التنويريفكر وفلسفة

فلسفة الأخلاق والتحليل النفسي عند إريك فروم؛ قراءة في كتاب الإنسان من أجل ذاته

”لا بد لفلسفة الأخلاق كذلك أن تدرس ما يمكن أن نفعله لتلبية مطالب التزام… أي إنها معنية بالمسؤولية الإنسانية“. ” كأن يكون المرء مسؤولاً عن الآخرين وعن نفسه هو الأساس لما ندعوه (الحرية) بالمعنى الأخلاقي“/ (إريك فروم: الإنسان من أجل ذاته ” بحث في سيكولوجية الأخلاق “، ص7).

يهدف المقال إلى توضيح محاولة إريك فروم ربط الأخلاق بنظرية التحليل النفسي لتطوير فلسفة الأخلاق، ولمعرفة ما هو جيد أو رديء يجب علينا معرفة الطبيعة الإنسانية، بالإضافة إلى توضيح موقف فروم من علم النفس الحديث ولا سيما التحليل النفسي الذي لا ينفصل عن الجانب الأخلاقي لأن هدفه الأساسي- حسب فروم- هو المساعدة على تطوير طاقات الإنسان الذاتية باتجاه النشاط والإنتاجية مما يلزم استيعاب الأخلاق الإنسانية من حيث آلية تشكّلها وتأطيرها للواقع الاجتماعي بغية معرفة طبيعة الإنسان الداخلية على اعتبار أنه كائن عاقل يختلف عن المخلوقات الأخرى وله خاصية جوهرية هي الأخلاق التي يتميز بها الإنسان، فالأخلاق هي منظومة كاملة للحياة ولا تستقيم إلا بها.

إن البحث في المعايير المتعلقة بما ينبغي أن نفعله وألا نفعله يسمى فلسفة الأخلاق. وهي إذ تحدد لنا كيف علينا أن نتصرف بوصفنا قوى فاعلة تتخذ لا محالة شكل علم معياري. ولا بد لفلسفة الأخلاق كذلك أن تدرس ما يمكن أن نفعله لتلبية مطالب التزام، أو لنقل ذلك بطريقة أخرى، إنها معنية أساساً بالمسؤولية الإنسانية. وليست المسؤولية ببسط العبارة نتيجة للحرية، بل العكس: فإن يكون المرء مسؤولاً عن الآخرين وعن نفسه هو الأساس لما ندعوه الحرية بالمعنى الأخلاقي.

يعتبر عالم النفس والفيلسوف النقدي الألماني إريك فروم (1900-1980) من بين أهم المفكرين في القرن العشرين نتيجة الاسهامات الكبيرة التي قدمها في مختلف مجالات التفكير الإنساني حيث جمع بين التحليل النفسي والدراسات الفلسفية النقدية في تشخيص حال العالم المعاصر والقضايا الحاسمة التي أصبحت تتحكم في جميع مجالاته الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية وغيرها من المجالات الأخرى ذات العلاقة المباشرة بالإنسان ومصيره.

مقالات ذات صلة

بناءً عليه اعتبر سؤال الإنسان من القضايا المحورية والأساسية في الوقت ذاته التي شغلت بال المفكرين والفلاسفة والباحثين في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية نتيجة الأبعاد الرئيسية التي يطرحها هذا المفهوم على الصعيد العالمي في ظل الرهانات الجديدة التي يعيشها العالم اليوم.

حاول فروم أن يعالج الوضع المتردي الذي وصل إليه الإنسانفي ظل حضارة المجتمع الصناعي المتقدم، حيث أوجد التطور التكنولوجي إنسان يعيش حالة من القلق، والإحباط، والتوتر في حياته اليومية، كما أدت السيطرة المتزايدة للوسائل التكنولوجية على حياة الإنسان المعاصر إلى اغترابه عن الأشياء التي صنعها بيديه، فأصبح عبداً لها تتحكم به، فبعد أن كان هذا الإنسان غاية في حد ذاته أصبح وسيلة لغايات أخرى. كل ذلك أدى إلى زيادة عزلة الإنسان عن بني جنسه وأصبحت علاقته معهم ليست على أسس قيم المحبة والأخوة والإنسانية، بل على أساس السلع المادية التي تُباع وتُشترى، وبالتالي فقد كل القيم الإنسانية والأخلاقية المتأصلة فيه.

