التنويريتربية وتعليم

الاغتراب التربوي مفهومًا وإشكاليَّة

يقول نيتشة: “إنّ التربية آلة للتلاعب والتناوب، تعمل على تشويه وعي الإنسان، وإلغاء ذاته، ومن ثمّ إخضاعه للسلطة المطلقة للدولة”. ويقول الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو” إنّ الإنسان المتمدّن يولد ويعيش ويموت في حالة عبوديّة، إذ يوضع في قماط عندما يولد، ويزجّ في كفن عندما يموت، ويقيّد بأغلال الحياة الاجتماعيّة أثناء حياته ([1]).

1- مقدمة:

يعد مفهوم الاغتراب (Aliénation ) من أكثر المفاهيم الإنسانية استخداماً في مجال العلوم الإنسانية، ومن أكثرها قدرةً على وصف مظاهر البؤس الإنساني والقهر الاجتماعي، ويشكل في الوقت نفسه مدخلا منهجيا تعتمده العلوم الإنسانية في تحليل الظواهر الاستلابية القائمة في واقع الحياة الاجتماعية ([2]). وإذا كان مفهوم الاغتراب يُعتمد كأداة تحليل منهجية في دراسة القهر الذي تفرضه الأوضاع الاجتماعية الصعبة على الأفراد، فإنه يشكل في الوقت نفسه منطلقا منهجيا لدراسة الأوضاع السيكولوجية الاغترابية للفرد في سياق تفاعله مع معطيات وجوده الاجتماعي، وهو وفقا لهذا التصور يأخذ بأهمية التفاعل الجدلي بين الاجتماعي والنفسي في دراسة ظواهر الضياع والاستلاب عند الإنسان المعاصر.

ويشهد مفهوم الاغتراب تطوّراً كبيراً في ذاته يتجاوب فيه مع الطابع المتجدّد للفكر الإنسانيّ في ضوء التحوّلات الإنسانيّة الجديدة المعاصرة في مختلف ميادين الحياة وتجلّياتها. وفي دائرة هذا التجدّد الفكريّ للمفهوم تطالعنا مفاهيم فرعيّة جديدة كالاغتراب الذاتيّ، والاستلاب الاجتماعيّ، والاغتراب السيكولوجيّ. ويلاحظ اليوم أنّ التيّارات الفكريّة الجديدة المعنيّة بالمفهوم تحاول أن توازن اليوم بين الرؤى الماركسيّة لهذا المفهوم وبين التصوّرات الّتي يقدّمها التحليل النفسيّ في دراسة ورصد أبعاد الحياة الاغترابيّة عند الإنسان.

وإذا كانت نظرية ماركس الاغترابية تشكل منطلق التحليل الكلاسيكي في ميدان الضياع والاستلاب والاغتراب، فإن الأبحاث السوسيولوجية والسيكولوجية الحديثة استطاعت أن تقدم إضافات جديدة في هذا الميدان لا تقل أهمية وخطورة. لقد ألحّ كارل ماركس وأكد أهمية الجوانب الاقتصادية في مفهوم الاغتراب، وقد أدى هذا التشديد الاقتصادي في كثير من المراحل الزمنية إلى تهميش الجوانب السيكولوجية والإنسانية لهذا المفهوم ([3]). ورغم ذلك استطاعت البحوث السيكولوجية أن تحقق تقدمها، وأن تؤكد في الوقت نفسه حضورها المظفر في تناول هذا المفهوم وتحليله من زاوية سيكولوجية صرفة. ويلاحظ في هذا السياق أن التيارات الفكرية الحديثة عملت بصورة مستمرة على تحقيق المصالحة بين مفهوم الاغتراب الماركسي ومفهوم الاغتراب في التحليل النفسي. 

فالإنسان، كما يقول هنري ليفيبفر (Henri Lefebvre) يؤثّر في الطبيعة ويتأثّر بها، وهو عندما يغيّرها يتغيّر معها في الآن الواحد”، ومن ثمّ فإنّ العلاقة النشطة بين الإنسان والطبيعة لا تنطوي على خفايا وأسرار؛ لأنّ هذه العلاقة تعبّر عن نفسها بالفعل الإنسانيّ والعمل الاجتماعيّ بصورة مركزيّة، ” فالإنسان يستطيع عبر العمل أن يتجاوز حدود الحياة العفويّة المباشرة في الطبيعة، وأن ينتج ويبدع أشياء متعدّدة، وهذه الأشياء تلبّي حاجاته، ولكنّها في الوقت نفسه تولّد حاجات جديدة دون انقطاع، وهي في الوقت نفسه تعمل على تعديل الحاجات القائمة، وفي مجرى تحقيق الإنسان لذاته في عالم الأشياء، ومثل هذا الحضور الذاتيّ الفاعل لا يعني ضياعاً للإنسان واستلاباً له، بل يرمز إلى نمائه وازدهاره” ([4]). فالإنسان، كما يرى إريك فروم، ينتج في سياق حياته مظاهر إنسانيّة متعدّدة مثل: الاتّصال الإنسانيّ، والحبّ، والإبداع، وحرّيّة اتّخاذ القرار، وهي تجارب إنسانيّة مضادّة لمفهوم الاغتراب والاستلاب. وهو، في هذا السياق، يعلن أنّ الفنّ يمثّل النموذج الأسمى للفعل الإنسانيّ بوصفه إنتاجاً إبداعيّاً يمكّن الإنسان من تجاوز وضعيّتة الاغترابيّة وتأكيد حضوره الإنساني وتحقيق الذات الإنسانيّة (Réalisation de soi).

وعلى هذا الأساس يعرّف إريك فروم الاغتراب بأنّه “نمط من التجربة يعيش فيها الإنسان غريباً عن ذاته، وتتمثّل هذه الوضعيّة في اللحظة الّتي يشعر فيها بأنّه لم يعد منجّاً لأفعاله بإرادته، وأنّه أصبح في الوقت نفسه تحت سيطرة أفعاله ونتائجها” ([5]). ويبدو واضحاً في هذا السياق أنّ فروم يعني بالاغتراب الوضعيّة الّتي يفقد فيها الفرد مقاليد ذاته وقدرته على التحكّم بمصيره، وذلك عندما يصبح عبداً لأفعاله الّتي تتحوّل إلى أوثان وأصنام يعبدها ويسترضيها. ويرى فروم في هذا السياق أنّ الخضوع للصنم أو الوثن يشكّل جوهر العبوديّة والاغتراب، وأنّ الأوثان الّتي يصنعها الإنسان لنفسه تضعه في مستنقع الصنميّة والعبوديّة. وفي هذه الوضعية الاغترابيّة يتنازل المرء عن نفسه ويتخلى عن إرادته ويستسلم لقيم المجتمع السائدة في مجتمعه، ولاسيّما في المجتمع الصناعيّ الحديث. وفي هذا الصدد يصف إريك فروم الاغتراب في كتابه الخوف من الحرّيّة، بقوله:” إنّ الفرد يكفّ عن أن يصبح نفسه أو سيّداً لنفسه، إذ يعتنق الشخصيّة النموذجيّة الّتي تفرضها النماذج الحضاريّة؛ ولهذا فإنّه يصبح تماماً كما يتوقّع منه الآخرون أن يكون ([6]).

هذه الرؤى حول مفهوم الإنتاج ودوره في تحقيق إنسانية الإنسان، أو بوصفه فعلا إبداعيا يؤسس لتصور حول مفهوم الاغتراب ذاته، فالاغتراب هو حالة تضع الإنسان خارج ذاته، تحت تأثير نسق من العوامل التي تعيق إنتاجية الإنسان، وتعطل عملية الإبداع لديه، وتدمر إمكانياته في التعبير الحر عن وجوده، فتمنع عليه ازدهاره وتفتحه الإنساني ([7]).

 

2- مفهوم الاغتراب:

ظهر مفهوم الاغتراب (Alienation) لأوّل مرّة في عام 1837 في استخدامات فالريه (Falret) ليدلّ به على مظاهر الاضطراب العقليّ، وبدأ هذا المفهوم فيما بعد يوظّف في مجال علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس الاجتماعيّ. وينطوي المعنى الأوّل لهذه الكلمة على معنى نقل الملكيّة من شخص إلى آخر إكراهاً. وقد استخدم الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو مفهوم الاغتراب بمعنى تحوّل الإنسان إلى عبد للمؤسّسات الاجتماعيّة والنماذج السلوكيّة الّتي أنشأها، وذلك في سياق تطوّر التاريخ الإنسانيّ. وكلمــــة “الاغتراب ” هي ترجمــــة للكلمــــة الإنجليزية (Alienation) والكلمــــة الفرنســيّة (Aliénation) والكلمة الألمانيّة (Entfremdung) وهي كلمات مشتقّة مــن الأصــل اليونــانيّ (Alienatio) والّتــي تشــير إلــــى انتقــــال ملكيّــــة شــــيء مــــا إلــــى آخــــر، أو انتزاعــــه أو إزالتــــه ، وتســــتمدّ كلمــــة ” (Alienatio) الإغريقيّة من الفعل  (Alienus) بمعنى الانتماء إلى شخص آخر([8]).

