” لم يعد الوطن العربي قادراً على حماية سمائه والدفاع عن أرضه. تفعل فيه القوى الأجنبية ونظم الحكم ما تشاء وكأنه وطن بلا صاحب، جسم مخدر يفعل فيه الأجنبي ما يشاء بالتقطيع والترقيع ونقل الأعضاء بمساعدة الممرضين المحليين لخلق جسد جديد، فاقد الهوية، عاجز عن الحركة ” (حسن حنفي).
يرصد المفكر الكبير ” حسن حنفي “([1]) (1935-2021) من خلال كتابه (عرب هذا الزمان: وطن بلا صاحب) وضع العالم العربي في العقد الأول من الألفية الثالثة، من خلال سلسلة من المقالات التي نشر بعضها في الصحف والمجلات المصرية والعربية، تناول فيها العديد من القضايا الشائكة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والحريات، والمناخ الديمقراطي، ودخول القوات الأمريكية العراق عام 2003، والإيديولوجيات الموجودة على الساحة الفكرية، والفقر، والثقافة، والاستشراق، والإعلام، وغيرها من القضايا التي تهم المواطن العربي أينما كان. وعالج الكثير منها عن طريق تقديم نقد بناء لهذه القضايا، منطلقاً من كونه مواطناً عربياً، يتحمل مسؤوليته تجاه أمته ووطنه، ومستنداً على رؤية تاريخية ثاقبة، وضمير حي، وقلم صادق، في محاولة لإعادة الحياة إلى جسد الوطن العربي، واللحاق بقطار التنمية.
نسعى من خلال هذا المقال إلى استعراض مفهوم القهر الاجتماعي عند حسن حنفي من خلال تتبع توصيفه وتحليله ونقده للواقع العربي المعاصر وتحديد المسؤول عن هذا التردي الذي حل به، فيقول: تتوالى الأحداث، وتشتد الأزمات، وتقع الإهانات في الوطن العربي يوما وراء يوم. ويعلو الصراخ، وتحرر المقالات عن قوى الهيمنة الجديدة، والعالم ذي القطب الواحد، وإمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية، والعولمة، والسوق، والحداثة، والقوة، وثورة الاتصالات. وكلها عوامل خارجية، شماعة لتعليق الأزمات والكروب والبلايا الداخلية عليها. ولما كان من الصعب تغيير العوامل الخارجية إلا على الأمد الطويل، ينتهي الأمر بقبول الأوضاع الحالية، واعتبارها قدراً لا مفر منه. ولا حل إلا الانتظار حتى تتغير الظروف الدولية، وتتبدل موازين القوى العالمية، ويتم الاستسلام للضغوط الخارجية فتصبح نظم الحكم تابعة للخارج. تتحالف معه كي تضمن سلامتها، وتأمن من العدوان عليها. ومصير العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال ماثل للعيان، ومشهد تعليق الرئيس العراقي السابق من حبل المشنقة محفور في الذاكرة لعدة أجيال وعند رؤساء الدول.
ولا حل في العاجل إلا الدفاع عن النظم السياسية حماية للأوضاع الداخلية، والحفاظ على الاستقرار السياسي حتى لا يهرب الاستثمار الخارجي، والاعتماد على أجهزة الأمن والشرطة حماية للأمن الداخلي، واستمرار العمل بقانون الطوارئ حماية للجبهة الداخلية، واعتقال مثيري الشغب وقادة المظاهرات والاضطرابات والاتحادات، وتجديد اعتقالهم إذا ما أفرجت عنهم النيابة العامة، وتقديمهم إلى محاكم عسكرية لسرعة الفصل فيها، والحكم بإطالة مدة الحبس، وتحويل الاعتقال المؤقت لبضعة شهور إلى حبس دائم لعدة سنوات لإطالة عمر النظم السياسية، وترحيل المشاكل إلى فيما بعد حتى نهاية الزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتستمر التبعية للخارج عن طريق التحالف معه، وقبول القواعد العسكرية، والدخول في حروبه، ومؤازرة عدوانه، وتبريره بإيجاد الشرعية له. ويستمر القهر في الداخل، والفساد في الحكم، ونهب ثروات البلاد، وبيع أصولها. فالخارج مطمئن إلى تبعية النظم له، والداخل مغلوب على أمره، يجري وراء لقمة العيش، والمعارضة إما ضعيفة نخبوية لا تستطيع تحريك الشارع، أو قوية ولكنها محظورة أو اضطرابات عمالية مهنية يستجاب لها حتى لا تتحول من مطالب فئوية مثل الأرباح، إلى مطالب سياسية تهدد نظم الحكم. وينتهي الأمر كله إلى الاستكانة وقبول الأمر الواقع لاستحالة البديل، طالما أن قلب السلطان ما زال ينبض بالحياة له ومن بعده، قال الله تعالى: { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124: البقرة).
