إنَّها مفارقات الحياة وعجائب القدر الذي لا ندري ماذا يخبِّئ لنا؟! فكيف بدأ هذا الفيزيائي الكبير كصهيوني متحمِّس، ثمَّ انتهى به الأمر إلى معارضة احتلال فلسطين، وهو ما يجعلنا نتساءل لماذا يفضِّل الجميع الحديث عن علمه عوضًا عن سياسته التي لا تقلّ أهميَّة عن فتوحاته الفيزيائيَّة.
إنَّ شعار معاداة الساميَّة التي عمَّت العالم لم تزحزح أينشتاين قيد أنمله عن قناعاته أو مواقفه مع أنَّهُ كان ضحيَّة لها فقد واجه شخصيًّا إهانات معادية للساميَّة بعد حصوله على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921 عندما وصفه اثنان من الفائزين بجائزة نوبل بأنَّ أعماله “علم يهودي”.
في عام 1922، سافر أينشتاين وزوجته إلسا إلى بلدان عدَّة بما في ذلك الولايات المتَّحدة واليابان وفلسطين، وذلك لم يكن فقط ليتمكَّن من إلقاء محاضرات حول نظريته النسبيَّة، ولكن أيضًا للهرب من العنف المحتمل الذي سيتعرَّض له بما يعرف لاحقًا بمعادة الساميَّة.
لقد اغتيل صديقه فالتر راثيناو، سياسي ألماني يهودي قبل وقت قصير من مغادرته.
سيعود أينشتاين وأسرته مرَّة أخرى لألمانيا ليضطرّ بعد ذلك إلى الفرار عام 1933 تحت التهديد بالاغتيال، كان هتلر حينها قد وصل للتو إلى السلطة، وأينشتاين معارضًا صريحًا للسياسات النازيَّة،وانتشرت وقتها شائعات أنه كان يشيع الدعايَّة الشيوعيَّة في حين أحرقت الحكومة وثائق بحثه وصادرت حساباته المصرفيَّة، فلجأ أولاً إلى الريف الإنجليزي وأخيرًا استقرَّ في أمريكا كلاجئ.
في هذا السياق المضطرب، يجب أن نفهم صهيونيَّة أينشتاين المبكِّرة، فأثناء وجوده في فلسطين في ضيافة القادة الصهاينة بالشراكة مع بريطانيا التقى بالعديد من الشخصيات السياسيَّة اليهوديَّة والعربيَّة وجاب أرض فلسطين، تركت هذه الجولة انطباعًا عميقًا لديه ممَّا أدَّى إلى سنوات من الدعم الصهيوني عندما تصور حلم الأنبياء العبرانيِّين أشرف على بلوغ آخر مراحله بعد قرون طويلة من سلب الملكيَّة اليهوديَّة، في حين أنّه ربما عارض الاستعمار في أماكن أخرى فقد أظهر فهمًا محدودًا إلى حدٍّ ما لحقيقة أنَّ الدولة الإسرائيليَّة ستعني بالضرورة استعمار فلسطين وتشريد شعبٍ كامل.
يتساءل بعضُ المدونين الغربيين قائلا: Did Einstein really say: “It would be my greatest sadness to see Zionists do to Palestinian Arabs much of what Nazis did to Jews”?
وترجمة هذا العبارة: هل حقًّا قال أينشتاين: ” سيكون سببًا لحزني العظيم أن أرى الصهيونيَّة تفعل بالفلسطينيِّين أكثر ممَّا فعلته النازيَّة باليهود “.
واختلفت الردود بين مؤيِّد ومعارض، على أنَّ بعضهم يرى أنَّ هذا العبارة المنسوبة للعالم الفيزيائي اليهودي الشهير محورة بشكل أو بآخر من الرسالة المفتوحة التي وقَّعها مع طائفة من المثقّفين اليهود في عام 1948 جاء فيها: ” من بين الظواهر السياسيَّة الأكثر إثارةً للقلق في عصرنا هو ظهور “حزب الحريَّة” (Tnuat Haherut) في دولة إسرائيل المنشأة حديثًا، وهو حزب سياسي يشبه إلى حدٍّ كبير في تنظيمه وأساليبه وفلسفته السياسيَّة وأساليبه الاجتماعيَّة الأحزاب النازيَّة والفاشيَّة “.