ويشير الاغتراب إلى الحرمان الحقيقي والملموس موضوعيًا من حق الفرد في التصرف في أرضه، وثرواته، وقدرته على العمل، وما إلى ذلك، لصالح قوة أخرى، ويتمثل في أي عملية استلاب لوعيه ومشاعره وكرامته الإنسانية.

استخدم هيغل مفهوم الاغتراب (Entfremdung) في كتابه “فينومولوجيا الروح” (Phenomenology of Mind) وعنى به الانفصام بين الوعي الذاتي والوعي الاجتماعي. وعلى هذا الأساس عرف هيغل الاغتراب بأنه حالة العجز التي يعانيها الإنسان عندما يفقد سيطرته على أشيائه ومنتجاته وممتلكاته، وعندما تصادر هذه الأشياء، وتوظف في مصلحة الغير.

وعلى أثر هيغل استخدم الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ (Ludwig Feuerbach, 1804-1872) مفهوم الاغتراب ووظفه في تفسير علاقة الإنسان بالدين، وقد وجد أن اللاهوت يشكل قوة خارجية تستلب الإنسان، وتفقده حريته وقدرته على امتلاك ذاته، ويعني بذلك أن الإنسان اللاهوتي يخضع لسيطرة مخلوقات مقدسة قد تتحكم به عوضا عن أن يتحكم بها، فيتحول الخالق إلى مخلوق، والمخلوق إلى خالق.

ومن ثم جاء كارل ماركس (1818-1883) ليقدم لنا نمطا جديدا من التوظيف الاجتماعي والاقتصادي لمفهوم الاغتراب، وقد تجلى هذا الاستخدام الجيد في كتابه “نقد فلسفة الحق عند هيغل” (Critique of the Hegelian Philosophy of Right’) وقد عمل ماركس على تحرير هذا المفهوم من الطابع المثالي، ووظفه في دراسة أوضاع العمل والعمال في المجتمعات الرأسمالية، وحاول أن يبرهن بأن الاغتراب يتغلغل في مختلف مظاهر الحياة العامة والخاصة في المجتمعات الرأسمالية التي حولت العمال إلى كائنات مستلبة مغتربة وإلى مجرد سلع بتابع وتشرى في أسواق العمل. وقد قدم لنا تحديد أربعة جوانب أساسية للاغتراب: ([9])

 1- اغتراب العامل في علاقته بمنتجاته، فهو يعمل في المجتمعات الرأسمالية من أجل غيره، وليس من أجل نفسه.

2-اغتراب عن عمله بالذات في المجتمعات الرأسمالية، إذ لا يختبر فيه أي اكتفاء ذاتي، بل يتنكر لها أيضاً ويشعر بالتعاسة.

3-اغتراب العامل في المجتمع الرأسمالي عن الطبيعة نفسها التي هو جزء منها هي جزء منه، ومن الوعي الإنساني عندما حولها إلى وسيلة لسد حاجاته المادية، فأصبحت حياته وسيلة للعيش ولمجرد بقائه الجسدي.

4-اغتراب أيضاً في علاقته مع الإنسان الآخر؛ لأنه يعمل ليس لنفسه، بل لغيره وتحت سيطرته. وقد يتحول العامل نفسه إلى سلعة يتم تبادلها في الأسواق، إذ يرتبط الناس بالسلع التي يتبادلونها وليس في ما بينهم كأشخاص.

وباختصار، يرى ماركس في الاغتراب العملية التي يتحول فيها الإنسان إلى حالة تشيؤ (Objectivation)، أي: عندما يتحول الإنسان من ذات معنوية إلى مجرد شيء أو قيمة مادية تنطبق عليه قوانين قيم الأشياء لا قيمة الإنسان، وهي الحالة التي تتحول فيها قوة عمله إلى سلعة تباع وتشترى في الأسواق. فالعمل برأي ماركس هو الذي طور الإنسان، وهو الذي زج به في الوقت نفسه في مرامي العبودية وزنزانات القهر. فالعمل كما يرى ماركس يخلق الإنسان ويطوره، ولكنه يمتص في الوقت نفسه كل قواه ويستعبده ([10]).

 ومن المهمّ في هذا السياق أنّ عالم الاجتماع الفرنسيّ دوركهايم (1858 -1917) استخدم مفهوم “الأنومي” (Anomy) ليعبّر به عن حالة الاغتراب الاجتماعيّ في أوروبا، والأنوميّ، كما عرفناها في أكثر من موقع في الفصول السابقة، حالة تفكّك القيم والمعايير الاجتماعيّة والقيم الأخلاقيّة ودخول المجتمع في حالة الفوضى اللامعياريّة، ويعيد دوركهايم هذه الوضعيّة الأنوميّة إلى الفوضى العارمة الّتي خلّفتها الثورة الصناعيّة وما رافقها من ازدهار الروح الرأسماليّة وإضعاف القيم والمعايير التقليديّة.

هذا ويحدّد مولفان سومان (Melvin Seeman) خمسة أبعاد أساسيّة لمفهوم الاغتراب هي: الحرمان من السلطة، غياب معنى الحياة، وغياب للمعايير، ومن ثمّ غياب للقيم، وإحساس بالغربة عن الذات([11]). ويعني هذا المفهوم بصفة عامّة كلّ أشكال القهر ومشاعر البؤس والشقاء الّتي يعانيها الإنسان في الحياة.

فالإنسان كينونة جوهرها العقل والحرّيّة والعمل والانتماء، وكلّ ما من شأنه أن يمسّ هذه الأبعاد الأساسيّة لجوهر الشخصيّة يدفع الشخصيّة إلى حالة اغتراب واستلاب. فالاغتراب في حدود ما ننظر إليه، ونوظّفه في هذه المقالة هو: الوضعيّة الّتي ينال فيها القهر والتسلّط والعبوديّة من جوهر الإنسان، وهو الحالة الّتي تتعرّض فيها إرادة الإنسان أو عقله أو نفسه للاغتصاب والقهر والاعتداء والتشويه. ومن ثمّ فإنّ أدوات الاغتراب هي مختلف أدوات القهر، وكلّ ما من شأنه أن يعاند نموّ الشخصيّة الإنسانيّة وازدهارها وتفتّحها. وفي هذا السياق يمكن القول بأنّ مظاهر الاغتراب تتبدّى في أشكال أحاسيس مفرطة بالدونيّة، واللامبالاة، والقهر، والضعف، والقصور والسلبيّة، والانهزاميّة. وتلك هي البوّابة المنهجيّة لمفهومنا عن اغتراب الشخصيّة([12]).

ويشير مفهوم الاغتراب إلى الحالات الّتي تتعرّض فيه وحدة الشخصيّة للانشطار، أو للضعف والانهيار، بتأثير العمليّات الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي تتمّ في داخل، أو في خارج  المجتمع. ومن هذا المنطلق، فإنّ العقد النفسيّة، وحالات الاضطراب النفسيّ، أو التناقضات تشكّل صورة من صور الأزمة الاغترابيّة الّتي تعتري الشخصيّة. وهذا يعني في نهاية الأمر أنّ مفهوم الاغتراب يشير إلى النموّ المشوّه للشخصيّة الإنسانيّة، حيث تفقد فيه الشخصيّة مقوّمات الإحساس المتكامل بالوجود والديمومة.

ومفهوم الاغتراب هو الحالة أيضاً الّتي يتعرّض فيها جوهر الشخصيّة للقسر والإكراه. فعندما تتعرّض الشخصيّة الإنسانيّة في جوهرها العقليّ، أو الثقافيّ، أو الاجتماعيّ، لنوع من التشويه والاغتصاب تحدث عمليّة اغتراب وتشويه. ووفقاً لهذه الصيغة يمكن القول أنّ مفهوم الاغتراب في الشخصيّة يتحدّد بالجوانب التالية:

1 حالات عدم التكيّف النفسيّ الّتي تعانيها الشخصيّة: عدم الثقة بالنفس، القلق المستمرّ، الرهاب الاجتماعيّ، المخاوف المرضيّة.

-2 غياب الإحساس بالتماسك والتكامل الداخليّ في الشخصيّة.

3-حالة ديمومة العقد النفسيّة الّتي تعتري الشخصيّة : عقدة أوديب، عقدة الخصاء، عقدة النقص، عقدة الاضطهاد…الخ.