يذهب حنفي إلى أن الخارج ( القوى الخارجية المتربصة ) لا يعتدي إلا بعد أن يكتشف المناطق القابلة للعدوان، لا يستعمر إلا إذا كان المستعمر قابلاً للاستعمار([2]). وكما يتم التنقيب عن النفط بالحفارات الأولى، وكما توجد المجسات على طبيعة التربة قبل حفرها والبناء عليها، كذلك توجد المجسات لدى قوة الهيمنة لمعرفة مدى قابلية الشعوب المستهدفة لتحقيق الأطماع، وهل هي مصمتة أم مفرغة، صلبة أم رخوة؛ لذلك يكثر جمع المعلومات عنها، ومعرفة ما لا يعرفه أهلها. ويعتمد على باحثين أوروبيين معروفين بدقة التحليل وجمع الإحصاءات، وعلى باحثين وطنيين لديهم رؤى حدسية بناء على التجارب المعاشة؛ فالحدود مفتوحة للباحثين الأجانب يجمعون ما يشاءون. ومراكز التصنت والاستخبارات وجمع المعلومات متطورة للغاية من خلال وسائل الاتصالات الحديثة.
وتتعامل قوى الهيمنة مع نظم الحكم التابعة، وجرها إلى أحلاف الدول المعتدلة في مواجهة الدول المتطرفة، وتنسق أجهزة المخابرات أعمالها للطرفين، بل وتسمح بقواعد عسكرية على أراضيها بدعوى حمايتها من العدوان الخارجي من دول الجوار. وهي تعلم أن نظام الحكم هو شخص الحاكم؛ فهو الذي يقرر الحرب والسلام في غياب المؤسسات المستقلة والرأي العام القوي باستثناء فلسطين ولبنان، حيث تفرض المقاومة الشعبية سياستها على أنظمة الحكم؛ فالسلطان بؤرة الدولة وعمادها الأول، وهو صاحب القرار في الحرب والسلم، والمؤسسات التنفيذية والتشريعية تابعة له، والحزب الحاكم له السيطرة على مظاهر الحياة السياسية في البلاد. لم يستعد المثقفون الوطنيون في الداخل لإبراز ثقافة المعارضة، ومواجهة السلطان الجائر، واعتبار الشعب مصدر السلطة، وضرورة الاستشارة؛ فلا خاب من استشار، فتحسب قوى الهيمنة حسابها على أن هناك طرفاً آخر في المعادلة غير رأس النظام، وهو الشعب؛ ثقافته وتاريخه وكرامته واستقلاله.
وفي الآونة الأخيرة يرى حنفي أن الوطن العربي يواجه ( القهر السياسي ) خطر التجزئة والتفتيت والتحول إلى فسيفساء عرقي طائفي، دويلات سنية وشيعية وكردية وعربية وبربرية وزنجية وإسلامية وقبطية ونجدية وحجازية، حتى تصبح إسرائيل أقوى دولة طائفية عرقية، وتجد شرعية جديدة لوجودها من طبيعة الجغرافية السياسية للمنطقة، بدلاً من أساطير المعاد الأولى التي شرع بها هرتزل وجودها في أواخر القرن التاسع عشر. وتقع المسؤولية على الداخل؛ على الثقافة العربية التي تركت مجتمعاتها عرضة للتمزق والتفتيت. وتحويل الأمة إلى ملل وأعراق، ومذاهب وطوائف، سنة وشيعة، زيدية وشوافع، عرب وأكراد، مسلمين وأقباط، عرب وبربر، أرمن وموارنة، تركمان ودروز.
