ما انفكَّت وتيرة المظاهرات المساندة للحقِّ الفلسطيني ولمقاومته تزداد وتيرتها يومًا بعد يوم وتتنوَّع الفئات المشاركة فيها، من المجتمع المدني في مختلف الدول الغربيَّة والعربيَّة والآسيويَّة وأمريكا اللاتينيَّة وإلى الأحزاب السياسيَّة المناهضة للصهيونيَّة وللكيان الإسرائيلي المحتل، إلى الجامعات والمجال الأكاديمي الغربي ولاسيما الأمريكي منه كهارفارد ونيوجرسي وبنسلفانيا وسانفورد وبرنستون وشيكاغو.
إنَّ هذه الجامعات ستخرِّج الكوادر العليا التي ستحكم العالم في المستقبل وهؤلاء سيكونون متحرِّرين من براثن الصهيونيَّة ومن لوثاتها ومتشبّعين بقيم الحقِّ والعدل، ومؤمنين بحقِّ الشعب الفلسطيني في حياة كريمة على أرضهـ وفي ظلِّ دولة حرَّة مستقلَّة ذات سيادة.
قبل أشهر، أشار استطلاع للرأي أصدره معهد بيول للأبحاث، تغيُّر مشاعر الشباب الأمريكي تجاه طرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بصورةٍ فاجأت الكثير من المراقبين المهتمِّين بالشرق الأوسط في النخبة الأمريكيَّة. وعلى الرغم من أنَّ الأمريكيين يحملون مشاعر إيجابيَّة تجاه الإسرائيليِّين أكثر بكثير من تلك التي يحملونها تجاه الفلسطينيّين، فإنَّ الأمر اختلف في السنوات الأخيرة، وتطوَّر الموقف تجاه الفلسطينيِّين بين الشباب الأمريكي الذي سنّه ما بين 18 عاما و29 عاما بصورة كبيرة، إذ ينظر 61 في المئة منهم بإيجابيَّة إلى الفلسطينيِّين، في حين تبلغ النسبة تجاه الإسرائيليِّين 59 في المئة.
ومع بدء عمليَّة طوفان الأقصى ونجاح حركة حماس في اقتحام الخطوط الإسرائيليَّة وأسر أكثر من 500 إسرائيلي ما بين جنود ومدنيِّين، وما تبع ذلك من ردٍّ إسرائيلي نتج عنه استشهاد أكثر من عشرة آلاف فلسطيني غالبيتهم من المدنيِّين ولا سيما النساء والأطفال، انعكس الصراع على الجماعات الطلابيَّة المناصرة للفلسطينيِّين وتلك المناصرة لإسرائيل في العديد من الجامعات الأمريكيَّة، فقد ارتفعت نسبة الدعم للقضيَّة الفلسطينيَّة بين الشباب الأمريكي ولاسيما طلبة الجامعات.
لم تعد شعارات “حقّ إسرائيل في الوجود” و “ضرب الإرهابيِّين” و”معاداة الساميَّة” تسيطر على المشهد الأمريكي، وحلَّت بدلا منها شعارات “الفصل العنصري” و”سرقة الأراضي” و”التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعيَّة” في أوساط الشباب الأمريكي، وهو ما حدا بالصحفي توماس فريدمان الكاتب اليهودي في صحيفة نيويورك تايمز، ليطلق قبل شهور تحذيرًا للقيادة الإسرائيليَّة من تبعات استمرار تبنِّيها سياسات يمينيَّة ترفض بمقتضاها حلّ الدولتين. وشدَّد فريدمان على أنَّ إسرائيل بدأت خسارة الرأي العام بين طلاب الجامعات الأمريكيَّة، مستشهدًا بمقاومة الاتِّحادات الطلابيَّة في أغلب الجامعات الأمريكيَّة استضافة مسؤولين إسرائيليِّين رسميِّين للحديث داخل أسوارها.( انظر ، محمد المنشاوي ، هل تخسر إسرائيل تأييد الشباب الأمريكي؟ موقع الجزيرة نت بتاريخ 13 – 10 – 2023 ).