4- ضعف أحاسيس الشعور بالهويّة مثل : الشعور بالانتماء، الشعور بالجهد المركزيّ، الشعور بالحبّ، الثقة بالنفس، الشعور بالقيمة، غياب الإحساس بالأمن.

ويتّضح لنا، في هذا السياق، أنّ مفهوم الاغتراب مفهوم معقّد يرتكز إلى منظومة من العمليّات الأساسيّة للعمليّة الاغترابيّة، ويمكن لنا في هذا السياق تحديد أربعة أبعاد أساسيّة في بنيته:

 2-1- الإكراه والتسلّط:

توظف مفاهيم العبوديّة التسلّط الإكراه للتعبير عن الوضعيّة الاغترابيّة للإنسان، فالإنسان المستلب المغترب إنسان فقد حرّيّته في الجوهر، لأنّ الاغتراب لا يكون إلّا تغييباً للحرّيّة. فالإنسان يكون حرّاً عندما يستطيع أن يمتلك زمام نفسه، ويسيطر على وسطه الشخصيّ الفيزيائيّ والاجتماعيّ، ويكون حرّاً عندما يكون قادراً على إبداع أشياء توضع في خدمته، وتشكّل أدواته في أن يكون أكثر حرّيّة وأكثر قدرة على التحكّم بوجوده ومستقبله. وعلى خلاف هذا التصوّر إذا كان الإنتاج الإنسانيّ يأخذ طابعاً استعباديّاً مضادّاً لحرّيّة الإنسان، عبر عمليّات القهر والتسلّط، فإنّ الإنسان يتحوّل إلى كائن مستلب مغترب مهزوم بكلّ المعايير والدلالات الحقّة في مفهوم الاغتراب، ولذلك فإنّ غياب المشاركة في السلطة، أو في القرارات الّتي توجّه حياته ووجوده يشكّل واحد من أهمّ عوامل اغترابه واستلابه.

2-2-  فقدان  الشعور بالانتماء:

يشكّل اللانتماء ركناً أساسيّاً من أركان مفهوم الاغتراب، فأفراد الطبقة العاملة، على سبيل المثال، لا يستطيعون التأثير في الحياة الاجتماعيّة الّتي تعدّ إنتاجاً منظّماً للطبقة البرجوازيّة الّتي تضع الطبقة العاملة في خدمتها، وهنا في هذه الحالة لا يكون إنتاج الإنسان (إنسان الطبقة العاملة) في خدمته، بل يتحوّل إلى شيء خارجيّ يستعبد الإنسان ذاته، فالطبقة العاملة تنتج القوّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وهذه القوّة تتحوّل مرة أخرى عبر الطبقة البرجوازيّة إلى قوّة قهر وتدمير وعبوديّة ضدّ الطبقة العاملة الّتي أنتجتها، وهذا يعني أنّ العمل هنا لم يعد إنسانيّاً، بل هو قوّة خارجيّة قاهرة، ففي مجتمع مستلب (كما هو الحال في داخل طبقة اجتماعيّة مستلبة) لا يشكّل الانتماء الاجتماعيّ أداة لتحقيق الذات والهويّة. فمفهوم الاغتراب يقوم هنا على التناقض الاجتماعيّ الّذي يتمثّل في تقسيم العمل، وتجزئة الأدوار الاجتماعيّة، وتشتيت التجربة الإنسانيّة. ومن هذا المنطلق يتجلّى الاغتراب هنا في صورة صراع بين الأدوار، ولاسيّما في مستوى الصراع بين الانتماء إلى العائلة أو الدولة، بين الانتماء إلى الأمّة وبين الانتماء إلى الطبقة الاجتماعيّة، بين وعي الذات ووعي الآخر، بين المصلحة الاجتماعيّة ومصلحة الطبقة، بين الأنا والآخر، وهذه التناقضات الاجتماعيّة تعطّل عمليّة تحقيق الذات الاجتماعيّة، كما أنّها تمنع عمليّة المشاركة في الفعاليّة السياسيّة للإنسان المحطّم.

فالانتماء إلى جماعة أو طبقة أو مجتمع يتضمّن وضعيّة من وضعيّات التجانس الاجتماعيّ، ومن ثم فإنّ تحقيق الذات الاجتماعيّة عمليّة تقوم على أساس بناء علاقة إيجابيّة مع الآخر، وقد يكون هذا الآخر جماعة أو مجتمعاً أو شخصاً أو طبقة. وعندما تكون هناك تناقضات حقيقيّة في طبيعة هذه الانتماءات، فإنّ هذه التناقضات تمنع الشخص في نهاية الأمر من الانتماء إلى نفسه، أي تشطره، ومن ثم فإنّها تمنعه من امتلاك هويّة خاصّة، أي الشعور بالكيان الواحد الّذي يستجمع مختلف تجارب الفرد، أو الشعور بامتلاك الإنسان معنى خاصّ لحياته الإنسانيّة.

2-3- الوعي المزيّف:

يشكّل الوعي بالنسبة للإنسان طريقة في الوجود ومنهجاً في الكينونة. والوعي هو التنظيم الديناميّ للحياة النفسيّة أنّه الحالة أو الكيفيّة الّتي يتمكّن الإنسان بموجبها أن يصبح موضوعاً لذاته، أي أن يجعل الفرد من نفسه موضوعاً للمعرفة، وأن يكون بالتالي عبر وعيه بذاته سيّداً لنفسه. ومن هنا فإنّ أيّ تناقض بين الواقع والتجربة من جهة، وبين الوعي الذاتيّ من جهة أخرى، يشكّل أحد أهمّ عوامل الاغتراب الإنسانيّ. لقد أدرك ماركس هذه الحقيقة منذ البداية، وبيّن أنّ التصوّرات الخاطئة المشوّهة، أو هذه الّتي تنقطع عن الحقيقة والتجربة تشكّل إحدى أهمّ العوامل الكابحة لعمليّة تطوّر الإنسان وتعميق إنتاجيّته الخلّاقة، وتضعه في دائرة الاغتراب. لقد بيّنت دراساته في “الأيديولوجيّة الألمانيّة” أنّ الوعي المزيّف هو مجموعة من التصوّرات الخاطئة عن الواقع الّتي تؤدّي في نهاية الأمر إلى تزييف الواقع نفسه وتشويه معطياته وإلى تعطيل التطوّر الخلّاق للإنسان.

ونحن في واقع الأمر عندما نقابل بين الوعي والوجود، فإنّه يمكن لنا أن نميّز بين الوعي الّذي يتوافق مع معطيات التجربة، وهو شكل من أشكال الوعي الحقيقيّ، وهذا الّذي يتعارض مع التجربة المعيشة، وهو صيغة أخرى للوعي المزيّف. فالوجود تجربة معاشه، دون أن تكون كلّ تجربة داخلة بالضرورة في حقل الوعي، وهذا ينسحب على الأفراد والجماعات. فالوعي المزيّف يشكّل حالة من أكثر حالات الاغتراب حضوراً وأهمّيّة في الحياة الإنسانيّة. فالعلماء يقابلون بين الوعي والوجود، أي بين المعرفة والواقع، ويحاولون اختصار المسافة الفاصلة بينهما، فيكون الوعي قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة المعيشة، وذلك بمساعدة أدواتهم العلميّة والمعرفيّة.

فالفيلسوف يحلّل حقل المعرفة أو الوعي، ويدرس نظام التصوّرات الخاصّة بوجود الإنسان، وذلك بالعلاقة مع مفهومه عن الإنسان مثل مفهوم الإنسان الكلّيّ، وعالم الاجتماع يوازن بين تصوّراته عن الحياة الاجتماعيّة مع الحقيقة السوسيولوجيّة الواقعيّة، بما يسمح له ببناء نظريّته الاجتماعيّة، كما أنّه عالم النفس أو عالم التحليل النفسيّ يقابل بين وعي الفرد كما يتبدّى عبر تقصّياته الإكلينيكيّة مع مفهوم الإنسان كما يراه عبر منظومته الفكريّة، وهذا ما نراه عند فروم الّذي قارن بين وعي الإنسان في المجتمع الرأسماليّ مع مفهوم الصحّة العقليّة للفرد. وباختصار فإنّ هذا التباعد بين التجربة والمعرفة، أو بين الوعي والوجود، يوضّح لنا مفهوم الاغتراب بوصفه وعياً مزيّفاً يمكن أن يقارن بالوعي الموضوعيّ، وهو شكل من أشكال الوعي الّذي يتشكّل من قبل ملاحظ خارجيّ، ويرمز إلى حقيقة وجوديّة أو تحديد ذاتيّ للحقيقة الموضوعيّة.