في حقيقة الأمر، لعب كتاب إريك فرومالفرار من الحرية ” 1941 دوراً كبيراً في لفت انتباه مثقفي الولايات المتحدة إلى أهمية التعديلات الذي قام بها فروم في إدخالها على نظرية التحليل النفسي لدى سيغموند فرويد. من خلال الدراسة الأصيلة والعميقة التي قام بها فروم للأسباب النفسية والاجتماعية التي سمحت للحكم الدكتاتوري المستبد أن ينمو في العالم الحديث.

بذلك سعى فروم إلى تجاوز نظرية فرويد التي تقرر أن الإنسان مخلوق غير اجتماعي في صميمه، يخضع لدوافع بيولوجية ثابتة، على المجتمع أن يروضها ويوقفها عند حد معين، من خلال صياغة نظرية ديناميكية عن الإنسان الذي له حاجات فسيولوجية دون شك، غير أن له أيضاً حاجات لا تقل عن ذلك ضرورة يبغي من ورائها أن يحقق ارتباطاً قوياً بينه وبين العالم وبينه وبين نفسه.

يرى فروم أن الحرية التي حصلنا عليها أخيراً، نجمت عن نمو قوى عديدة من الضمير الفردي والسيطرة الخارجية، منذ عصر النهضة الأوروبية، هذه الحرية يصاحبها إحساس متزايد بالعشوائية والوحشة والعزلة. والمعضلة التي برزت في الثقافة الغربية المعاصرة هي أن الحرية للفرد الفذ المسؤول نسبياً قد باتت عبئاً عليه و ” التحرر من
 الصور القديمة للسيطرة، هذا النوع من التحرر السلبي لم يتطور إلى ” التحرر نحو ” حياة منتجة يحقق فيها صاحبه ذاتيته. والبحث الذي قام به فروم في الوسائل المعروفة التي يحاول بها أقل المحدثين نجاحاً أن ” يفر من الحرية ” لم يلق ضوءاً جديداً على حكم الاستبداد والمتحمسين له فحسب، بل ألقى كذلك ضوءاً على المشكلات الكبرى التي يجب أن تفهم وتذلل إذا أردنا لحرية الإنسان البقاء.

تنبثق أهمية آراء فروم خاصةً عند قيامه بتحليل الإنسان بالمعنى الاجتماعي بما لديه وهب القدرة على ترجمة الآراء المتعلقة بالعلاج النفسي إلى لغة يستطيع القارئ العادي أن يفهمها، بل إنه ليستمتع بها في أكثر الأحيان. ويسمح له اتساع اهتماماته ومدى تدريبه السابق أن يخضع لتحليله عمق المعرفة الفلسفية، والإدراك التاريخي، والنظر الأدبي والفني. وكتاب ” الإنسان من أجل ذاته ” 1947 يعتبر حلقة ثانية إيجابية إنشائية من السلسلة التي بدأها فروم بكتابه ” الفرار من الحرية “. ومن دراساته الأخرى التي تبعث على التفكير كتابه ” التحليل النفسي والديني ” الصادر 1950، وكتابه ” اللغة المنسية ” 1951، وهو دراسة ممتعة عن الأحلام والقصص الخرافية والأساطير. بالإضافة كتابه عنوان ” المجتمع السليم “.