لقد أعادت عمليَّة ” طوفان الأقصى ” القضيَّة الفلسطينيَّة إلى واجهة الأحداث الدوليَّة، فاحتلَّت صدارة وسائل الإعلام بمختلف أصنافها، وخاصَّة وسائل التواصل الاجتماعي بمنصَّاتها المتعدِّدة، لكأنَّ العالم يكتشف للمرَّة الأولى أنَّه – في القرن الواحد والعشرين- ما زال هناك شعب يرزح تحت نير الاحتلال، احتلال استمرَّ أزيد من سبعة عقود، وقائم على التمييز العنصري، ويتوسَّل بالإبادة الجماعيَّة والتهجير القسري، لينكر على شعب حقوقه الطبيعيَّة في أن يمارس سيادته على أرضه في ظلِّ دولة حرَّة مستقلَّة.
رسالة بن لادن الاسترجاع والسياق:
كانت رسالة زعيم القاعدة أسامة بن لادن التي نشرت في24 نوفمبر 2002، في صحيفة “الأوبزرفر” البريطانيَّة موجَّهة إلى الشعب الأمريكي، وفي سياق الإجابة عن سؤال ما انفكَّ يطرحه الشعب الأمريكي: لماذا يكرهوننا؟ في إشارة إلى العرب المسلمين، سؤال يخفي وراءه مكر الدعاية الصهيونيَّة وألاعيب لوبياتها التي تعمل على نشر الكراهية بين الشعوب وترويج الأراجيف.
يبدو أنَّ المجازر الصهيونيَّة المروّعة في قطاع غزَّة بحقِّ النساء والأطفال تركت جرحًا في الضمير العام للشعب الأمريكي، لا سيما شريحة الشباب الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي والمطَّلعين على تلك الجرائم بشكل دوري، ما أدَّى إلى زعزعة اليقين بما كان يعدُّ من الثوابت في السابق وفي مقدّمتها الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، من هنا جاءت رسالة بن لادن التي كانت وليدة حالة من الصدام الحضاري، ها هي اليوم، في أجواء احتدام الصراع من جديد، يتمُّ إعادة نشرها لتتكفَّل بشرح وتفسير أسباب الصدام، ولتدقّ ناقوس الخطر لما قد يحدث مستقبلا بسبب الدعم الأمريكي اللامحدود، في ارتكاب تلك المجازر والتي لن تمحى من الذاكرة العربيَّة والإسلاميَّة لعقود طويلة.لا يمكن فصل ظهور الرسالة عن الأجواء المحتقنة داخل المجتمع الأمريكي حيث تتزايد اتِّهامات الفساد للنخب السياسيَّة الأمريكيَّة وتلقِّي الأموال من جماعات الضغط اليهوديَّة مثل “إيباك” والحديث المتصاعد عن دور شركات السلاح والمجتمع الرأسمالي في توجيه سياسات الولايات المتَّحدة ولو على حساب القيم والأخلاق.
وممَّا ورد في رسالة بن لادن قوله: “إنَّ الشعب الأمريكي هو الذي يدفع الضرائب التي تموِّل الطائرات التي تقصفنا في أفغانستان، والدبابات التي تضرب وتدمِّر بيوتنا في فلسطين والجيوش التي تحتلُّ أراضينا في الخليج والأساطيل التي تضمن حصار العراق”، لافتًا إلى أنَّه “ولهذا السبب لا يمكن للشعب الأمريكي أن يكون بريئًا من كل الجرائم التي يرتكبها الأمريكيون واليهود ضدّنا”، ويعود بن لادن إلى جذور الصراع مسلِّطا الضوء على المظلمة التي تعرَّض لها الشعب الفلسطيني قائلا: ” فلسطين غارقة تحت الاحتلال العسكري منذ أكثر من ثمانين عاما، ولقد سلَّم الإنجليز فلسطين بمساعدتكم ودعمكم لليهود الذين احتلُّوها لأكثر من خمسين عامًا، سنوات مليئة بالظلم والطغيان والجرائم والقتل والطرد والدمار والخراب، وأنتم قادة مجرميها وبالطبع لا داعي لشرح وإثبات درجة الدعم الأمريكي لإسرائيل…إنَّ إنشاء إسرائيل جريمة يجب أن تمحى، وكل من تلوّثت يداه بالمساهمة في هذه الجريمة يجب أن يدفع ثمنها غاليا”.
وعقب تداول الرسالة بشكل واسع، سارعت صحيفة “الغارديان” البريطانيَّة إلى حذف الرسالة من موقعها الرسمي في مواقع التواصل الإجتماعي، ممَّا أثار جدلًا حول الرقابة على المحتوى وجدوى ذلك. هذا الاحتقان عبَّر عنه ناشطون أميركيُّون بإعادة قراءة أسباب هجوم الحادي عشر من سبتمبر بعيدًا عن سرديَّة الصراع الحضاري بين المسلمين وقيم الغرب الحضاريَّة التي تمَّ اعتمادها والترويج لها بكثافة لتبرير شنّ حرب مدمِّرة ضدّ أفغانستان والعراق، لكن كل هذا لم يكن ليحدث بهذه السرعة والديناميكيَّة العالية، لولا صراع الاستقلال الذي فجَّرته المقاومة الفلسطينيَّة في غزَّة ذات 7 أكتوبر والذي يؤشِّر لتغييرات كبيرة إقليميَّة ودوليَّة مهمَّة ( انظر، سمير العركي، “رسالة بن لادن” لماذا أعاد ناشطون أميركيُّون التذكير بها؟ موقع الجزيرة نت بتاريخ 23 نوفمبر 2023).
لقد التقطت الدراسات الاستقصائيَّة تغيُّرات كبيرة في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، فتقليديًّا كان الرأي العام الأميركي يظهر دعمًا كبيرًا لإسرائيل، في حين بدت إسبانيا واحدة من أكثر الدول الأوروبيَّة تعاطفًا مع الفلسطينيِّين. فمع بدء الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينيَّة، بدأت استطلاعات الرأي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة تكشف عن اختلافات جوهريَّة بين الأجيال والتعاطي السياسي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لا يزال الارتفاع الأخير في التعاطف المؤيِّد للفلسطينيِّين بين الديمقراطيِّين قائمًا فنحو 25 في المائة ممَّن صوَّتوا للرئيس جو بايدن يعتبرون مؤيدين لإسرائيل وهو ما لا يزيد كثيرًا عن نسبة 20 في المائة التي تدعم الفلسطينيِّين، على النقيض من ذلك، فإنَّ 76 في المائة من ناحية دونالد ترامب مؤيِّدون لإسرائيل، يعني هذا التحوّل أنَّ بايدن يواجه صدعًا مفاجئا داخل حزبه بشأن الشرق الأوسط، في الوقت الذي يتَّجه فيه إلى حملة إعادة انتخاب صعبة من المرجَّح أن تكون ضدّ الرئيس السابق ترامب.
العامل الكبير الآخر هو السنّ بين الأمريكيِّين الشباب، هناك دعم صريح للفلسطينيِّين أكثر من إسرائيل وفي الوقت نفسه بين أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، يكون الدعم بأغلبيَّة ساحقة لصالح إسرائيل. لقد أظهر استطلاع أجرته مؤسَّسة إبسوس في منتصف نوفمبر، أنَّ معظم الأمريكيِّين يعتقدون الآن، أنَّ الولايات المتَّحدة يجب أن تعمل كوسيط محايد. لقد انتقد الديمقراطيُّون التقدّميُّون الأصغر سنًّا والأكثر يساريَّة بشكل خاص طريقة تعامل بايدن مع الحرب، قائلين إنَّ دعمه للردّ الإسرائيلي على عمليَّة طوفان الأقصى لم يكن مشروطًا بما فيه الكفاية، وكان ينبغي عليه فعل المزيد لمنع سقوط ضحايا من المدنيِّين بين الفلسطينيِّين. (لمزيد التوسع انظر: فايننشال تايمز، كيف تغيَّر الرأي العام الأمريكي بشأن الحرب بين إسرائيل وحماس؟ موقع Tunisie télégraphe ،بتاريخ 21 نوفمبر 2023).
لقد أحدثت عمليَّة طوفان الأقصى زلزالًا في الوعي الإنساني، الذي أدرك عمق القضيَّة الفلسطينيَّة وحقيقة الصراع الذي تخوضه المقاومة الفلسطينيَّة باعتبارها حركة تحرُّر وطني في مواجهة عدو محتل، مغتصب للأرض ما انفكَّ يعمل على تشويه الحقائق التاريخيَّة والحضاريَّة وعلى طمس الهويَّة الفلسطينيَّة الضاربة في عمق التاريخ.
لقد كان لعمليَّة طوفان الأقصى ارتداداتها على الوعي الغربي الذي بدأ يتخلَّص من أدران الصهيونيَّة، لم تسلم من تلك التداعيات النخب الفكريَّة والأكاديميَّة والحقوقيَّة والسياسيَّة، ففي فرنسا وبريطانيا انقسمت الطبقة السياسيَّة على نفسها، وكذلك الشأن داخل الأحزاب السياسيَّة التقليديَّة كحزب العمَّال في بريطانيا والحزب الديمقراطي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.