2-4- الجمود والانقطاع:

يكون الإنسان لا يكون مستلباً عندما لا يستطيع تجاوز الوضعيّات النفسيّة والحالات الاجتماعيّة الّتي تحاصره وتحيط به ثم تحبطه. فالإنسان الّذي لا يغيّر الأشياء، ولا يتغيّر يقع في مستنقع الجمود والعدميّة الاغترابيّة. وهذا يعني أنّ الإنسان الّذي لا يؤثّر في وسطه، ولا يجدّد في معالم وجوده هو إنسان يعيش حالة اغترابيه إلى حدّ كبير. فالماركسيّة تفترض وجود نزعة أساسيّة نحو النموّ الديالكتيكيّ عند الإنسان في اتّجاه تجاوز الوضعيّات الآنيّة فوراً، ومن هذا المنطلق، ومن أجل إزالة التناقضات الّتي تعترض سبيل هذا النموّ الديالكتيكيّ عند الإنسان يعمل الإنسان على بناء أدوات جديدة وأشياء متجدّدة (مثل الأنظمة الاجتماعيّة الجديدة) وبهذه الطريقة عينها تعمل هذه الحركة الديالكتيكيّة على إشباع الحاجات المتجدّدة وهي في دائرة حركتها هذه تعدّل هذه الحاجات وتغيّرها في آن واحد.

فالإنسان كائن متغيّر، وهذا التغيّر وهو لا يبحث عن وضعيّة ثابتة نهائيّة، بل وعلى خلاف ذلك يسعى إلى تحقيق حركة تغيّر ديناميّة ديالكتيكيّة في اتّجاه أشكال جديدة من السلطة وأنماط متجدّدة من الانتماءات الاجتماعيّة، والإنسان المستلب هو الإنسان الّذي يعيش حالة جمود تمنعه من تجاوز نفسه والظروف التي  تحيط به، أيّ هذا الّذي ينغلق على ذاته، ولا يستطيع المبادرة إلى الإنجاز والعقل. ومن ثم فإنّ الإنسان يعيش نسقاً من التناقضات الكبيرة في مختلف جوانب حياته ووجوده. ويمكن لنا في المستوى النظريّ أن نفترض أنّ هذه التناقضات توجد في أصل كلّ ممارسة إنسانيّة، وفي كلّ عمليّة أو مرحلة من مراحل الإنتاج الإنسانيّ بالمعنى الإنسانيّ بالمعنى الواسع للكلمة.

والإنسان يمتلك نزعة سيكولوجيّة لتحقيق التوازن إزاء هذه التناقضات، وتتجلّى هذه النزعة في منظومة من العمليّات النفسيّة الّتي تفعل فعلها في تحقيق التوازن الفرد وتماسكه إزاء التناقضات الّتي يواجهها. هذه العمليّات النفسيّة تعمل على تحقيق التوازن بين تجربة الفرد وبين تصوّراته العاكسة لهذه التجربة، وبمعنى آخر تحدث هذه العمليّات توازناً حقيقيّاً بين وجود الفرد وذاته، كما أنّها تعمل على تحقيق التوازن بين الهويّة الفرديّة وصورة الفرد عن ذاته، وهذا ينسحب على مختلف التناقضات الّتي تفرض نفسها في حقل التجربة الإنسانيّة للفرد أي في مختلف الاتّجاهات والمواقف والقيم الصادرة عن الفرد.

وتعتمل النزعة الإبداعيّة في ذات الفرد جنباً إلى جنب مع النزعة التوفيقيّة. فالإنسان مفطور على نزعة الإبداع والتجديد والابتكار وتجاوز اللحظات الآنيّة في اتّجاهات أرحب وأشمل تتجاوز الحالات الراهنة بوضعيّات مستجدّة. والإنسان يعيش حالة صراع مستمرّة بين النزعة إلى التوازن والنزعة إلى التجديد والابتكار، ومن ثم فإنّ هذا الصراع المركزيّ (توازن وابتكار) يدخل في صلب التناقضات العاطفيّة والنفسيّة والعقلانيّة، وفي مختلف مظاهر الحياة النفسيّة عند الإنسان. ويعيش الإنسان نظاماً معقّداً من التناقضات المتداخلة والمتشابكة في اتّجاهات أفقيّة وعموديّة رئيسيّة وجزئيّة. فالتناقض بين تجربة الفرد الخاصّة ووعيه بمعطيات هذه التجربة يستجمع في ذاته مختلف التناقضات الانفعاليّة والعقلانيّة الّتي تتجلّى في الحبّ والحقد والكراهية والأمل والطموح والانفتاح.

وباختصار، يغطّي مفهوم الاغتراب مختلف النشاطات الإنسانيّة والفعّاليّات الاجتماعيّة القائمة على القهر والاستلاب وتشويه الوعي، ومن هنا يجري التأكيد اليوم على الطابع الشموليّ لهذا المفهوم الّذي يتجاوز حدود النشاطات ذات الطابع الاقتصاديّ أو السياسيّ، وهذا يعني التحفّظ على الموقف الماركسيّ حيث يتمّ توظيف مفهوم الاغتراب في التركيز على الجوانب الاقتصاديّة والسياسيّة للنظام الرأسماليّ. إذا كان مفهوم الاغتراب يقارب الشرط الإنسانيّ بالدراسة والتحليل، وإذا كان تحليل الظاهرة الاغترابيّة قد بدأ مع اللحظة الّتي بدأ فيها التساؤل يدور حول دور بعض الأنظمة الاجتماعيّة القائمة كالمجتمع الرأسماليّ، فإنّ ذلك كلّه لا يمنع من التفكير في وضعيّة الفرد ومعاينة شروط وجوده الفرديّ والنفسيّ؛ ومن ثمّ تحليلها من خلال مفهوم الاغتراب ذاته. وهنا يجب التأكيد على أهمّيّة وحدة العوامل النفسيّة والاجتماعيّة في بوصفها عوامل بنائيّة متكاملة في عمليّة الاغتراب.

لقد اعتمد الماركسيّون مفهوم الاغتراب منطلقاً أساسيّاً لإدانة النظام الرأسماليّ برمّته. وهم مع ذلك لا يرفضون الجوانب الفلسفيّة لهذا المفهوم الّتي تتّصل بمفهوم الإنسان ذاته وبغاياته الوجوديّة في الأصل، وبعبارة أخرى لا يمكنهم رفض العوامل الفرديّة والسيكولوجيّة في بناء مفهوم الاغتراب. وعلى الرغم من الانتقادات الموجّهة للتصوّرات الماركسيّة حول الاغتراب، فإنّه لا يمكننا أبداً أيضاً أن ننكر أهمّيّة الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي تجد تقديراً أكبر في الفكر الماركسيّ. وفي الأحوال كلها يتوجّب علينا ألّا نغلق بوّابات الفهم الخاصّ بمفهوم الاغتراب؛ لأنّ هذا المفهوم يأخذ أبعاداً اقتصاديّة واجتماعيّة ونفسيّة تتّصف بالتنوّع والتعدّد.

ومن الأهمّيّة بمكان في هذا السياق أن ندرك بأنّ الفهم “السيكوسوسيولوجيّ” (النفسيّ الاجتماعيّ) يمكننا من الكشف عن المسافة الّتي تفصل بين تجربة الفرد الخاصّة وتجارب الجماعات الّتي ينتمي إليها. فمفهوم الاغتراب يصف لنا الشرط الإنسانيّ ويساعد على تحليل حقل الانتماء الاجتماعيّ للفرد، ويغطّي في الوقت نفسه الفعّاليّات النفسيّة الّتي تعتمل في داخل الفرد. فالاغتراب مفهوم أداتي يمكننا من تحليل تأثير الشروط الخارجيّة والداخليّة في تشكيل وعي الفرد وتوازنه النفسيّ. وبعبارة اختتاميّة يمكننا القول بأنّه لا يمكن اختزال مفهوم الاغتراب إلى أحد أبعاده النفسيّة أو الاجتماعيّة، بل وعلى خلاف ذلك فإن هذا المفهوم يجد ماهيّته وخصوصيّته في وحدته الجدليّة الجامعة ما بين النفسيّ والاجتماعيّ أو ما بين السوسيولوجيّ والسيكولوجيّ خارج الدلالة الأيديولوجيّة والسياسيّة للمفهوم، ومن ثم فإنّ الفهم الأعمق لدلالة هذا المفهوم لا يكون إلّا بقراءة متأنّية لنظام التفاعل بين العوامل النفسيّة والاجتماعيّة المولّدة لمفهوم الاغتراب، وذلك بعيداً عن الصبغة الأيديولوجيّة الّتي مني بها في بعض النظريّات.