كل طائفة تجد هويتها في عرقها أو مذهبها؛ فغاب مفهوم المواطنة ومفهوم المواطن، والهوية الواحدة للوطن الواحد. وتركت مصطلحات الفقه القديم دون تغيير؛ أهل الكتاب، وأهل الذمة، والعادات الاجتماعية؛ نجدي وحجازي، صعيدي وبحراوي، بدوي وحضري، سود وبيض. ولم تنفع الإيديولوجيات العلمانية للتحديث، كالليبرالية والقومية والماركسية والإسلامية المحافظة، في تحقيق الهويات الوطنية في العمق. وما زال فقه المواطنة في البداية تحمله نخبة مستنيرة من المفكرين الإسلاميين والأقباط؛ فكان من السهل رسم استراتيجية جديدة للمنطقة بأسمائها المختلفة، الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والدخول إلى قلب المنطقة لتفتيتها، بداية بالعراق ثم السودان ثم الصومال؛ لأن الأرض تسمح بذلك.
وتركت الثقافة الموروثة تئن تحت عبء الفرقة الناجية، وهي فرقة الحكومة، والفرق الهالكة وهي فرق المعارضة، وأن الحق مع طرف واحد؛ فغابت التعددية السياسية، وعز الحوار الوطني، ووقع فرقاء الوطن الواحد في خصومات سياسية، موالاة ومعارضة، حكومة وشعب، كفار ومؤمنين، أبطال وخونة. فريق يكفر فريقاً، وفريق يخون فريقاً. يظل الحزب الحاكم في السلطة دون تداولها، ويبقى الرئيس مدى الحياة، ولا يترك الرئاسة إلا بموت طبيعي أو اغتيال سياسي أو انقلاب عسكري، وعرفت قوى الهيمنة ذلك بعد أن جست الأرضية التي تعمل فيها، وأيدت فريقاً دون فريق، الموالاة ضد المعارضة، والأقباط دون المسلمين، والحكومة ضد الشعب، والمؤمنين ضد الكفار، أو الكفار ضد المؤمنين طبقاً للمصلحة والظرف. وأيدت الجنوب ضد الشمال في السودان، والبربر ضد العرب في المغرب العربي كله، والبوليساريو ضد المغرب من أجل مزيد من تفتيت الأوطان. وجعلت نفسها حامية للأقليات العرقية والطائفية ضد اضطهاد الأغلبية لها. ونسي العرب قول الله تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ } (الفتح:29)، وجعلوها مع الأسف الشديد أشداء بينهم رحماء على الكفار. ونسوا المثل الشعبي: ” أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب “.
في المقابل يستشهد حنفي بعض تجارب الدول والشعوب ويقول: إن بعض الشعوب والثقافات الأخرى استعدت داخلياً لمواجهة المخاطر الخارجية، ومهدت أرضيتها الاجتماعية والثقافية لمقاومة الغزو الأجنبي، وأثبتت المجسات الأجنبية أن هذه الشعوب والثقافات صلبة جامدة لا يمكن اختراقها، مثل: الصين واليابان وكوريا الشمالية وكوبا وماليزيا. يحمي الصين وحدتها القومية، وثورتها الاشتراكية، ومشاريعها التنموية، ومعدل زيادة نتاجها القومي بما يقارب 9٪ يخطب الجميع ودها، ويخشى من مستقبلها وفائض إنتاجها، بل ومن قوتها العسكرية. حررت هونج كونج سلمياً، وبقيت تايوان. ومهما حاول الغرب الدخول من منطلق الحريات العامة وحقوق الإنسان فإنها تظل صامدة، بل وتطلب الاعتذار من دولة كبرى إذا ما أسقطت طائرتها للتجسس عليها. واليابان مثل الصين تحافظ على وحدتها الوطنية بالديمقراطية التوافقية وبالإجماع الوطني على القضايا الكبرى. هزمت في الحرب العالمية الثانية، ولكنها انتصرت في النمو الاقتصادي وفي الصناعات الحديثة، وغزت منتجاتها أسواق العالم. وهي تستورد المواد الأولية من الغرب، والطاقة من الخليج، وليس لديها إلا العقل والإرادة.