منهجياً، حاول فروم تطبيق أحدث وسائل البحث العلمية الاجتماعية على الكشف عن صفة الإنسان ومجموعة قيمه الخلقية الأساسية، فقد أتقن نوعاً من المزاوجة بين تحقيق الذات الأرسطي والإنسانية العملية. ومن الناحية الشخصية أكد طبيعة الحلول المنتجة لمشكلة انعزال الإنسان مثل: العمل الخلاق، والضمير الإنساني الذي يعارض التسلط، والشجاعة، والمحبة، والكبرياء، والأمل في قدرة الإنسان على أن يأخذ نفسه وحياته وسعادته مأخذ الجد. وفي دراسة موجزة حديثة تحت عنوان ” فن الحب “، يذهب إريك فروم إلى ” أن الحب هو الحل السليم المرضي الوحيد لمشكلة الوجود الإنساني “.

يرى فروم أن الثقافة الغربية تتميز في عصر الحداثة بروح المباهاة والتفاؤل، فهي تباهي بالعقل باعتباره أداة الإنسان لإدراكه الطبيعة وسيطرته عليها. وتتفاءل بتحقيق أعز آمال البشرية، وتوفير أكبر قسط من السعادة لأكبر عدد من الناس.

وقد برر الإنسان لنفسه ما يباهي به، فبفضل العلم بنى عالماً مادياً يفوق في الواقع حتى الأحلام والرؤى في القصص الخيالية والمدن الفاضلة. إنه يستغل طاقات الطبيعة التي سوف تمكن الجنس البشري من توفير الظروف المادية اللازمة لوجود كريم منتج. وبالرغم من أن الإنسان لم يحقق بعد كثيراً من أهدافه إلا أننا لا نكاد نشك في أن هذه الأهداف ممكنة التحقيق، وأن مشكلة الإنتاج التي كانت مشكلة الماضي قد حلت من حيث المبدأ. والآن يستطيع الإنسان لأول مرة في التاريخ أن يدرك أن فكرة وحدة الجنس البشري وإخضاع الطبيعة لسيطرة الإنسان ولمصلحته لم تعد حلما، بل هي من الأمور الممكنة الواقعية. أليس الإنسان إذن على حق في مباهاته وفي ثقته بنفسه وبمستقبل الجنس البشري؟

غير أن الإنسان المعاصر برغم هذا يشعر بالقلق والحيرة المتزايدة. إنه يعمل ويجاهد، ولكنه يدرك إدراكاً غامضاً عبث ما يبذل من نشاط. وبينما تنمو سيطرته على المادة، نجد أنه يحس العجز في حياته الفردية وفي المجتمع. وبينما نراه يبتدع وسائل يسيطر بها على الطبيعة، نجده واقعاً في شباك تلك الوسائل وقد فقد إدراك الغاية التي تعطيها (وحدها) أهميتها، وتلك الغاية هي: أن الإنسان لنفسه. فبينما أمسى الإنسان سيداً على الطبيعة، بات عبداً للآلة التي صنعها بيده. وبرغم كل ما عرف عن المادة، فهو على جهل فيما يتعلق بالمشكلات الهامة الأساسية الخاصة بالوجود البشري: ما الإنسان؟ وكيف ينبغي له أن يعيش؟ وكيف يمكن إطلاق الطاقات الجبارة الكامنة فيه واستخدامها استخداماً منتجاً؟

يرى فروم أن الأزمة الإنسانية المعاصرة أدت إلى التراجع عن الآمال والآراء التي سادت في ” عصر التنوير ” الذي بدأ تقدمنا السياسي والاقتصادي تحت رعايته، وأمست فكرة التقدم ذاتها وهما صبيانياً، وأصبحنا نبشر عوضا عنها ﺑ   ” الواقعية “، وهي كلمة جديدة تعبر عن انعدام الثقة المطلق في الإنسان. وبتنا نعترض على فكرة الكرامة والقوة الإنسانية، وهي التي أمدت الإنسان بالقدرة والشجاعة للقيام بالأعمال الجسيمة التي أنجزها في القرون القليلة الماضية، ونستعيض عنها بالعودة إلى فكرة العجز المطلق والتفاهة التي يتصف بها الإنسان، وتهدد هذه الفكرة باقتلاع الجذور ذاتها التي نمت منها ثقافتنا.

