لقد مارس البشر التربية منذ القديم، وان كانت هذه الممارسة تتميز بالتلقائيَّة، وتغلب عليها العفويَّة والبساطة،كما هو الشأن في المجتمعات القديمة، وكانت التربية في البداية تشترك دلاليا ومفهوميا مع مفهوم التنشئة، وقد أتت مرحلة أخرى أكثر تقدما وتطورا من المرحلة الأولى،وهي المرحة المسماة بالمرحلة الفلسفيَّة، إذ اندمجت التربية مع الفلسفة،وكان هذامع فلاسفة اليونان الذين جمعوا بين التربية مع الفلسفة، اذ حملت أفكارهم الفلسفيَّة لمحات وإشارات، ونقول لها علاقة مباشرة بالتربية والتعليم، وبالقيم النبيلة التي ينبغي أن يتحلى بها الفرد في المجتمع، من ذلك أن وظيفة التربية، متحدّدة في تحقيق الفضيلة للإنسان ومدّ المجتمع بالقيم النبيلة.
كما كان لفلاسفة اليونان نظرات عميقة حول الذكاء الإنساني، وحول التميز المعرفي والتفوق المدرسي، التي يختص به بعض الأفراد دون غيرهم، فقد ضيق أرسطو الفيلسوف اليوناني مستويات عند الإنسان، وجعل نطاقه مقيد ببعض الفئات دون الغير،وهي فئة النبلاء الذي يحكمون البلاد، كما قيده في بعض العلوم بعينها وبذاتها، وأعني علم الرياضيات.
وبصفة إجماليَّة كانت التربية عند اليونان تراهن على تحصيل القيم، واكتساب الفضائل الإيجابيَّة للإنسان، ومد الإنسان بالأخلاق الحميدة،فالإنسان الفاضل هو ذلك الإنسان الحامل للمثل والقيم العليا التي ترضي .
ومن الآثار التربويَّة التي حصرت عند أرسطو، شعاره لا أدرس من يكرهني،أي أن العلاقة التواصليَّة الإيجابيَّة هي سر نجاح العمليَّة التعليميَّة.
ومن الإشارات والأفكار التربويَّة والنفسيَّة في الفلسفة اليونانيَّة إشارة الفيلسوف اليوناني، أفلاطون أن التربية سلوك ملازم للإنسان يعيش معه منذ ولادته الى وفاته،بل ان التربية تغطي جميع مراحل الإنسان، والإنسان المثالي في نظر أفلاطون هو من تحلى بالخلاق والقيم النبيلة، ومما قاله أفلاطون في هذا الموضوع المتعلق بإعداد الإنسان، إننا نحتاج لصناعة رجل خمسين عاما .
l faut cinquante ans pour faire un homme[1]
ومن اجتهادات أفلاطون في التربية أن مقياس الذكاء هو التمكن والتميز في علم الرياضيات دون غيره من العلوم، فالذكي من كان متفوقا في علم الرياضيات،أما باقي المعارف، فهي ليست معيارا للقياس الذكاء .
وكان شعار أفلاطون أن من ليس له معرفة بعلم بالرياضيات، فلا يدخل الى جمهوريتنا، ولا يلج مؤسساتنا التعليميَّة، فجعل علم الرياضيات هو البوابة والمدخل لمن أراد الولوج الى الجمهوريَّة..
-المحطة الاسلاميَّة
شكلت الممارسات التربويَّة عند المسلمين محطة بارزة، ومرحلة متميزة، في اشتغال علماء الإسلام على المعارف والعلوم ذات الصلة بالمجال التربوي، فحق أن نقول ونعترف مبدئيا بأن علم التربية هو من أهم العلوم التي أنتجتها واحتضنتها الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة في امتداداتها المكانيَّة والزمانيَّة.
ما يعني أن علم التربية كان من مشاغل واهتمامات علماء الإسلام قديما وحديثا، رغم اختلاف اختياراتهم وتنوع تخصصاتهم، وتعدد رؤاهم في التربية من حيث الأدوار والوظائف والمهام،إلى درجة أن الاتفاق حاصل بين الباحثين بأن التراث التربوي الإسلامي شكل حلقة مهمة، ضمن المسار التاريخي الطويل الذي قطعته ومرت منه التربية وعلومها [2].
ومن أبرز التجليات الدالة والمؤكدة على حضور الممارسات التربويَّة في الحضارة الاسلاميَّة، تلك المؤلفات التي دونت، وألفت في التربية، وهي المؤلفات التي تؤكد بقوة على مدى حضور واشتغال علماء الإسلام على التربية،وعلى طرق التدريس،على مناهج وطرق التربية والتعليم.
ومن هذه الكتب تي نسوقها مثالا وشاهدا للتأكيد والتعبير على مدى اهتمام علماء الإسلام بالتربية والتعليم كتاب:”الفكر التربوي الإسلامي عبر النصوص” لمجموعة من الباحثين،
و هذا الكتاب أنجز تحت إشراف الدكتور محمد الدريج[3]، وهو من إصدار مجلة علوم التربية المغربيَّة،وكان سنة الإصدار هي سنة: 1992.[4] إذ جاء هذا الكتاب حافلا بالنصوص والنقول، ومتضمنا لعدد من الوثائق والمخطوطات النادرة، التي تظهر مدى حضور الممارسات التربويَّة بقوة بين علماء الإسلام.