وفيما يتعلق بموضوع ( الإهانة والتحدي ) يذهب حنفي إلى أنه جرت العادة في فلسفات التاريخ أن يقرن التحدي بالاستجابة؛ فكل تحد له استجابة، ولكن في الوطن العربي يقرن التحدي بالإهانة؛ فالإهانة تبدأ أولاً وتتكرر وتتراكم حتى تأتي لحظة التحدي والرفض لها والانتفاضة ضدها والثورة عليها.
وفي هذه اللحظة التاريخية، مفترق الطرق، تتكرر الإهانات واحدة تلو الأخرى، وكأن المواطن أصبح بلا كرامة، والوطن بلا شعب ودولة، وأن الساحة العربية كلها أصبحت بلا صاحب تفعل فيها القوى الخارجية كما تشاء، وتلعب في أحشائها كما تريد، وتجري العمليات الجراحية واستئصال الأعضاء، وتغيير مجرى الشرايين، وزرع الأعضاء الصناعية بما في ذلك القلب كما تهوى وتخطط. والوطن في حالة تخدير، جثة هامدة، تفعل فيه يد كبير الجراحين وفريقه ما يشاء. أصبح صدر المواطن عارياً يصوب إليه من يشاء، وسماء الوطن مفتوحة يخترقها من يريد، وأرضه بلا ثغور ولا حدود، يدهسها كل غاز، مع أن مهمة الإمام في الفقه القديم ” الذبُّ عن البَيضة ” بتقوية الثغور والدفاع عن الحدود؛ فالوطن كالبيضة إن لم يتم الدفاع عنه انكسرت قشرتها؛ أي إرادتها، وسال بياضها بالدموع، وصفارها بالدم. فتسيل الدماء في العراق بالمئات كل يوم على مدى أربع سنوات، وكأن المواطن لا وطن يحميه، ولا نظام سياسي يدافع عنه، ولا دولة تعطيه الأمان كما أعطته عبر التاريخ ” وا مُعتصماه “.
وتثار النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية فيه لتؤجج نار الحرب الداخلية، لتهميش المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأمريكي، وإبعادها عن الأنظار. ويقتل النساء والأطفال والشيوخ بدك المنازل بدعوى البحث عن رجال المقاومة، ويذبح الجرحى في المساجد، فلا حياة للمسلمين ما داموا يحبون الموت، ويعشقون الشهادة، وينالون الحياة الأبدية. ويطلق النار على كل مقاوم كما كان يطلق النار على كل شيء يتحرك في فيتنام؛ فلا مكان للأسرى بالرغم من الاتفاقيات الدولية التي تنظم قواعد الحرب ومعاملة المقاتلين والأسرى.
وتسيل الدماء في فلسطين كل يوم. تخترق المدن، وتدهم المنازل، ويحاصر الأحياء، ويؤسر المقاومون ويؤخذون في العربات المصفحة، والأيدي فوق الرؤوس أمام الجند المدجج بالسلاح؛ فالوطن بلا كرامة، والسلطة بلا حضور، والمواطن بلا ستار أو غطاء يحميه. وفي نفس الوقت تطالب المقاومة بالتوقف وبنزع السلاح، والاعتراف بالعدو المحتل دون مقابل إلا بوعود كلامية؛ دولتان متعايشتان، جنباً إلى جنب.
وفي تحليله وتفسيره لوضعية ( القهر الاجتماعي ) في المجتمعات العربية، يرى حنفي أن أنواعه تتعدد كما تتعدد أسباب الموت، والنتيجة واحدة؛ فالموت موت نفسي. وأشهر أنواع القهر هو القهر السياسي، علاقة الحاكم بالمحكوم في نظم الحكم التي تقوم على التسلط وكبت الحريات العامة، والتفرد بالقرار، وهو ما سماه الفيلسوف ابن رشد ذو النزعة النقدية([3]) ” وحدانية التسلط “. كما تقوم على تزييف الانتخابات، وأجهزة الأمن، وقوانين الطوارئ، والاعتقال والسجن بلا محاكمة. وهي النظم الإيديولوجية التي تحكم باسم الحقيقة المطلقة، دينية أو سياسية، الفرقة الناجية الواحدة التي في الحكم في مقابل الفرق الضالة الهالكة التي في المعارضة.