3- الاغتراب التربوي

يتحدد مفهوم الاغتراب التربوي بالوصف الرائع الذي نجده عند المربي الشهير باولو فرايري ” فيريير A. Ferrière ” صاحب كتاب ” التربية الفعالة L’école active. يقول فيريير:” إن الطفل يحب الطبيعة، ولكننا نحبسه في عرف مغلقة، وهو يحب اللعب، ولكننا نطلب منه أن يدرس ويجتهد، إنه يحب أن يرى نشاطه يتجسد في أداء خدمة معينة، ولكننا نحاول ألا يكون لنشاطه أي غاية أو هدف. إنه يحب أن يمسك الأشياء بيديه، بيد أننا لا نفسح المجال إلا لذاكرته، هو يحب الكلام، ولكننا نكرهه على الصمت. وهو يود أن يحاكم الأمور، فنكرهه على الحفظ، يحب أن يبحث عن العلم، فنقدمه له ممضوعا جاهزا، ويهوى أن يسير على هواه، فنخضعه لنير الراشدين وهواهم. إنه ينزع الإبداع، فنبتكر له العقاب جزاء له، ويؤثر أن يقوم بخدماته عفو الخاطر بملء حريته، فنعلمه الطاعة السلبية” ([13]).

في هذا الوصف تتبدى معالم الفعل التربوي وأوالياته، وفيه أيضا نجد صورة حية للتربية الحرة الإنسانية وفعالياتها، وهي التربية التي تخاطب في الطفل العقل لا الذاكرة، والنشاط لا الجمود، والحرية لا الإكراه، والغاية لا الوسيلة، وهي في نهاية الأمر تخاطب الإنسان في الطفل، وتعمل على إنماء حواسه الإنسانية.

يشير مفهوم اغتراب الوعي إلى الموقف الذي يتمثل فيه الفرد أفكارا وتصورات مزيفة عن الواقع والحياة والوجود، وغالبا ما تكون هذه الأفكار متنافية مع القيم الإنسانية لوجوده الاجتماعي والسياسي. يصف جون هولت في وصفه لأكثر مفاهيم اغتراب الوعي خبثا وأكثرها خطورة بحكمة قوله “إن قلة من العبيد تفكر في الحرية. أما جمهرتهم فكل يباهي بأن سيده هو الأفضل والأقوى والأغنى”([14]). فالأطفال ” كثيرا ما يزقون بأفكار الآخرين، فإذا استدخلوها ظنوها أفكارهم الخاصة، وهذا هو المراد بتزييف الوعي الإنسان”([15]).

4- جدليّة التشكّل السيكولوجي الاغترابي عند الطفل:

التربية وقمع الذاتيّة الفرديّة عند الطفل ثلاثة أساليب، الواقع الثقافيّ الّذي يحيط بالطفل يعمل على إلغاء التلقائيّة العفويّة في الطفل، ويميل إلى تعويض ذلك بمشاعر وأفكار ورغبات مقبولة من قبل الآخرين، ومن ثم فإنّ لعمليّة قتل عفويّة الطفل أساليب متعدّدة منها:

أوّلاً- تحقير العواطف الإنسانيّة: تتمثّل هذه الوضعيّة في احتقار العواطف والمشاعر الإنسانيّة عند الطفل تحت شعار العقلانيّة والموضوعيّة الزائفة، إذ يتمّ رفض مشاعر الأطفال، وازدراء مشاعرهم، وإهمال أحاسيسهم، وكبت مشاعرهم النبيلة.

ثانياً – قتل العفويّة العقليّة عند الأطفال: فأساليب القسر والتخويف والتلقين تدفع الطفل إلى دوائر العقل الممتثل والفكر الجامد، وتقتل فيه كلّ إمكانيّات الفكر النقديّ المبدع. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى منظومة منهجيّة من الفعاليّات في المستوى العقليّ، والّتي تتمثّل في تجزئة المعرفة إلى فتات وتقديمها ممضوغة للطفل بصورة لا تكامل فيها حيث تمثّل هذه المعرفة نظاماً مشوّهاً لا يستطيع أن يمكّن الأطفال من تفسير الظاهر الحياتيّة والكونيّة على نحو شموليّ ([16]). ويضاف إلى ذلك أنّ النظام التعليميّ يستنزف طاقة الأطفال الذهنيّة في فيض من المعلومات الجزئيّة الّتي تقتل فيه إمكانيّات التفكير النقديّ، وتفرغه من إمكانيّة الفعل العقليّ المبدع. يقول محمّد جواد رضا في هذا الخصوص:” إنّنا عندما نضخ في عقل الطفل مئات، بل آلاف من المعلومات غير المترابطة، فإنّنا نستنزف عقل الطفل وطاقاته في جهد آليّ لا يترك له أي فرصة ممكنة للتفكير ([17]).

ثالثاً – قتل الفكر الأصيل في الإنسان: كما يقع للعاطفة الأصيلة من اغتيال يقع للفكر وللمؤسّسة التربويّة مراوغة كثيرة في هذا المجال. يمكن أن أعود إلى باول فرايري والتعليم البنكيّ كشكل من أشكال اغتيال الفكر. يمتلك الطفل ميلاً وجوديّاً أصيلاً لحبّ المعرفة، هو يريد أن يعرف الحقيقة، ويريد أن يفكّر في ذلك لأنّ معرفة الحقيقة هي السبيل الأكثر أمناً وضماناً للوجود في عالم غريب وقويّ يحيط بهم. وبدلاً من أن تلبي نوازعهم يواجهون بالازدراء والسخرية من أفكارهم، وبالتجاهل المراوغ. مثال: كيف تجيب الأمّ طفلها حين يسألها من أين جاء، أو كيف يكون الطفل الثاني الّذي في بطنها، هذا مثال واحد من أمثلة أكثر تعقيداً ([18]).

رابعاً – تدمير البنية الأخلاقيّة للطفل وإضعاف إرادته: فالطفل يحاصر بمنظومة هائلة من المعايير الأخلاقيّة الّتي تحيط به وتحاصره وتشلّ إمكانيّاته الأخلاقيّة في الآن الواحد. فالتربية التسلّطيّة القائمة في المجتمع تدفع في أعماقه وقيمه الأخلاقيّة منظومة من المعايير الّتي تعبّر عن معايير المتسيّد في المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والطبقيّة. وعلى هذا الأساس تستطيع الثقافة السائدة أن تعمل على إلغاء إرادة الطفل واغتيال إمكانيّاته الأخلاقيّة الحرّة من خلال تذويب إمكانيّات هذه الإرادة في عمق المنظومة الأخلاقيّة والتوجّهات السياسيّة والاجتماعيّة الّتي تعبّر عن ضمير وإرادة الفئات السائدة اجتماعيّاً. “فالمجتمع يقسرنا على التوافق معه إلى درجة التطابق، ويحاول أن يعصرنا في قوالبه الضيّقة، والتربية تضخّ فينا معارف لا معنى لها عندنا” ([19]).

ومن الأفانين المتّبعة تربويّاً في قتل الفكر الأصيل في الطفل النماذج التالية:

أوّلاً- التأكيد على معرفة الحقائق المنعزلة، أو المعلومات المتفرّقة الّتي لا تعطي تفسيراً لظواهر الحياة، ونحن عندما ” نضخ في عقل الطفل مئات، بل الآلاف من المعلومات غير المترابطة، فإنّنا نستنزف وقته وطاقاته في جهد آليّاً لا يترك له فرصة للتفكير، إنّ التفكير بمعزل عن المعلومات (الحقائق) يظلّ خاوياً، ولكن من ناحية أخرى إنّ المعلومات المجزئة وحدها تكون مانعاً للتفكير الصحيح (يمكن الإشارة إلى رأي توفلر حول عمليّات المعرفة وضغط المعرفة على الدماغ) إنّ هذه التجريبيّ في التعامل مع الحقيقة هي أخطر أساليب اغتيال العقل؛ لأنّها تقتل كلّ إمكانيّات التفكير الشموليّ في ذهن الفرد ([20]). فالحقائق تكتسب قيمتها من كونها أجزاء في كلّ مركّب، فإذا فصلت عنه تفقد قوّتها في عقل الفرد، وتصبح كلّ حقيقة مجرّد معلومة لا يربطها رابط ببقيّة الحقائق، وهذا ما تبرّع به الكتب المدرسيّة الآن كوسائل إعلام ([21]).

ثانياً – من أساليب قتل الفكر التأكيد للطفل أنّ المشاكل الاجتماعيّة هي فوق مستوى إدراكه وهي أكثر تعقيداً من أن يدركها، مع أنّ هذه المشاكل بسيطة يكمن لأيّ كان أن يدرك كنهها أسلوب تعجيز، وينتج هذا السلوك في حالتين:

1- حالة السخرية والشكّ في كلّ شيء مطبوع أو مسموع الشكّ في جدوى كلّ ما يعلم له.