فالآراء التي سادت في ” عصر التنوير ” علّمت الإنسان أنه يستطيع أن يثق في عقله كمرشد له في إقامة معيار خلقي ثابت، وأنه يستطيع أن يعتمد على نفسه دون الحاجة إلى هداية الكنيسة أو سلطتها لكي يفرق بين الحق والباطل. إن شعار ” عصر التنوير “، وهو ” شجاعة المعرفة “، ينطوي على الثقة في المعرفة  من خلال السيطرة على الموضوع، هذا الشعار أصبح الحافز عند الإنسان الحديث لكي يعمل ويبذل الجهود. أما الشك النامي في قدرة الإنسان الذاتية وفي عقله، فقد أوجد حالة من حالات الفوضى المعنوية التي تركت الإنسان دون إرشاد من الوحي أو من العقل.

وترتب على ذلك قبول الرأي الذي يقول بالأوضاع النسبية، والذي يرى أن تقدير القيم والمعايير الخلقية أمور تتعلق كلية بالذوق أو بالمفاضلة التي تقوم على أساس، وأنه لا يمكن في هذا الميدان أن يصدر حكم واحد موضوعي ثابت، ولكن ما دام الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون قيم أو معايير، فإن هذه النسبية تجعله فريسة سهلة لطرق التقويم التي لا تستند إلى عقل. وعندئذ يرتد الإنسان إلى مكانة تغلبت عليها من قبل الثقافة الإغريقية، والمسيحية، والنهضة الأوروبية، وعصر التنوير في القرن الثامن عشر. عندئذ يستمد الإنسان معاييره وقيمه من مطالب الدولة، ومن الحماسة لما عند الزعماء الأقوياء من صفات سحرية، ومن الآلات القوية، والنجاح المادي.

فهل نترك الأمر عند هذا الوضع؟ هل نرضى بالخيار بين أمرين، إما الدين وإما نسبية الأمور؟ هل نقبل تنازل العقل فيما يمس الأخلاق؟ هل نعتقد أن الخيار بين الحرية والعبودية، بين الحب والكراهية، بين الحق والباطل، بين النزاهة والانتهازية، بين الحياة والموت، ليس إلا نتيجة للمفاضلة الذاتية في كثير من الأمور؟

يعتقد فروم بالمقابل أن للموضوع وجهاً آخراً، حيث إن المعايير الخلقية الثابتة الصالحة يمكن أن تكون من وضع العقل البشري، وبه وحده، فالإنسان قادر على رؤية القيم وعلى أن يجعل لها من الصلاحية ما لكل القيم الأخرى التي يبنيها على أساس من العقل. وقد وضعت التقاليد العظيمة، تقاليد الفكر الإنساني الأخلاقي، أسس طرق التقويم المبنية على قدرة الإنسان الذاتية وعلى عقله وتفكيره. وأقيمت هذه الطرق على فرض أساسي، وهو أنك إن أردت أن تعرف ما هو خير للإنسان وما هو شر له، فلابد لك أولاً من أن تعرف طبيعة الإنسان، ومن ثم كانت هذه الطرق كذلك مباحث نفسية في أساسها.

وفيما يتعلق بفضل فرويد وحدوده يرى فروم أن أكبر فضل لفرويد هو أن نظرية التحليل النفسي هي أول طريقة نفسية حديثة لا تجعل موضوعها نواحي الإنسان المختلفة التي تنفصل إحداها عن الأخرى، وإنما شخصيته بكليتها، فقد اكتشف فرويد طريقة جديدة مكنته من دراسة شخصية الإنسان بجملتها كما مكنته من إدراك ما يدفع الإنسان إلى أي عمل يقوم به، وأحل هذه الطريقة محل طريقة علم النفس التقليدي، التي كانت تحصر نفسها في دراسة الظواهر التي يمكن عزلها عزلاً يكفي لملاحظتها في تجربة من التجارب.