وهناك ( القهر الديني والثقافي )، ويقوم على إجبار الناس على الإيمان بعقائد دينية، سنية أو شيعية، أو سياسية معينة، اشتراكية أو قومية، نازية أو فاشية، كما حدث في التاريخ بإجبار الناس على القول بخلق القرآن، أو انبساط الأرض دون كرويتها، أو مركزيتها ودوران الشمس حولها، وإجبار الناس على اتباع تأويل معين للنص الديني، أو التضييق عليهم في السلوك اليومي باسم تطبيق الشريعة، بل ويحدث ذلك أيضاً في الفنون والآداب، وليس فقط في العلوم والديانات، وإجبار صغار المبدعين على اتباع مذهب معين في الفن والأدب. وهناك أيضاً ( القهر الاقتصادي )، قهر الفقر والضنك والعوز والحاجة. يشعر به العامة قبل الخاصة. هو قهر رغيف العيش والقوت اليومي الذي يدعو إليه المسيحيون في الصلاة الربانية: ” أعطنا خبزنا اليومي “. والذي من أجله قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ والله لو كان الفقر رجلا لقتلته “. وهو ناشئ عن سوء توزيع الثروة في البلاد، ويؤدي إلى الغش والاحتيال لدى الأغنياء ليزدادوا غنى، ولدى الفقراء من أجل غريزة حب البقاء. وبسببه تقوم الهبات الشعبية وثورات الجياع. والأخطر من ذلك كله القهر الاجتماعي، قهر العرف والعادات والتقاليد الذي نقده القرآن الكريم بقوله تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } (الزخرف:23)، وفي آية أخرى من نفس السورة { مهتدون } (الزخرف: 22)، وعلى هذا الأساس لم يعتبر الأصوليون القدماء التقليد مصدراً من مصادر العلم مثل الحس والعقل والخبر الصحيح، وثار المصلحون الدينيون المعاصرون كالشوكاني والأفغاني ومحمد عبده، أو الليبراليون مثل الطهطاوي، على التقليد، وجعلوه أحد أسباب التخلف الاجتماعي والانحطاط الحضاري.
يرى حنفي أن اتباع التقاليد هو اتباع القدماء بالرغم من تداول حكمة الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427-347) ق.م القائلة: ” لا تجبروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم “، فالقدماء هم الأوائل، عاشوا في الماضي، وتغير الزمن، ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه. كثيراً ما كتب علماء الاجتماع والانثروبولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هي تعبير عن سلوك الناس في كل وقت، والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاقا يعني الاتباع، في حين أن التجديد يعني الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع.
ويتبع الناس العرف، وهي العادات الشعبية السائدة، وتسود الأعراف الطبقات الشعبية مثل طهارة الإناث، وما تسببه من قهر نفسي للأنثى منذ الطفولة حتى البلوغ. ويتبع الناس العادات الاستهلاكية في الأعياد، مثل مأكولات رمضان ومشروباته وكعك العيد، بما لا تطيقه ميزانية الأسر، وضرورات التباهي والتفاخر بين الناس. وقد يؤدي ذلك إلى جرائم بين الرجل وزوجته. وهي عادات وأعراف من وضع المجتمع وتطوره عبر التاريخ لتوظيفها اجتماعياً لخلق دين شعبي مواز للدين الشرعي، يلهي الناس ويبعدهم عن ظلم الحكام.