2- العجز عن اتّخاذ القرارات وترك ذلك للآخرين، التنازل عن ممارسة الإرادة ([22]).

3- تزييف الإرادة: ما قيل عن غياب الأصالة يمكن تمديده إلى مجال الإرادة فالمؤسّسات المدرسيّة تحاول أن تفشل أدمغتنا، وأن تشوّه آدميّتنا فهي تملؤنا بمشاعر الخوف والذنب والعار ([23]).

إنّ بعض المقهورين من خلال مرحلة نضالهم؟ عوضا عن أن يناضلوا من أجل تحقيق حرّيّتهم، فإنّهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم، وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الّذي ظلّوا يعيشون فيه، لقد حلم هؤلاء أن يصبحوا رجالاً، لكنّ صورة الرجل بقيّت في مخيّلتهم صورة القاهر؛ لأنّ هذا هو المعنى المتجسّد لمفهوم الإنسانيّة في تصوّره ([24]).

وتفسير ذلك أنّ المقهورين يشعرون بشيء من التوافق مع قاهريهم، فلا يكادون يحسّونهم خارج أنفسهم، لقد أقحمت؟ تصوّراتهم بحقيقة الاضطهاد الّذي يعانونه كلّ يوم، فالإنسان الجديد في نظرهم إنّما هو صورة من صور قاهريهم ([25]).

الحرّيّة مخاض مؤلم، غير أنّ الإنسان الّذي سينبثق من أجوائها هو لا شكّ كائن جديد يتمتّع بإنسانيّته ([26]). إنّ تعليم المقهورين كممارسة إنسانيّة من أجل الحرّيّة، لا بدّ له أن يمرّ بمرحلتين متمايزتين، في المرحلة الأولى يستجلي المقهورون عالم القهر، ومن خلال ممارستهم للنضال يلتزمون بتغيّر هذا الواقع، وفي المرحلة الثانية، وبعد أن تتّضح حقيقة القهر لا يصبح التعليم من أجل المقهورين فحسب، بل من أجل الرجال كلّهم لأجل تحقيق حرّيّتهم الدائمة ([27]). وهذا يعني أن تعليم المقهورين في المرحلة الأولى لا بدّ له أن يستثير الوعي بحقيقة وجودهم وحقيقة وجود القاهر، أو بمعنى آخر وجود رجال يمارسون القهر، وآخرين يعانون من ويلاته ([28]).

4-1- حقوق الطفل:

ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى الجانب القانوني للاغتراب الذي يتمثل بحقوق الطفل. ففي أغلب البلدان المتقدمة توجد قوانين صارمة بحق الآباء الذين يهملون أبناءهم أو هؤلاء الذين يعاقبونهم. ففي فرنسا على سبيل المثال يحق لأي شخص أن يبلغ سرا عن حالة عقاب شديدة يتلقاها الطفل هذا ويدرب الأطفال في رياض الأطفال وفي المدارس الابتدائية على إبلاغ رجال الأمن عندما يتعرضون لحالة عقاب جسدية صارمة، وهناك تعليمات صارمة في المدارس تنص أنه حين يلاحظ المربون آثار ضرب أو قسوة يتوجب عليهم إبلاغ الجهات الأمنية فورا لاتخاذ الإجراءات المناسبة. وفي ألمانيا يوجد قانون يمنع الأب أو الأم أو أي كان من أفراد الأسرة من استخدام العنف ضد الأطفال. وما يحزن أن الأطفال في البلدان العربية ينظر إليهم على أنهم ملكية خاصة لآبائهم وذويهم يحق لهم أن يفعلوا ما يشاؤون بهم دون خوف أو خجل أو وجل. وأغلب البلدان العربية لا تأخذ بمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الطفل الصادر عام 1995 الذي يحرم استخدام القسوة والإهمال والاستغلال في التعامل مع الأطفال ويا حبذا لو تأخذ البلدان العربية جديا بمضمون هذا الإعلان العالمي لتكفي الأطفال من إكراهات اغتراب تربوي ذي طابع قانوني ([29]) .

4-2- جهل الطفولة:

صرخ فيلسوف الحرّيّة جان جاك روسو قائلاً: إنّ الطفل كائن حرّ، ويجب علينا أن نحافظ على حرّيّته الجسديّة وحرّيّته في ألعابه وأفعاله، وينبغي ألّا يشعر الطفل بقساوة الناس، وإنّما بقساوة الأشياء فحسب، ومن هذا المنطلق يدعو روسو إلى إلغاء المدارس “هذه المؤسّسات المضحكة” لما فيها من خطر على الأخلاق، داعياً إلى حماية الأطفال من العقوبات ([30]).

وكان روسو يعتقد أنّ آفة التربية تكمن في جهل الطفولة وجهل الطاقات الكامنة فيها. ولذلك كان ينادي بمبدأ تربويّ قوامه فيما يقول: دعوا الطفولة تنمو في الأطفال مؤمناً بأنّ الطفل ليس راشداً صغيراً، بل هو كيان يتميّز بخصوصيّته وقوانين نموّه. ومن ثمّ فإنّ التربية الحقّة هي هذه الّتي يدرك فيها المربّي الوضعيّة الخاصّة للطفولة، وهذا يملي عليه الخروج على القاعدة التقليديّة بأنّ الطفل راشد صغير (([31]).

4-3- التعليم الاغترابيّ:

يرتبط التعليم جوهريّاً بتقدير الذات وتنمية الروح المعنويّة وتعميق الشعور بالوحدة والتماسك المبدع الخلّاق، وهذا يعني افتراضاً أنّه كلّما ازداد حظّ الناس من التعليم ازدادت مستويات تقديرهم لذواتهم وشعورهم بالأهمّيّة والكرامة والحضور. وعندما تنظر في واقع التعليم بصورة عامة تجد بأنّه أغلب العائلات الفقيرة ترسل أبناءها إلى المدارس لكي يخفقوا بالتأكيد. وهنا يلعب التعليم دوراً اغترابيّاً واضحاً، بمعنى أنّه ينمّي في أبناء الفئات الفقيرة إحساساً بالقهر والدونيّة، ويقتل فيهم مشاعر الثقة بالنفس([32]).

وعلى أساس هذه الصورة يمكن القول بأنّ الأطفال الّذين لم يدخلوا المدرسة، هم في وضعيّة أفضل من هؤلاء الّذين دخلوها. وذلك من الناحية النفسيّة، فالمدرسة وفقاً لهذه الأوالية تحطّم عند الأطفال الفقراء مشاعر الإحساس بالهويّة، وتقتل فيهم مشاعر الثقة بالنفس، وتفقدهم مشاعر تقدير الذات، وهنا يكمن جوهر التربويّ، المدرسة تلامس جوهر الإنسان الداخليّ، وتسحق هذا الجوهر، وتحطّم أسس وجود مشاعر الثقة بالنفس واحترام الذات وتقديرها، وهي مشاعر الإحساس بالهويّة. وعلى هذا المنوال تعمل المدرسة تدمير القيمة الذاتيّة عند الأطفال المهمّشين، وتعزّزه عند الأطفال أبناء الأغنياء والميسورين؛ وعلى هذا النحو تجعل من الأقوياء أكثر قوّة والضعفاء أشدّ ضعفاً.

ولكن لماذا لا يقع تأثير هذا على أبناء الطبقات ذات الحظوة في المجتمع؟ ببساطة، لأنّ أبناء الطبقات السائدة يملكون مفاتيح اللعبة الّتي تمكّنهم من النجاح، وذلك لأنّهم يأتون من أوساط ثقافيّة متجانسة مع ثقافة المدرسة، ولذلك فهم يمتلكون رموز امتداد طبقي لبنيتهم ثقافيّاً واجتماعيّاً، ولذلك ومن هذا المنطلق يحقّق أطفال الفئات المتسيّدة كلّ النجاح والتفوّق، لأنّهم يعيشون في المدرسة الّتي لا تختلف عن وسطهم الطبيعيّ الاجتماعيّ، وحالهم حال السمك الّذي ينقل من النهر إلى البحر. أمّا حال أبناء الفئات الاجتماعيّة المقهورة، فهو يختلف تماماً، لأنّ وسط المدرسة وثقافتها ومعاييرها، لا يختلف عن وسطهم فحسب، بل يتنافى معه، ولذلك فإنّ الإخفاق هو المصير المحتّم لوجودهم في المدرسة.