يرى فروم أن منهجية فرويد تقوم على طريقة تحليل المعاني المتداعية تداعياً حراً، وتحليل الأحلام والأخطاء، وانتقال الأفكار، إنما هي وسيلة يمكن أن تصبح بها الوقائع الخاصة، التي لا يعرفها ولا يتأملها إلا صاحبها، علنية ظاهرة في الصلة التي تقوم بين الفرد الذي يخضع للتحليل والمختص الذي يقوم بهذا التحليل، ومن ثم فقد أمكن لطريقة التحليل النفسي أن تفرد الظواهر التي لم تكن بدونها لتخضع للملاحظة. كما أزاحت الغطاء في الوقت عينه عن كثير من التجارب العاطفية التي لم يمكن إدراكها حتى بالتأمل الباطني لأنها مكبوتة ومنفصلة عن العقل الواعي.

كان فرويد في بداية دراساته يهتم أساساً بالأعراض النورستانية*. ولكن كلما تقدم التحليل النفساني، اتضح أن الأعراض النورستانية لا يمكن فهمها إلا بفهم بناء الشخصية التي تظهر فيها، فأصبح الموضوع الأساسي لنظرية التحليل النفساني وللعلاج النفساني هو الشخصية النورستانية، لا مجرد الأعراض وحدها. وفي أثناء دراسة فرويد للشخصية النورستانية نجده يضع أسساً جديدة لعلم الشخصية، الذي أهمله علم النفس في القرون الحديثة وتركه لكتاب الرواية والمسرحية.

إن علم الشخصية الذي يقوم على أساس التحليل النفسي، برغم حداثته، لا غنى عنه لتطور النظريات الأخلاقية. ولا مناص من أن تبقى جميع الفضائل والرذائل التي يعالجها علم الأخلاق التقليدي غامضة، لأنها كثيراً ما تدل بلفظة واحدة على مواقف إنسانية مختلفة وعلى شيء من التناقض. وهي لا تفقد غموضها إلا إذا فهمت من حيث علاقتها ببناء شخصية الفرد الذي تعزى إليه الفضيلة أو الرذيلة. إن الفضيلة منفصلة عن محيط الشخصية قد يتبين أنها عديمة القيمة (كالتواضع الذي ينشأ عن الخوف، أو الذي يعوض به صاحبه عن كبرياء مكبوتة). كما أن الرذيلة قد تدل على شيء آخر إذا فهمت في محيط الشخصية كلها (كالكبرياء التي تعبر عن عدم الطمأنينة وشعور المرء بانحطاط قدره). وهذا الاعتبار له بالأخلاق علاقة وثيقة. ومعالجة الفضائل والرذائل منعزلة باعتبارها صفات مستقلة تضلل ولا تكفي. إن موضوع الأخلاق هو الشخصية، ولا يمكن أن تقوم صفات منعزلة أو أعمال منفصلة دون الإشارة إلى بناء الشخصية بكليتها (إن الموضوع الحقيقي للبحث الأخلاقي هو الشخصية الفاضلة أو الشخصية الشريرة، وليس هو الفضائل والرذائل المجردة).

ولا يقل عن ذلك أهمية بالنسبة للأخلاق فكرة التحليل النفسي عن الدوافع التي تصدر عن اللاوعي، حيث يعتبر فرويد أول من درس الدوافع التي تصدر عن اللاوعي دراسة تطبيقية عملية وفي تفصيل دقيق، ومن ثم كان هو الذي وضح أسس نظرية الدوافع البشرية. إن تطور التفكير الأخلاقي يتميز بأن تقدير القيم فيما يتعلق بالسلوك الإنساني قد صيغ بالإشارة إلى الدوافع التي تختفي وراء الفعل دون الإشارة إلى الفعل ذاته، ومن ثم فإن فهم الدوافع التي تصدر عن اللاوعي يفتح لنا مجالاً جديداً للبحث الأخلاقي. وقد ذكر فرويد أنه لا يترسب في اللاوعي ما هو دنيء في الذات فقط، وإنما يترسب فيه أيضاً ما هو سامٍ، ويمسي أقوى دافع للعمل، ولا يستطيع البحث الأخلاقي أن يتجاهله.