وتحول التيارات المحافظة في المجتمع هذه العادات والأعراف إلى ثوابت، مع أنها متغيرة بتغير المجتمع. ومنها عادات ترجع إلى عصر الصحابة والفتنة الأولى مثل التلاعن، وأقوال مأثورة مثل: ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن “. وأدبيات طاعة الحكام وعدم الخروج عليهم، وإلا كان الجزاء القتل. الثوابت هي القيم الإنسانية العامة التي لا تتغير بتغير الزمان، مثل حقوق الإنسان، واحترام النفس، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، والحريات العامة، والشورى، والمصالح العامة. وهي المقاصد العامة التي تقوم عليها الشريعة؛ الحفاظ على الحياة والعقل والدين والعرض والمال. الحياة هي الحاجات الأساسية للناس من طعام وشراب ولباس وسكن وتعليم وعلاج، والعقل هو حق الإنسان الطبيعي في المعرفة والفكر والنظر، والدين هو الثوابت العامة التي يجتمع عليها الفقهاء، والعرض هو الكرامة الشخصية والوطنية، والمال هو الثروة الفردية والثروة العامة.
وقد وضعت بعض المجتمعات التقليدية عدة قوانين للضبط الاجتماعي لمنع تحركه، مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه؛ وقوانين حماية المجتمع والأمن والاستقرار السياسي، مثل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب، مهمتها إرهاب الناس وتخويفهم، ومنعهم من السلوك الطبيعي التلقائي القائم على الثقة بالنفس واحترام الآخرين، ثم تحولت هذه القوانين إلى عادات وتعبيرات، مثل: ( عيب عليك )، ( يا عيب الشوم )، ( حشومة )، ( اختشي )، ( يا نهار أسود )، ( يا دهوتي )، ( يا مصيبتي ). وأصبح كل خروج على هذه القوانين انحرافاً وشذوذاً.
ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعي، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعي، فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب، وسلوك في الظاهر لا ينم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجابا في الظاهر، وسفورا في الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسي وقمع الرغبات، ويعيش الإنسان بشخصيتين، ويقابل المجتمع بوجهين؛ وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان: الأول: سلوك اجتماعي علني، وسلوك آخر فردي سري. الأول كاذب، والثاني صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة تم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعي، وينغمس في الدنيا ينهل منها بالحلال، والأرزاق مقدرة مسبقاً.
ومع ذلك ظهرت نماذج ثائرة على هذا القهر الاجتماعي في التاريخ، في كل عصر، وفي كل ثقافة، ولدى كل شعب. ثار سقراط على تعدد الآلهة عند الأثينيين، فاتهم بإفساد الشباب، وحكم عليه بالموت سما، ورفض الهرب درءاً للظلم، وهو رذيلة، طاعة لقوانين البلاد، وهي فضيلة. وثار رينيه ديكارت (1596-1650) على عادات العصر الوسيط في التفكير والتعلم. وثار باروخ اسبينوزا (1632-1677) على العقائد اليهودية، مثل شعب الله المختار وأرض المعاد. وحرق جيوردانو برونو (1548-1600) حياً في روما لأنه قال بعقيدة مخالفة للفلك السائد ولتصور الإنسان. وثار مارتن لوثر (1483-1546) على الكنيسة رافضاً توسطها بين الإنسان والله، واحتكارها لتفسير الكتاب المقدس، وتبعيتها لسلطة الآباء الأولين. قدم المفكرون الأحرار الذين رفضوا عادات وتقاليد وأعراف القدماء أمام محاكم التفتيش في أواخر العصر الوسيط الأوروبي، وكان جزاؤهم القتل أو الحرق أو التعذيب أو النفي أو السجن.
وفي تاريخنا القديم حدث نفس الشيء؛ فقد ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أسفل المنبر لأنه كان معارضاً للحكم الأموي، ويقول بقدرة الإنسان على الاختيار. وقتل أبو نواس بتهمة الزندقة. وصلب الحلاج بتهمة الخروج على العقائد. وذبح السهروردي لقوله بحكمة الإشراق.
كانت كل حركات التجديد والتحديث والنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعي والنهضة الحضارية والثورة ضد القهر الاجتماعي بالرغم من سطوته، وكان الاستسلام للقهر الاجتماعي أحد أسباب الركون والخمول والتأخر والانحطاط. لا تقوم نهضة على قهر، ولا تقدم على تقليد، ولا ثورة على تسليم. في لحظات الانتصار يتم تغيير التقاليد، وفي لحظات الانكسار تتم المحافظة عليها حماية للمجتمعات. وهي حماية وقتية بالانكفاء على الداخل لحماية النفس بعد أن ضاع العالم. ولما كان المجتمع العربي يمر الآن بمرحلة انكسار، باستثناء المقاومة في العراق وفلسطين، اشتد القهر الاجتماعي. ولما كان أيضاً يتوق إلى الانتصار، يكون تحرره من القهر الاجتماعي قريباً.