4-4- اغتيال الحرّيّة في الطفل:

تتمّ تغذية الأطفال دون وعي منهم بأفكار الآخرين، وتشحن عقولهم بآراء الكبار منهم، وعندما يتمثّلون هذه الأفكار يتبنّونها ويعتقدون جازمين أنّها أفكارهم الخاصّة ومعتقداتهم الحميمة، وهذا هو المعنى الحقيقيّ لتزييف الشعور والوعي الإنسانيّ. والسؤال هنا هو أين هي الحرّيّة العقليّة، إذ كانت أفكارنا لا تنبع من ذواتنا؟ وهذا يعني أنّ الأفكار الّتي يتمثّلها الأطفال أو الناشئة لا تكون مكتسبات حقيقيّة إلّا في الحالة الّتي تكون فيها أوضاعهم النفسيّة الداخليّة حرّة وقادرة على تأسيس الوعي الحقيقيّ الحرّ من الداخل. ولكنّ هذا ليس هو الحال دائماً، لأنّ أفكار الطفل مصدرها العرف أو العادة ا, التنشئة الاجتماعيّة التقليديّة القائمة على التلقين، وهذه الأمور كلّها تسلب الطفل والمتعلّم على حدّ سواء حقّه في اختيار أفكاره الخاصّة، وتقوده إلى التوافق القسريّ (Compulsive Conformity) مع الواقع الاجتماعيّ، الأمر الّذي يؤدّي في نهاية الأمر إلى جمود المجتمع وتحجّر الثقافة وتصلّب العقل، وبموجب هذا النوع من التوافق الفكريّ يتحوّل الإنسان إلى كائن آليّ يفقد روحه وكيانه الذاتيّ الحرّ.

4-5- قمع الذاتيّة والتلقائية:

إنّ قمع المشاعر التلقائيّة وتعطيل النموّ الخلّاق لذاتيّة الطفل وفطرته الحرّة عمليّة تبدأ في وقت مبكّر جدّاً ولاسيّما في المراحل الأولى من تربيته في أحضان الأسرّة، أو تدريبه على ضرورات التكيّف الاجتماعيّ. لقد كشفت بعض الدراسات على سلوك الطفل من عمر 3 سنوات في رياض الأطفال، ومن خلال استعمال اختبار الرورشاك (Rorshach) كشفت هذه الدراسة عن وجود صراع مبكّر بين مشاعر الأطفال التلقائيّة وسلطة الكبار.  وقد لا يعني هذا بطبيعة الحال أنّ التربية أو التدريب يقضيان بالضرورة على النوازع العفويّة والتلقائيّة عند الطفل، إذ يمكن للتربية، وعلى خلاف ذلك أن تعمل على تعزيز الاستقلال الداخليّ لطفل وتطوير قدراته الحقيقيّة وتعزيز توجّهاته الحرّة الأصيلة، كما يمكنها أن ترعى نموّه السويّ، وتحقّق له وحدة شخصيّته، ولكنّ الواقع الثقافيّ الّذي يحيط بالطفل في معظم المجتمعات ولاسيّما مجتمعاتنا يتضمّن فعّاليّات تؤدّي إلى إلغاء التلقائيّة والعفويّة الحرّة في التكوين السيكولوجيّ الداخليّ للطفل، كما تعمل على استبدال التكوينات النفسيّة الأصليّة بمشاعر وأفكار ورغبات مقبولة من قبل الآخرين. ولا يخفى في هذا السياق أنّ كثيراً من المربّين يرفضون المشاعر الأصليّة للطفل، ويتطيّرون منها باعتبارها شيئاً يقع خارج التجارب والقيم الموروثة… وليس الأمر بذاك، فما المراد بالمشاعر الأصليّة؟ ليس المراد هنا أن تكون الفكرة الأصليّة تولد في عقل الطفل لأوّل مرّة وأنّها لم تجرّب من قبل إنسان آخر، المراد أنّ الفكرة تنبع من الفرد نفسه، وأنّها تأتي نتيجة فعّاليّته الخاصّة واختياره الخاصّ، وعلى هذا النحو تكون الفكرة فكرته هو نفسه، والوعي وعيه الخاصّ الّذي ينبع من داخله، دون أن يفرض عليه من الخارج.

4-6- التعليم ضدّ التربية:

تعمل المدارس والمؤسّسات التعليميّة غالباً بطريقة تجعل من التعليم نفسه ضدّ التربية وضدّ المجتمع. فالتربية تتوجّه إلى عقل الطفل وروحه، وعلى خلاف ذلك فإنّ التعليم قد لا يواكب التربية الخلّاقة عندما يركّز على الذاكرة والحفظ والتلقين، ويهمل مطالب الروح والوجدان. وهذا يعني أنّ التعليم التلقينيّ يكون ضدّ الطفولة وإنسانيّة الإنسان. وهنا لا بدّ من القول بأنّ التعليم يمكن أن يمارس قدرته الهائلة في إنتاج المجتمع المستلب. ونحن نرى اليوم أنّ المتعلّمين الّذي ارتقوا إلى المستويات التعليميّة العليا هم أولئك الّذين روّضوا في المدارس، ونجحوا في اختبارات الخضوع والرضوخ والإذعان. ومن المؤكّد بأنّ الادّعاء الّذي يقول إن التعليم غير سياسيّ باطل ومزيّف وخداع؛ لأنّ المدارس تلقّن الأطفال الموافقة على النظام السياسيّ والإذعان لجميع متطلّباته الأيديولوجيّة، فالتعليم المدرسيّ يعتمد التلقين لتهيئة المتعلّمين سلبيّاً لقبول الأيديولوجيا الّتي تجعلهم يظلّون “لائقين ديمقراطيّاً”، والمدارس تقدّم لهم شهادات في هالة من الطقوس تقرّ بأنّهم قد تمّ ترويضهم، وتمّت برمجتهم على القبول الصاغر لمعطيات النظام السياسيّ أيديولوجيّاً وفكريّاً ([33]).

وقد أبلى إيفان إليتش في التأكيد على رفض المدارس والمناداة بإلقائها؛ لأنها تقوم بعمليّة الترويض والتطبيع على النحو الآتي:

أوّلاً: هذه المدارس تتبنّى الأصل اللاهوتيّ لتقسيم المجتمع إلى طبقات، وتفعل ذلك بحرارة وقوّة.

ثانياً: أنّ الأطفال يتعلّمون في المدارس –وبشكل مدروس-كيف يكونون مستهلكين بامتياز، كما يؤخذون بخرافة الاستهلاك الّذي لا ينتهي عند حدّ.

ثالثاً: أنّ المدارس تؤهّل الأطفال للدخول في عالم يكون لكلّ شيء فيه مقياسه وثمنه ومعياره، ويبدو أنّ الناس بمجرّد أن يتعلّموا في المدارس فكرة أنّ القيم يمكن أن تنتج، وأن تخضع للقياس، فإنّهم يميلون إلى قبول كلّ أنواع المراكز العليا المرموقة ([34]).

وقد تبيّن لنا أنّ التعليم شكّل نمطاً من أنماط الإنتاج، تأخذ المدرسة فيه صورة مصنع تتمّ فيه إنتاج الكائنات البشريّة، والتلاميذ ضمن معادلة التعليم الرأسماليّ يكونون مجرّد سلع تنتجها المدارس بوصفها مصانع، والمعلّمون عمّال يشرفون على عمليّة الإنتاج، ويتمّ تغليف المنتجات الطلّاب وفق مستويات من القيمة والنوعيّة ضمن ما يسمّى بالشهادات العلميّة الّتي تباع وتشرى في سوق العمل، وتخضع لمعادلة العرض والطلب ([35]).

5- خاتمة :

بيّن شارلي شابلن في فيلمه الشهير “العصور الحديثة” (Modern Times) في عام 1936 حالة الاغتراب والقهر الذي يتعرض له الإنسان داخل المصنع فيما أطلق عليه خط التجميع الذي يحدث داخل المصنع، ولم يتطرق لما يحدث للمستهلك خارجه. وبعد ثلاثين عاما اندلعت ثورة الشباب في أوروبا عام 1968، وكانت هذه الثورة تعبيرا عن حالة القهر وتعبيرا عن الثورة ضد ما تتعرض له آدمية الإنسان، وكانت هذه الثورة تعبيرا عما يجري للمستهلكين خارج المصنع من تنميط ينذر بتحول كل منهم إلى الإنسان ذي البعد الواحد (One-dimensional Man) كما يسميه هيربيرت ماركوز (Herbert Marcuse). وبعد مرور ثلاثين عاما أخرى شهدت الإنسانية أعنف مظاهر الخطر والقهر الإنساني، وبدأ هذه المرة الخطر التكنولوجي يتحرك بعيدا ليتجاوز كل الحدود والخطوط والممنوعات إنه اليوم يتحرك ليدمر أعمق أعماق الإنسان، إنه يهدد شعوره وأعماقه الواعية واللاواعية الشعورية واللاشعورية إنه يمارس قهرا على المخ والتفكير عند الإنسان. وتتمثل هذه الثورة التكنولوجية المدمرة فيما يطلق عليه اليوم ” ثورة المعلومات” والأنفوميديا، وهذا يعني في نهاية الأمر أن التهديد هذه المرة ينال من الإنسان بوصفه كائنا عاقلا يمارس ملكة التفكير، وكائنا حرا يمتلك نعمة المشاعر والأحاسيس الإنسانية ([36]).