وبالرغم من الإمكانيات الكثيرة التي يمدنا بها التحليل النفسي لدراسة القيم دراسة علمية، فإن فرويد ومدرسته لم يستغلوا طريقتهم أكبر استغلال منتج مفيد للبحث في المشكلات الخلقية، بل إنهم في الواقع قاموا بكثير من الخلط في القضايا الكبرى. وينشأ الاضطراب عن موقف فرويد النسبي، الذي يفترض أن علم النفس يمكن أن يعاوننا على فهم الدافع إلى تقدير القيم، ولكنه لا يعيننا على تثبيت صلاحية القيم ذاتها.

إن نسبية فرويد تظهر في جلاء شديد في نظريته عن الذات العليا (الضمير)، وطبقاً لهذه النظرية يمكن أن يكون أي موضوع محلاً لوخز الضمير إذا كان بالمصادفة جزءاً من الأوامر والنواهي التي ينهى عنها ضمير الأب أو التقاليد الثقافية (والضمير وفقا لهذه النظرة ليس إلا السلطة الباطنية). إن تحليل فرويد للذات العليا ليس إلا تحليلاً للضمير المتسلط.

ومهما يكن من شيء، فإن موقف فرويد ليس دائماً نسبياً بأية حالة من الحالات. إنه يبدي إيماناً قوياً بالحقيقة باعتبارها الهدف الذي ينبغي للمرء أن يجاهد في سبيله، وهو يعتقد في قدرة الإنسان على هذا الجهاد ما دامت الطبيعة قد وهبته العقل، وهو يعبر عن هذه النظرة التي تناقض النسبية تعبيراً واضحاً في مناقشاته لفلسفة الحياة، وهو يعارض النظرية التي تقول بأن الحق ليس إلا نتيجة لحاجاتنا ورغباتنا، لأنها تصاغ تحت ظروف خارجية متغيرة. وفي رأيه أن مثل هذه النظرية الفوضوية (يتقوض في اللحظة التي يحتك فيها بالحياة العملية). واعتقاده في قوة العقل وقدرته على توحيد البشرية وتحرير الإنسان من قيود الخرافة يتميز بما تتميز به فلسفة عصر التنوير من عطف وحنان. وهذا الإيمان بالحقيقة ينضوي تحت فكرته عن العلاج بالتحليل النفسي.

إن تحليل النفس هو محاولة الكشف عن حقيقة الفرد، وفي هذا الاتجاه يواصل فرويد الفكر التقليدي الذي يعتقد  (منذ بوذا وسقراط) في الحق باعتباره القوة التي تجعل الفرد فاضلاً وحراً، أو بتعبير فرويد (صحيحاً). إن الهدف من العلاج بالتحليل هو إحلال العقل (أو الذات) محل الجانب الذي لا يعقل، فالموقف التحليلي يمكن تعريفه من هذه الزاوية بأنه الموقف الذي يكرس فيه اثنان هما: المحلل والمريض نفسيهما للبحث عن الحقيقة. والهدف من العلاج هو إعادة الصحة، والعلاج هو الحق والعقل. وربما كان أقوى تعبير عن عبقرية فرويد هو افتراضه موقفاً يقوم على الصراحة الشديدة في وسط ثقافي تندر فيه مثل هذه الصراحة.

أما الأخلاق الإنسانية يكون فيها ” الخير ” مرادفا ﻟ ” خير الإنسان “، و” الشر ” مرادفا ﻟ ” شر الإنسان “، تفترض أنا لكي نعرف ما هو خير للإنسان لابد لنا من أن نعرف طبيعة الإنسان (الأخلاق الإنسانية هي العلم التطبيقي ﻟ ” فن الحياة ” الذي يقوم على أساس ” علم الإنسان ” النظري). وهنا يكون الامتياز في عمل الإنسان متناسباً مع مقدار ما يعرفه الفرد عن علم الإنسان ومع مهارة الفرد ومرانه. غير أن الفرد يمكنه أن يستنتج المعايير من النظريات في حالة واحدة فقط، وهي التسليم بأن هناك ناحية معينة من نواحي النشاط ينتقيها المرء، وهدفاً من الأهداف يبتغيه. إن الفرض في علم الطب هو أن علاج المرض وإطالة العمر من الأمور المرغوب فيها، فإن لم يكن الأمر كذلك فإن كل قواعد علم الطب تصبح غير ذات موضوع.