خلاصة القول، إن قراءة ما سبق ليس بعيداً عن المنظور الاجتماعي للتخلف وبالأخص عند استحضار توصيف وتحليل الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الشهير ” التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، إن تعقد المشكلات الاجتماعية داخل المجتمعات العربية والإسلامية وتفاقمها طيلة السنوات التي مضت كان وما زال بفعل المحكات السياسية والاقتصادية التي خلفتها الأنظمة السياسية الحاكمة ولعل أهمها: ( تبديد الثروات وسوء استغلالها، سوء استغلال الطاقة العاملة المتوافرة، اختلال البنى الاقتصادية، التبعية الاقتصادية، الاستبداد وانغلاق المجال السياسي ).
ساهمت هذه المحكات بصورةٍ أو بأخرى في تردي الوضع المعيشي وانتشار الفقر والبطالة والجهل، والتزايد الهائل في أعداد السكان مما أثر على مستواهم الفكري والثقافي فأصبح جل همهم تحصيل لقمة العيش وبناء مسكن يأويهم، فضلاً عن انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بفعل غياب العدالة الصحية وتأمين حياة صحية سليمة لكل أفراد المجتمع الواحد.
أما على صعيد البنية الاجتماعية للتخلف، هناك من عددّ بعض المحكات انطلاقاً من الربط بين التخلف والمجتمع التقليدي ولعل أهمها: ستكاتيكية العلوم يعني جمودها وبقاؤها على حالها بدون أي تغيير يطرأ عليها، نمطية العادات والتقاليد وتحكمها بالسلوك الاجتماعي واستبعادها للقانون، نظام اجتماعي جامد تحكمه الولاءات الطائفية والعرقية والمذهبية والحزبية، الانتقاص من المكانة الاجتماعية للإفراد واستثناء مبدأ الكفاءة الإنتاجية في تحديد المكانة، مما أدى إلى إنتاجية منخفضة جداً.
وأخيراً، لا يمكن لنا قراءة المفهوم الاجتماعي للتخلف بعيداً عن القراءة الموضوعية والدقيقة لمفهوم التنمية الشاملة، أي أن المفهومين يتقاطعان مع بعضهما البعض فهما عناصر تكميلية لا يمكن لأي عنصرٍ أن يستغني عن الآخر. ولهذا يجب أن يكون هناك إجراءات عملية لتجفيف منابع التخلف الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية حتى يتمكن من خلالها الأفراد بشتى تخصصاتهم وعلومهم وأفكارهم من تحقيق نهضة فكرية وعلمية تنهض بالواقع المجتمعي إلى أفضل المستويات، وهي كالآتي:
1- النهوض بالواقع الاقتصادي على أساس استثمار الموارد والامكانيات وتوظيفها في خلق بنية اقتصادية يكون عنوانها العمل، وتحقيق الاكتفاء الذاتي وترسيخ قيم العمل المنتج.
2- احترام الفرد، والعمل دوماً على تسهيل كافة الفرص والامكانيات والوسائل ليكون عاملاً مبدعاً منتجاً قادراً على خلق المزيد من الثقافات والعلوم التي تسعى إلى إحداث تغييراً ثقافياً بديلاً عن العادات والتقاليد السلبية.
3- إنشاء العديد من البرامج التوعوية حول أهمية تنظيم النسل، وأن قيمة الإنسان ليست في كثرة إنتاجه الجنسي بقدر قدرته على الاهتمام بهم وتوفير عناصر السلامة والعيش الرغيد كتوفير التعليم والقدرة على علاجهم الصحي.
4- استبدال العادات والتقاليد السلبية الموروثة بالعلوم الصحيحة والتي تنشئ الأفراد على أساليب جديدة في التفكير والسلوك.