وهنا يمكن القول أيضا: إنه لا يمكن لهذه الدراسة أن تستوفي مختلف مظاهر ومقومات الاغتراب التربوي، ويكفينا أننا قدمنا في هذه الدراسة تعريفا يبدو لنا واضحا لمختلف التكوينات الخاصة بمفهوم الاغتراب التربوي. ويمكننا أن نلخص أهم مؤشرات الاغتراب التربوي التعليم على النحو الآتي:

– يأخذ التعليم طابعا قسريا يعتد على الإكراه والضغط والعنف في تشكيل عقل المتعلم.

– لا يعلم المتعلم ولا المعلم عن سبب إجباره على التعليم، ويبقى الأمر من أسرار الأيديولوجيا التربوية التي تصمم من قبل النخب الاجتماعية السائدة.

– التعليم يكون تلقينيا يعتمد فيه المعلمون والمتعلمون على أفكار الآخرين.

– التعليم يضعف شخصية الفرد، ويروضه على القبول الصاغر لمختلف أنظمة القيم والمعايير الأيديولوجية السائدة في المجتمع.

– التعليم يؤهل المتعلمين للعمل لدى الآخرين بدلاً من العمل لصالحهم ولحسابهم، وهذا يعني أن التعليم يخرج أجيالا من العمالة المأجورة التي تصب في صالح الطبقة الرأسمالية.

– لا يعمل التعليم على تقوية شخصية المتعلم؛ ومن ثم فإنه يغمر مواهبه، ويدفن قدراته الحقيقية في الإبداع والابتكار. ويطور لديه ما تحتاج إليه المؤسسات الاجتماعية وسوق العمل فحسب.

 – في الأحوال كلها، فإن التعليم الاغترابي لا يتجه إلى تأكيد كرامة الفرد، وإحساسه بالمسؤولية، بل يتجه إلى تعظيم كرامة الأسياد وهيمنتهم في سوق العمل.

– يخضع التعليم الاغترابي للسلطة التعسفية التي تفرضها القوى الاجتماعية التي تهيمن في المجتمع.

 – التعليم الاغترابي لا ينمي تعليم الفضائل العليا للحكمة والعدالة عند المتعلم، بل يؤكد فضائل الطاعة والخضوع والإذعان.

وباختصار يجمل بنا أن نختتم هذه الدراسة بقول إيفان توفلر: “إن أي نظام تعليمي يمكن أن يفقد القدرة على رؤية ذاته بوضوح. إذا تمسك بالممارسات التقليدية لا لشيء إلا لأنه قد جرى العرف عليها. وربط نفسه بحبال التعاليم المتوارثة لكي يبقى طافيا في بحر الحيرة، وأضفى على الأساطير الشعبية قيمة العلم ومكانته، وفضل الجمود وعدم التغيير، لكان مثل هذا النظام تهكم واستهزاء بالتعليم ذاته” ([37]).

هوامش الدراسة ومراجعه:


([1])–J.Palmero, Histoire des institutions et des doctrin pedagogiques par les textes , SUEL, Paris,1955, pp221-235..

([2])- انظر: علي أسعد وطفة، المظاهر الاغترابية في الشخصية العربية: بحث في إشكالية القمع التربوي، عالم الفكر الكويتية، المجلد 72، العدد الثاني، أكتوبر/ديسمبر، 1998، صص 241-281.

([3]) -علي أسعد وطفة، الخلفيات التربوية المبكرة للاغتراب النفسي والعاطفي، التربية القطرية، مجلة تربوية فصلية محكمة، السنة 28/ عدد 31، ديسمبر /2000، صص 108- 118.

([4]) – Henri Lefebvre, peur connaitre la pensée de kart Marx, Paris, Bordas, 1948, P 119.

([5])- مجاهد عبد المنعم، في الفلسفة المعاصرة، سعد الدين للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 1984، ص14.

([6]) -أريك فروم، ثورة الأمل، ترجمة ذوقان قرقوط، دار الآداب، بيروت، ص150

([7]) -نبيل رمزي اسكندر، وأزمة الإنسان المعاصر، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 1988 ص77.

([8]) – عبـــد اللطيـــف محمـــد خليفـــة، دراســـات فـــي ســـيكولوجية الاغتـــراب، ب ط، دار غريـــب للطباعـــة والنشر والتوزيع، مصر،2003، ص 23.

([9]) – محرر العدد، عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الأول، إبريل – مايو- يونيو – 1979، ص 6.

([10]) -انظر: حسن محمد حسن حماد، الاغتراب عند إيريك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1995.

([11])- Madeleine Grawitz: Lexique des sciences sociales , Dalloz , Paris , 1983, P.12

([12]) -علي أسعد وطفة، المظاهر الاجتماعية للاغتراب الإنساني، مجلة المعلومات (مركز المعلومات القومي)، العدد 43، نيسان 1996.

([13])- عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1978، ص 517.

([14]) -محمد جواد رضا، أزمات الحقيقة والحرية والضرورة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية والموسمية المتخصصة، العدد 22، يناير، الكويت 1991، ص27.

([15]) محمد جواد رضا، أزمات الحقيقة والحرية والضرورة، المرجع السابق، ص117.

([16]) -محمد جواد رضا: الطفل من الفردانية إلى الشخصانية، الجمعية الكويتية: الأطفال العرب ومعوقات التنشئة السوية، الكتاب السنوي الرابع، 1986 – 1987، (صص 41- 42) ص38.

([17]) -محمد جواد رضا: أزمات الحقيقة والحرية والضرورة، مرجع سابق، ص119.

([18])-محمد جواد رضا: الطفل من الفردانية إلى الشخصانية، مرجع سابق، ص39.

([19]) -محمد جواد رضا: أزمات الحقيقة والحرية والضرورة، مرجع سابق، ص120.

([20]) -محمد جواد رضا، الطفل من الفردانية إلى الشخصانية، الجمعية الكويتية: الأطفال العرب ومعوقات التنشئة السوية، الكتاب السنوي الرابع، 1986 – 1987، (صص 41- 42) ص40.

([21]) -محمد جواد رضا، الطفل من الفردانية إلى الشخصانية، المرجع السابق، ص40.

([22]) -محمد جواد رضا، الطفل من الفردانية إلى الشخصانية المرجع السابق، ص41.

([23]) -محمد جواد رضا، الطفل من الفردانية إلى الشخصانية،  المرجع السابق، ص42.

([24]) -باولو فراريري، تعليم المقهورين، ترجمة د. يوسف نور عوض: دار القلم، بيروت، لبنان، ص28.

([25]) -باولو فراريري، تعليم المقهورين، المرجع السابق، ص29.

([26]) -باولو فراريري، تعليم المقهورين، المرجع السابق، ص31.

([27]) -باولو فراريري، تعليم المقهورين، المرجع السابق، ص35.

([28]) باولو فراريري، تعليم المقهورين، المرجع السابق، ص36.

([29]) – لولوة القطامي، طفل المرأة العاملة، ضمن: الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الطفولة في مجتمع عربي متغير، الكتاب السنوي الأول، الكويت، 1983- 1984، (صص 131-163). ص 150.

([30]) عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كنت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 117.

([31]) محمد عبد الرزاق شفشق، الصول الفلسفية للتربية، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980، ص 272.

 ([32])  -عبد السميع سيد أحمد، علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية،الإسكندرية،1993،ص83.

([33])-مادان ساروب، الاستلاب وتعليم المدرسي، ترجمة شبل بدران التربية المعاصرة، العدد 26، الإسكندرية، مارس، 1993، صص (45-63)،ص54.

([34])- مادان ساروب، الاستلاب وتعليم المدرسي، المرجع السابق، ص55.

([35])- مادان ساروب، الاستلاب وتعليم المدرسي، المرجع السابق، ص56.

( [36]) -انظر: جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي لحديث، ورقة مقدمة إلى مؤتمر ” العولمة وقضايا الهوية الثقافية ” الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة في الفترة بين 12-16 نيسان /إبريل 1998.

([37]) – آلفين توفلر، صدمة المستقبل أو المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمد علي ناصيف، نهضة مصر، القاهرة 1990، ص 203.
_________
*علي أسعد وطفة / كلية التربية – جامعة الكويت.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة