا رأى أنّ الأصل في الوجود العدم وبمثله تكون النهاية، وهكذا اعتبر أنَّ الخلاص يكون بالاتحاد مع العدم والتحرُّر من الوجود (أي من الحياة بكل مظاهرها كالعواطف والوعي والإرادة)، وهذه الحالة تسمى بـ”النيرفانا”.
لقد تغيّرت عقائد البوذية مع مرور الأجيال حيث تفرَّقت إلى مذاهب اتَّخذت شكلاً دينيًّا، ويمكن اليوم القول بوجود مدرستين كبيرتين، مدرسة يُعتبر فيها بوذا إنسانًا حكيمًا وليس إلها، تسمى “الترافادا”، وهي منتشرة في تايلاندا، سريلانكا، بورما، كمبوديا، ومدرسة ثانية يُعبد فيها بوذا كإله، تسمى “الماهيانا”، جوهر العقيدة فيها أن بوذا إله تجسّد في شكل بشري ونزل إلى الأرض لخلاص المؤمنين به (تقريباً نفس العقيدة المسيحية)، وتنتشر بكثرة في الفيتنام، اليابان، الصين، كوريا، منغوليا وبعض المناطق في الهند، وقد يختلف اسم بوذا باختلاف لغات هذه الشعوب، فمثلاً عند المغول يسمى “لاما”، أمّا في الصين فيسمى “فو”.
بالعودة إلى اليابان، فإنَّ الديانة الرئيسية في هذا البلد هي “الشنتو” التي تعني “الطريق إلى الكامي”، وهي قائمة أساسًا على الإيمان بقوى خفيَّة فاعلة في الوجود تسمَّى “الكامي” ووجوب عبادتها لنيل رضاها، هذه العبادة تكون من خلال الطبيعة لأنَّ الكامي موجود في كل شيء (النباتات، الحيوانات، الجبال، الصخور، البحار، الأودية، النجوم والكواكب …)، لقد تجسَّدت هذه الفكرة الدينيَّة في الكثير من الرسوم المتحركة المشهورة عالميًّا مثل دراغون بولزاد والقناص.
تغلغل وانتشار البوذيَّة داخل المجتمع الياباني خلق نوعًا من الدمج بين الديانتين البوذيَّة والشنتويَّة، ولهذا عمّ استخدام التماثيل البوذيَّة لتمثيل الكامي، كما استعارت الشنتويَّة الكثير من الطقوس البوذيَّة للعبادة والتأمُّل ولهذا يقيم أغلب اليابانيِّين على سبيل المثال شعائر الجنازات في المعابد البوذيَّة، في حين يحيُّون احتفالات الزواج في المعابد الشنتويَّة.
أمام النفوذ البوذي في اليابان، ظهر في منتصف القرن التاسع عشر محاولات قويَّة لتخليص ديانة الشنتو من هذا الانصهار وإعادتها إلى أصولها، وهكذا تمّ إعلانها ديانة وطنيَّة رسميَّة سنة 1868م بل وربطها بالنظام الإمبراطوري الحاكم وذلك بإرجاع العائلة الإمبراطوريَّة لجذور سماويَّة مقدَّسة، إلا أنَّ هذا لم ينجح بسبب رفض بعض الأباطرة فكرة إرجاع أصلهم إلى الآلهة من جهة، وكذلك هزيمة اليابان في الحرب العالميَّة الثانية وسقوط هذا النظام الحاكم من جهة أخرى.
في الأخير، اعتقد أنَّ اليابان تريد الحفاظ على دين شعبها الضارب في عمق التاريخ أي الشنتو، والتركيز على البوذيَّة ليس عبثاًا بل لأنَّها ديانة تمكَّنت من احتواء الشنتو عكس بقيَّة الأديان الأخرى الموجودة في اليابان كالمسيحيَّة والإسلام (غير قابلة للتماهي مع غيرها)، وحرص المخرج على تصوير بوذا مع الآلهة في البداية ثم جعله فيما بعد مع البشر خطوة ذكيَّة للتذكير بوجود مدرسة بوذيَّة كبيرة تؤمن ببشريَّة هذا الشخص ودفع اليابانيِّين المؤمنين بألوهيته بالبحث في المسألة … ويبقى العقل الياباني رائدًا في الإبداع ليس في المجال التقني والتكنولوجي فقط كما يظن الكثيرون، بل حتى في مجال العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة.
_____
العفيفي فيصل / أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في أصول الدين بجامعة تلمسان – الجزائر.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.