5- تطوير المنظومة التعليمية والعناية بها على اعتبار أن التعليم هو السبيل الوحيد إلى التنمية الذاتية وهو طوق النجاة للمجتمعات للخروج من كماشة التخلف، والجهل، والتبعية. كما يؤدي التعليم إلى إطلاق العنان لشتى الفرص ليحد من أوجه اللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية من خلال رفع مستوى الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، كما يسعى التعليم إلى حماية المجتمع من الإرهاب، حيث يتعرض الأفراد للأفكار الهدامة والغير سوية، وفي النهاية يعتبر التعليم حجر الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المستنيرة والمتسامحة والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة.
6- التمكين السياسي لجميع أفراد المجتمع من خلال ترسيخ مفاهيم المواطنة، والديمقراطية، والمشاركة السياسية، والتداول السلمي للسلطة باعتبارها أساس التعريف بالحقوق والواجبات لضمان الاستقرار والتقدم الاجتماعي، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان بعيداً عن العوامل والأسباب التي تؤدي إلى الاستبداد وتكريس التخلف والجهل بكافة أشكاله وأنماطه في الواقع الاجتماعي.
– المراجع المعتمدة:
1- حسن حنفي: عرب هذا الزمان – وطن بلا صاحب، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، 2012.
2- مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط9، 2005.
3- أبو بكر أحمد باقادر وعبد القادر عرابي: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006.
4- حسام الدين فياض: التخلف الاجتماعي – الدلالات والمظاهر، مجلة التنويري، 16 أكتوبر 2022. https://altanweeri.net/8997/
([1]) حسن حنفي (23 فبراير 1935 / 21 أكتوبر 2021) هو مفكر مصري، وأستاذ جامعي يُعد واحداً من منظّري تيار اليسار الإسلامي، وتيار علم الاستغراب، وأحد المفكرين العرب المعاصرين من أصحاب المشروعات الفكرية العربية. ولد المفكر الراحل بالقاهرة عام 1935، ودرس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم سافر إلى فرنسا حيث حصل على الماجستير ثم الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1966، وعمل بجامعات عربية وأجنبية بينها جامعة محمد بن عبد الله في فاس وجامعة طوكيو باليابان ويعد أحد أهم مؤسسي الجمعية الفلسفية المصري منذ نهاية حقبة الثمانينيات. وللمفكر الراحل عدد من المؤلفات في فكر الحضارة العربية الإسلامية أبرزها ” تأويل الظاهريات ” و” ظاهريات التأويل “، و” التراث والتجديد ” (4 مجلدات) و” موسوعة الحضارة العربية ” و” حوار المشرق والمغرب “، ” من العقيدة إلى الثورة “، و” حوار الأجيال من النقل إلى الإبداع ” (9 مجلدات)، و” مقدمة في علم الاستغراب “، و” فيشته فيلسوف المقاومة “، ” اليمين واليسار في الفكر الديني ” … وغيرها.
([2]) لمزيد من القراءة والاطلاع حول موضوع ( الاستعمار والشعوب المستعمرة – معامل القابلية للاستعمار ) انظر: مالك بن نبي: شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي، دار الفكر، دمشق، 1986، ص (145 وما بعدها).
([3]) أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد الأندلسي المعروف بابن رشد الحفيد (520 هـ- 595 هـ)، (مواليد 14 إبريل 1126م، قرطبة – توفي 10 ديسمبر 1198م، مراكش) فيلسوف أندلسي مسلم. درس الفقه، والأصول، والطب، والرياضيات، والفلك والفلسفة، وبرع في علم الخلاف، مارس الطب وتولى قضاء قرطبة وفي عام 578 هـ / 1182 م. عرفه الأوروبيون معرفة واسعة وأطلقو عليه اسم (باللاتينية: Averroes)، نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عرفت بالمذهب المالكي، حفظ موطأ الإمام مالك، وديوان المتنبي. ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري. يعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام. دافع عن الفلسفة وصحح للعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة. تولّى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، تعرض ابن رشد في آخر حياته لمحنة حيث أبعده أبو يوسف يعقوب إلى مراكش وتوفي فيها (1198 م).
_________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.