ولا ينبغي أن يفوتنا في هذا السياق كتاب “التربية في الإسلام” لمحمد فواد الأهواني، الذي طبع أكثر من طبعة أخرها الطبعة السادسة الصادرة عن دار المعارف بمصر سنة : 2002، ونظرا لأهميَّة هذا الكتاب، فقد اختار الفيلسوف المصري المعاصر مصطفى عبد الرزاق: ت1947م[5]أن يصدره بمقدمة نفيسة، قدم فيها توصيفا عاما، وخلاصة شاملة وجامعة للتربيَّة في الاسلام، ومدخلا تعريفيا حول التراث التربوي الإسلامي، وامتداداته في التاريخ، وأعلامه الكبارالذين صنعوا الفكر التربوي الإسلامي، وموقعه بين الحضارات التي اشتغلت على التربية، وأبرز الشخصيات الذين كتبت وشاركت في التأليف في التربية،وفي علومها .
وتبقى المحطة الإسلاميَّة من أبرز المحطات اشتغالا على التربية والتعليم والتدريس.
أعلام اسلاميَّة في التربية :ابن خلدون وعلم التربية
-ابن خلدون وعلوم التربية
من علماء الاسلام الذين كانت لهم اجتهادات عميقة في التربية،وتركوا بصماتهم في تاريخ التربية، العلامة ابن خلدون ت808 ه الذي كانت له مساهمات و مشاركات واجتهادات رائدة، واختيارات متميزة في التربية، وكان يدعو الى التدرج في عمليَّة التعلم والتعليم، وفي اعتماد اساوب الرفق في تربيَّة الطفل.
وقد اعتنى علماء الغرب بالمجال التربوي عند ابن خلدون، فمن الاشارات التي اشارت اليها الباحثة والخبيرة الكنديَّة في علوم التربيةفيمهن التربية والتعليم MENSIA, MongiaArfaأن ابن خلدون له اجتهاد واراء عميقة في المجال التربوي والتعليم، بل انه سبق زمه في هذا التخصص العلمي .
وقد خصصت هذه الباحثة ابن خلدون بدراسة واسعة وشاسعة، عرفت فيه بالتراث التربوي الخلدوني، اختصرت فقراتها ، وجمعت عناصرها ومحاورها في بحثها المنشور على صفحات المجلة الدوليَّة لعلوم التربية ” Revue internationale d’éducation Sèvres“العدد: 79.السنة2018 :décembre:.وجاء بحثها بهذا العنوان:Ibn Khaldun, une théorie del’éducation en avance sur son temps
ومما قررته الباحثة في هذا السياق أن أفكار ابن خلدون التربويَّة سبقت زمنه وتخطت عصره، ولا أدل على ذلك من قولها الصريح :
“Les idées d’Ibn Khaldûn, en avance sur leur temps“
ومن الإشارات التربويَّة الأخرى التي جاءت في هذه الدراسة، أن ابن خلدون يرى أن قيمة العلوم تتحدد فيما تسديه وتقدمه من قيمة أو من منفعة للإنسان،فلاقيمة لأي علم لا يسدي للإنسان أيَّة منفعة في عاجلته وأجلته، وهذه الإشارة العلميَّة قريبة مما يطلق عليه اليوم مصطلح العلوم الإجرائيَّة التطبيقيَّة النفعيَّة الخامة للإنسان. [6].
ومما كشفته هذه الباحثة أن كتاب المقدمة غني بالإشارات التربويَّة في المجال المتعلق بتربيَّة الطفل،ومن أراء ابن خلدون في التربية أنه انتقد أسلوب العقاب البدني للمتعلم الذي كان سائدا في زمنه، وطلب من المعلمين استخدام الرحمة والليونة مع المتعلم قال في المقدمة : “ينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبد في التأديب[7].
فالعقاب البدني له تداعيات سلبيَّة على المتعلم، وأضرار جسيمة، ويعمل على إفساد أخالقه، وبذلك لا يتحقق الهدف من التعليم, ويقول في هذا المعنى “من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وحمل على الكذب .[8]
ومن الإشارات التربويَّة الأخرى التي جاءت في هذه الدراسة، أن ابن خلدون يرى أن قيمة العلوم تتحدد فيما تسديه وتقدمه من قيمة أو من منفعة للإنسان،فلاقيمة لأي علم لا يسدي للإنسان أيَّة منفعة في عاجلته وأجلته، وهذه الإشارة العلميَّة قريبة مما يطلق عليه اليوم مصطلح العلوم الإجرائيَّة التطبيقيَّة النفعيَّة الخامة للإنسان. [9].
ومما كشفته هذه الباحثة أن كتاب المقدمة غني بالإشارات التربويَّة في المجال المتعلق بتربيَّة الطفل،ومن أراء ابن خلدون في التربية أنه انتقد أسلوب العقاب البدني للمتعلم الذي كان سائدا في زمنه، وطلب من المعلمين استخدام الرحمة والليونة مع المتعلم قال في المقدمة : “ينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبد في التأديب[10].
فالعقاب البدني له تداعيات سلبيَّة على المتعلم، وأضرار جسيمة، ويعمل على إفساد أخالقه، وبذلك لا يتحقق الهدف من التعليم, ويقول في هذا المعنى “من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وحمل على الكذب .[11]
-مؤلفات ومصنفات إسلاميَّة في التربية
-العلم والمتعلم للإمام ابي حنيفة النعمان ت
-أدب الدنيا والدين للماوردي ت صدر عن دار إحياء التراث العربي 1987 .
-كتاب العلم للحارث المحاسبي ت243ه [12].
-سياسة الصبيان لابن الجزار القيرواني ت 369 ه
طبعة دار الغرب الإسلامي: 1984.
-كتاب السياسة لابن سينا ت 428 هـ.
-رسالة المعلمين للجاحظ ت299ه.
-تهذيب الأخلاق لابن مسكويه 421 ه.
-الأخلاق والسير لابن حزم ت 456ه.
-ا جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر النمري القرطبي[13]
– الرسالة المفصّلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين للقابسي ت349ه.
“آداب المعلمين والمتعلمين”.-ابن سحنون القيرواني ت256ه الذي اشتهر بكتابه
-أيها الولد لأبي الغزالي ت505ه.
-منهاج المتعلم لأبي الغزالي ت505ه. فاتحة العلوم للامام الغزالي
-سراج المريدين لابن العربي الاشبيلي ت543 ه
-النصيحة الولديَّة لأبي الوليد الباجي،وهي نصيحة نالت شهرة كبيرة بين الباحثين[14].
-8Platon – Premier théoricien de l’éducation: Georges Minois:-131-
بحث نشر بمجلة العلوم الإنسانيَّة- Sciences Humaines– الفرنسيَّة العدد45السنة2016-2017
[2]-الفكر التربوي عبر النصوص لمجموعة من المؤلفين تحت إشراف الدكتور محمد الدريج إصدار مجلة علوم التربيَّة الرباط المغرب السنة1992.ص:19
[3] -محمد الدريج خبير تربوي مغربي وهو من هيئة التدريس بكليَّة علوم التربيَّة بالرباط المغرب نشر عدة دراسات وبحوث تربويَّة ،كما أدار عددا من المجلات التربويَّة المحكمة منها مجلة الدراسات النفسيَّة والتربويَّة.وهو عضو بعدة جامعات عربيَّة ،اشرف على عدد كبير من الرسائل والاطاريحالجامعيَّة بكليَّة علوم التربيَّة بالرباط المغرب.
[4]-بيبلوغرافيا التربيَّة الإسلاميَّة والتعليم الإسلامي إعداد مجلة الدراسات النفسيَّة والتربويَّة الرباط المغرب : العدد-9السنة:1984.
[5]مصطفى عبد الرزاق ت: 1947م ،يعد رائد الفلسفة العربيَّة الإسلاميَّة مصطفى عبد الرزاق من ابرز مؤلفاته الفلسفيَّة : تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميَّة وكتابه: “الإمام الشافعي”، وصدر ضمن سلسلة أعلام الإسلام سنة: . 1945م. جمع أخوه الشيخ علي عبد الرازق مجموعة من مقالاته التي نشرها في الجرائد والمجلات في كتاب تحت عنوان “من آثار مصطفي عبد الرازق” مع مقدمة للدكتور طه حسين، وصدرت سنة: . 1957
[6]ابن خلدون في الخطابات العربيَّة المعاصرة دراسة تصنيفيَّة وتحليليَّة” للدكتورعبد العظيم, صالح. مجلة العلوم الاجتماعيَّة. المجلد 34 العدد 3: .الكويت: جامعة الكويت. ص: 41
[7]ـالمقدمة 4ص:554
[8] المقدمة لابن خلدون:447
[9]ابن خلدون في الخطابات العربيَّة المعاصرة دراسة تصنيفيَّة وتحليليَّة” للدكتورعبد العظيم, صالح. مجلة العلوم الاجتماعيَّة. المجلد 34 العدد 3: .الكويت: جامعة الكويت. ص: 41
[10]ـالمقدمة 4ص:554
[11] المقدمة لابن خلدون:447
[12]-اشتهر الحارث المحاسبي ت243 بكتبه وبمصنفاته في التربيَّة في بعدها الروحي ، وبالأخص بكتابيه رسالة المترشدين وبكتاب : العلم الذي حققه محمد عابد وصدر عن الدار التونسيَّة 1987.
[13] صدر دار الكتب العلميَّة السنة:1978
[14]ـ-رسالة أبي الوليد الباجي حقت اكثر وقد حققها الدكتور جودة تحقيقًا جيدًا ونشرها بمجلة المعهد المصري للدراسات الإسلاميَّة بمدريد، سنة 1955م، .