إن كل علم تطبيقي يقوم على أساس فرض ينشأ عن عملية الانتقاء، أعني أن تكون الغاية من النشاط مرغوبة. بيد أن هناك فارقاً بين الفرض الذي ينضوي تحت الأخلاق، والفرض الذي ينضوي تحت الفنون الأخرى. نستطيع أن نتصور ثقافة فرضية لا يريد فيها الناس أن يعيشوا. إن الدافع إلى الحياة كامن في كل كائن عضوي، ولا يسع المرء إلا أن يعيش بغض النظر عما يود أن يعتقد في هذا السبيل. إن الخيار بين الحياة والموت أمر ظاهري وليس حقيقة من الحقائق. أما الخيار الحقيقي عند الإنسان فهو بين الحياة الطيبة والحياة السيئة.

ومن الضروري هنا أن نتساءل لماذا فقد زماننا فكرة “ الحياة كفن من الفنون ” ؟ فالظاهر أن الإنسان الحديث يعتقد أن القراءة والكتابة من الفنون التي تتعلم، وأنه لكي يصبح المرء مهندساً معمارياً، أو مهندساً ميكانيكياً، أو عاملاً ماهراً، لابد له من قدر كبير من الدراسة، ولكنه يعتقد أن العيش أمر من السهولة بمكان بحيث لا يحتاج إلى جهد معين لكي يؤدي. ولأن كل إنسان يعيش بطريقة ما، تعتبر الحياة أمراً يعد فيه كل فرد خبيراً. ولقد أتقن الإنسان فن الحياة إلى حد ما، ولكن فقدانه الإحساس بصعوبته لا يعزى إلى ذلك. ومن الواضح أيضاً أن هذا الأمر لا يفسره كذلك ما يسود الناس من فقدان للمتعة الحقيقية والسعادة الصادقة اللتين يمكن أن يستمدهما من عملية الحياة ذاتها، ذلك أن المجتمع الحديث بالرغم من كل ما يؤكده عن أهمية السعادة والفردية والمصلحة الذاتية قد علم الإنسان أن سعادته ليست هي الهدف من الحياة، وإنما هدفها أداء واجبه نحو العمل أو نجاحه، فالمال والمركز الاجتماعي والنفوذ باتت هي دوافعه وغاياته، وهو يعمل متوهما أن نشاطه يعود بالنفع على مصلحته الذاتية، ولكنه في الواقع يخدم كل شيء إلا مصالح نفسه الحقيقية، كل شيء يهمه إلا حياته وفن الحياة. إنه لكل شيء، ولكن ليس لنفسه.

وإذا كانت الأخلاق تؤلف مجموعة الأنماط التي تؤدي إلى التفوق في ممارسة فن الحياة، فلابد أن تصدر قواعد الأخلاق العامة عن طبيعة الحياة عامة والوجود البشري خاصة. وطبيعة الحياة كلها على العموم هي أن تحتفظ بوجودها وتؤكد، فلدى كل كائن عضوي ميل كامن نحو الاحتفاظ بوجوده. ومن هذه الحقيقة افترض علماء النفس وجود غريزة حفظ الذات. إن أول واجب للكائن العضوي هو أن يحيا.

وبقاء الإنسان حياً فكرة ديناميكية وليست فكرة استاتيكية ثابتة (والوجود والكشف عن القوى الخاصة للكائن العضوي أمر واحد). ولدى كل كائن عضوي ميل كامن إلى إخراج إمكانياته الخاصة إلى حيز الواقع، فالهدف من حياة الإنسان يجب أن يفهم على أنه الكشف عن قواه طبقاً لقانون طبيعته.