ومع ذلك، فقد تمَّ تسييس إرث أينشتاين إلى حدٍّ كبير وذلك لأسباب متوقَّعة تتعمَّد إخفاء الوجه الحقيقي لأينشتاين، وغالبًا ما تختار الجامعات والمتاحف الغربيَّة تصوير الشخصيات التاريخيَّة اليساريَّة مثل هيلين كيلر، ومارك توين، ومارتن لوثر كينغ الابن، وبابلو بيكاسو ضمن إطار مؤيِّد للرأسماليَّة، أمَّا في حالة أينشتاين فهناك عوامل أخرى مؤثِّرة: فهو على سبيل المثال كان مثقَّفًا يهوديًّا بارزًا بدأ كصهيوني وانتهى به الأمر إلى معارضة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بشدَّة.
أرشيفاته – المحفوظة على الإنترنت وفي القدس – توضح تفاصيل صحوته ليس فقط لمحنة الفلسطينيِّين، ولكن أيضًا لعنف الاستعمار الاستيطاني والرأسماليَّة العالميَّة ككل.
تزامنت هذه الصحوة أيضًا مع دعمه لتحرير السود، وأصبح صديقًا لشخصيات ثوريَّة سوداء مثل Paul Robeson و W.E.B. Du Bois. عندما اتُّهم الأخير بأنَّه جاسوس شيوعي، فناضل أينشتاين من أجل رفض التحقيق ممَّا أدَّى إلى قيام مكتب التحقيقات الفيدرالي بالاحتفاظ بملف عن أينشتاين يبلغ إجماليه أكثر من 1400 صفحة.
لقد بدأت المسألة اليهوديَّة في فلسطين منذ الانتداب البريطاني في عام 1920 بموجب معاهدة سيفر لتكون “وطنًا قوميًّا للشعب اليهودي”. وفي عام 1948، أصبحت نسبة 23% من فلسطين التي تركها البريطانيون عند إنشاء المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة مستقلَّة وغيَّرت اسمها إلى دولة إسرائيل.
لقد أعرب ألبرت أينشتاين بالفعل عن مخاوفه بشأن سياسات مناحيم بيغن والإرغون – التي تلفظ: إرغون تسفائي لئومي: جماعة يهوديَّة مسلَّحة متشدِّدة ومتطرِّفة – فيما يتعلَّق بالصراع الفلسطيني اليهودي، ففي 4 ديسمبر من عام 1948 أعرب أينشتاين إلى جانب شخصيَّات يهوديَّة بارزة أخرى مثل الفيلسوفة حنّا أرندت عن قلقه بشأن تصرُّفات الجماعات اليهوديَّة المتشدِّدة التي تعمل على إنشاء دولة يهوديَّة في فلسطين.
الحقيقة أنَّ الجدل حول اشتراكيَّة أينشتاين لا تختلف كثيرًا عن الجدل في صهيونيته، أو الكلام في مساهمته في صناعة القنبلة النوويَّة، لقد كان اشتراكيًّا خالصًا، لأنَّه في مفهومه يقترب من الجماعة بعكس الرأسماليَّة الأناويَّة الفرديَّة. وفي السنوات الأخيرة من حياته توسَّع أينشتاين إلى الخارج في وجهات نظره تجاه إسرائيل، فكان يزعم أنَّ الاستعمار يولد الفاشيَّة، وأنَّ الرأسماليَّة تزدهر على كمٍّ هائل من الضحايا البشريَّة، وربما أفضل ما يعبِّر عن هذه الأفكار مقالته التي تحمل عنوان “لماذا الاشتراكيَّة؟” الذي ظهر في العدد الأول من المجلة الاشتراكيَّة المستقلَّة، عندما أكَّد أنَّ العالم المتقدِّم موجود إلى حدٍّ كبير بسبب “الغزو” الذي اختلفت طرائقه وتنوَّعت أساليبه، وأنَّ الاقتصاد الغربي يحافظ على نفسه قائمًا من خلال التصنيع والصناعة، وهذا ما يعني أن تبقى المجتمعات الأخرى مكانًا لها ولاستقبالها، وهذا ما يفسِّر المعضلة الصينيَّة الأمريكيَّة الحاليَّة التي لبها أزمة الدين العام ونسبة السندات الصينيَّة في السوق الأمريكيَّة.
إنَّ الفوضى الاقتصاديَّة للمجتمع الرأسمالي كما هي اليوم عند أينشتاين، هي المصدر الحقيقي للشرّ؛ إنَّه يرى مجتمعًا واسعًا من المنتجين الذين يسعى أعضاؤه بلا كلل ولا ملل إلى حرمان بعضهم بعضًا من ثمار عملهم الجماعي بالقوَّة،لذلك كان أينشتاين اشتراكيًّا، لأنَّه كان إنسانًا فقد كانت المبادئ الاشتراكيَّة جميلة وخلابة ولكن واقعها المطبّق كان مخيفًا، ولعلَّ أينشتاين مات قبل أن يرى مآلها ومآزقها التي خلقتها لنفسها.
لقد كان أينشتاين فيزيائيًّا عظيمًا جميلًا تجد ذلك في نظريته النسبيَّة الجميلة الواضحة،كما كان كاتبًا متعطِّشًا للرسائل يقدِّم نصائحه لزعماء العالم ويرسل خطابات لاذعة إلى الصحف الرئيسة.
لقد كان الفيزيائي الشهير مواصلًا في نهجه، دؤوبًا متحمِّسًا ومؤثِّرًا من خلال تناوله بانتظام للقضايا البارزة في عصره؛ تكشف مراسلاته المكتوبة عن تغيُّر تدريجي شكَّلته لحظات حاسمة في تاريخ القرن العشرين، ومن هذه الرسائل ما كتبه بعد أقل من 24 ساعة من تسرُّب الأخبار حول مذبحة دير ياسين في القدس الغربيَّة في أبريل 1948 عندما قام 120 إرهابيًّا من منظّمة إرغون بيغن وعصابة شتيرن التي يترأسها إرهابي آخر أصبح فيما بعد رئيسًا لوزراء إسرائيل(إسحق شامير) بدخول القرية الفلسطينيَّة وذبح ما بين 100 و250 رجلًا وامرأة وطفلًا فلقوا حتفهم جميعًا بوابل من الطلقات الناريَّة، بينما توفي آخرون جراء إلقاء قنابل يدويَّة على منازلهم، كما وردت أنباء عن حالات اغتصاب وتعذيب وتشويه.
وبعد شهر من الواقعة أنهى البريطانيون حكم الانتداب في فلسطين وظهرت إسرائيل إلى الوجود.
كانت رسالة أينشتاين المطبوعة موجَّهة إلى شيبرد ريفكين، المدير التنفيذي لجمعيَّة الأصدقاء الأمريكيين للمقاتلين من أجل حريَّة إسرائيل، ومقرّها نيويورك،تأسَّست هذه المجموعة في الأصل للترويج لأفكار عصابة شتيرن المناهضة لبريطانيا، وجمع الأموال في أمريكا لشراء أسلحة لطرد البريطانيِّين من فلسطين وتعيين ريفكين مديرًا تنفيذيًّا لها، وفي العادة من يلي هذا المنصب يشار إليه بالرجل الساقط أو الكاذب ” the fall guy ” وقد طلب منه بنجامين جيبنر، القائد الذي كان يزور الولايات المتّحدة أن يتَّصل بأينشتاين للحصول على مساعدته فاستجاب ريفكين سريعًا، وكان له اتِّصالات مع أينشتاين،ولكن في أعقاب مذبحة دير ياسين تلقَّى ردًّا لاذعًا مصاغًا في 50 كلمة فقط ([1]):
“سيدي العزيز:
عندما تحلّ بنا كارثة حقيقيَّة ونهائيَّة في فلسطين، فإنَّ المسؤول الأول عنها سيكون البريطانيون، والمسؤول الثاني عنها المنظّمات الإرهابيَّة التي تنشئها من صفوفنا. أنا لا أرغب في رؤية أي شخص مرتبط بهؤلاء المضلّلين والمجرمين” .
لقد كان أينشتاين داعية سلام، لقد أيَّد في البدايات الصهيونيَّة له وطنًا لليهود، ولكنَّه وطنٌ يختلف عن المخطَّط الصهيوني إنَّه يريده وطنًا للجميع وطنًا أخلاقيًّا لا عنصريًّا ولا فظًا ولا استعماريًّا، وبعد ما رأى من تجبّر يهودي افترق تمامًا مع الحالة الصهيونيَّة وفارقها للأبد.
لقد كان مقتنعًا بالحاجة إلى وطن قومي لليهود، لكنَّه كان يخشى التكلفة الباهظة إذا جاء بدون سلام عندما حذر وايزمان في عام 1929 قائلاً: “إذا لم نتمكَّن من إيجاد طريقة للتعاون الصادق والمعاهدات الصادقة مع العرب؛ فإنَّنا لن نتعلَّم أي شيء على الإطلاق من معاناتنا التي استمرَّت 2000 عام وسنستحق مصيرنا”.
إنَّه يشبه الفيلسوفة الأمريكيَّة سوزان نيمان المقيمة في ألمانيا، وتشغل منصب مدير منتدى أينشتاين في بوتسدام الداعية إلى السلام ولا تتحيَّز إلا إلى السلام وترفض كل ما يناقضه، واليوم تردِّد نيمان مخاوف أينشتاين. “إنَّ سياسات [نتنياهو] تخلق الغضب والإحباط في جميع أنحاء العالم، وسوف ترتدّ على اليهود”.
إنها تسعى جاهدة لرؤية الأحداث جميعًا بنفس العيون. “إنَّ التمييز والقمع لأي مجموعة من الناس على أساس تراثهم العرقي هو عنصريَّة.”
ومع ذلك تقول: إنَّ الالتزام العالمي القوي بإسرائيل يواجه سياقًا صعبًا، ففي عام 1948 فقد كتب أينشتاين وحنا أرندت كما سبق وشخصيات يهوديَّة بارزة أخرى إلى صحيفة نيويورك تايمز منتقدين حزب رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقبلي ووصفوه بأنَّه “فاشي”. على النقيض من ذلك، تقول نيمان: “إنَّ وصف اليمين المتطرِّف الإسرائيلي بالفاشي اليوم لن يؤدِّي فقط إلى اتِّهامات بمعاداة الساميَّة، بل قد يؤدِّي إلى عقوبة الإعدام المهني التام والطمس من الوجود نهائيًّا “.
إنَّ نيمان ترفض المقاطعة لكل ما هو إسرائيلي، ولكنَّها في المقابل ترفض أن تحرم المجتمعات من حقّها السلمي في التعبير، وتتساءل ماذا يستطيع أن يفعل الشباب الذين نشأوا في ظروف الاحتلال القسريَّة أكثر من هذا، لكن ولأكون منصفًا إنَّ الفيلسوفة الأمريكيَّة تتأخَّر درجات عن الفيزيائي العظيم في تصريحاتها ومواقفها من المسألة الفلسطينيَّة، وإن كانت داعية سلام ولكنَّه سلام وفق الحالة اليهوديَّة مع أنها سمَّت إحدى ابنتيها التوأم باسم عبري والأخرى باسم عربي، وهذا يعدّ مرحلة إيجابيَّة في النظرة إلى المسألة الفلسطينيَّة، وكما ذكرت حنا أرندت ” كيف نعيش معًا”.
أمَّا أينشتاين فقد كانت أعمال العنف التي سبقت ولادة إسرائيل هي التي أثارت اشمئزازه بشكل خاص، ولا شك أنَّ هذه الأحداث كانت سببًا في المقام الأول في رفضه العرض المغري لأن يصبح رئيسًا لإسرائيل عندما عرض عليه دافيد بن غوريون رئيس الوزراء المؤسِّس للدولة. هذا العرض عام 1952 بالرغم من أنَّ رفضه كان مهذّبًا، فقد اعتقد أينشتاين أنَّ الدور سيتعارض مع ضميره باعتباره داعية للسلام.
هذا الأمر جعله محبوبًا لدى حركات السلام العالميَّة عندما كتب “البيان الموجَّه إلى الأوروبيين” للمطالبة بالسلام في أوروبا عن طريق الاتِّحاد السياسي لجميع الدول في جميع أنحاء القارة. ولا عجب أنَّه لم يقم قط بزيارة دولة إسرائيل التي تشكَّلت من فوهة البندقية والديناميت ودماء الفلسطينيِّين.