غير أن الإنسان لا يوجد وجوداً عاماً، فهو يشترك مع جميع أعضاء جنسه في جوهر الصفات الإنسانية، ولكنه مع ذلك دائم التفرد، أو وحدة فذة، يختلف كل فرد عن آخر. وهو يختلف فيما يتصف به من مزيج خاص من سمات الشخصية والمزاج والمواهب والميول كما يختلف في أطراف أصابعه، ولا يستطيع أن يؤكد إمكانياته البشرية إلا بتحقيق فرديته. إن واجب المرء أن يحيا هو نفسه أي إن يكون نفسه، وأن يتطور إلى الفرد الذي تكمن فيه بذرته.

خلاصة القول، إن الخير في الأخلاق الإنسانية هو تأكيد الحياة، والكشف عن قوى الإنسان، والفضيلة هي المسؤولية إزاء وجوده ذاته، والشر يتألف من العوامل التي تفلت من قوى الإنسان، والرذيلة هي استهتار المرء إزاء ذاته والآخرين. وهذه هي القواعد الأولى للأخلاق الموضوعية للإنسانية. وإن إصلاح الحالة النفسية للإنسانية تكون بتغلب الإنسان على نفسه والشفاء من الأمراض التي سادت حياته بالرجوع إلى ذاته والتخلص من كل المغالطات التي تسيطر عليه ولا يكون ذلك إلا من خلال ممارسة القيم الأخلاقية والإنسانية لدورها الإيجابي والبنّاء في حياة الإنسان والمجتمع.

وفي النهاية، نقر أن إريك فروم فيلسوف متمكن أكمل العمل الذي بدأه فرويد، وأصلح الخلل في نظرية التحليل النفسي، وحلَّ معظم الألغاز التي كان يبدو أن من المستحيل حلها. وقد آن الأوان للعقل أن ينطلق من حيث انتهى إريك فروم، ويضع استنتاجات معقولة قد يكون لها تطبيقات هامة تساهم في صناعة مستقبل إنساني أفضل.

______
– المراجع المعتمدة
:

– إريك فروم: الإنسان لنفسه (بحث في علم نفس الأخلاق)، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الكلمة، القاهرة، ط1، 2009.

إريك فروم: الإنسان من أجل ذاته ( بحث في سيكولوجية الأخلاق)، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، بدون دار نشر، ط1، 2007.

– هشام مصباح: الأخلاق وسؤال الإنسان المعاصر عند إريك فروم، مجلة المداد، الجزائر، المجلد:11، العدد: 02، 2021.

– أدريين كوخ: آراء فلسفية في أزمة العصر، ترجمة: محمود محمود، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2023.

– إيمان دحمان: الأخلاق والتحليل النفسي عند إريك فروم، رسالة ماجستير، قسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، جامعة بوضياف (المسيلة)، الجزائر، العام الدراسي 2018-2019.

– طارق أحمد حسن: عصر الحكمة (العلاقة بين الحضارة والأخلاق في ضوء فلسفة إريك فروم الإنسانية)، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط1، 2013.


* اقراراً بالواقع قلما يخلو عقل ولو بدرجة خفيفة من وجود ظاهرتين متباينتين من ظواهر الاحتلال العقلي: إحداهما من النوع الهستيري والأخرى من النوع النورستاني، والظاهرة الأولى تدفع الإنسان إلى النشاط في الحياة والجد في العمل، فإذا ما قويت دفعته إلى التهور، وإذا وصلت إلى أشدها فإنه يصل إلى درجة من التهيج ويتبع نمطاً من السلوك الاعتدائي. أما الظاهرة الأخرى فإنها تجعل الإنسان يميل الى الروية والحكمة.
_______
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة. ماردين- حلب سابقاً.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

حسام الدين فياض

د. حسام الدين فياض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة