التنويريفكر وفلسفة

استشراف المستقبل؛ قراءة في مُنْتَجِ طَه حُسَين التنويري

مهاد:

تتناول الورقة الحالية عرضا موجزا لأبعاد وملامح الشهود والحضور الاجتماعي لفكر الدكتور طه حسين؛ في كتاباته الإبداعية القصصية تحديدا روايته ” دعاء الكروان “، والطرح الفكري المتمثل في كتاباته التنويرية ذات الصبغة التعليمية؛ كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” أنموذجا، محاولة تفسير منتج طه حسين الاجتماعي واستقراء روافده، وصولا إلى تحديد أبرز الخصائص الاجتماعية التي طرحها طه حسين والتي سعى إلى تدشينها ومن ثم تمكينها في سياقات ثقافية مختلفة.

ـ مُفْتَتَحُ التَّفَاصِيلِ:

حينما يذكر اسم طه حسين، فأنت أمام حقيقة تمثل أوبرا ثقافية متنوعة ومقهى حكائي يعد رافداً لكل الأدباء والمفكرين الذين جاءوا من بعده،  ومن الصعب محاولة تصنيف أدب وفكر العميد الدكتور طه حسين وفق هوس وهوى النقاد بحمى التصنيف وقولبة الإبداع، فأنت أمام عالم مزدحم بغير ملل أو صخب حكائي بالأحداث والوقائع الجدلية، هذه الأحداث وإن بدت بسيطة في بعض الأحايين إلا أن كل حدث منها يفجر طاقات من الأسئلة المثيرة التي تستدعي التفكير ولا تجعل العقل بمأمن عن التأويل والتفسير. حقاً مجموعة ضخمة من الأعمال الفكرية والأدبية وحياة إنسانية واجتماعية تمثل مغارة من الأسئلة التي يصعب تصنيف كاتبها تحت مظلة قاصرة مانعة.

لذا فطه حسين هو بحق مزار سياحي يستقطب المعارضين قبل المؤيدين وهو مؤسسة شعبية أدبية تنصر بداخلها كافة التيارات الأدبية بغير انحناء أو محاولة انهزام داخلية. وإذا كانت كتابات وأعمال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قد حققت ولا تزال الشهرة والصيت وبلوغ المأرب من حيث جودتها ورصانتها وإثارتها لأسئلة سابرة تغوص في المجتمع، فإن عميد الأدب العربي نفسه يشبه الحكاية، بل قلما نجد أديباً ومفكرا صار الاهتمام بشخصه مثل الوعي بأعماله وهذا تحقق بالفعل لطه حسين كما تحقق لكتاب آخرين مثل نجيب محفوظ، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  طَه حسين.. مِن عزبة الكيلو إلى القاهرة المحروسة:

طه حسين ابن المنيا  تحديداً عزبة الكيلو التي تقع على بعد كيلو متر واحد من مركز مغاغة بمحافظة المنيا، والتي ولد فيه في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889، لأب هو الشيخ حسين علي سلامة الموظف بشركة السكر، وقد أصيب طه حسين في حوالي السادسة من عمره تقريبا بمرض الرمد، فلم يهتم أهله بعلاجه في بادئ الأمر، ثم عولج علاجاً بدائياً ذهب بعينيه. وكانت عادة أهل الريف آنذاك إلحاق أبنائهم بالكتاتيب، وفي كتابه الماتع الرائع الأيام يحكي ويروي طه حسين حكاياته المثيرة في عالمه الثقافي الصغير الأول وهو الكتاب والتي كثيرا ما تم توصيفها بقدر كبير من الدهشة والمبالغة وأحيانا السخرية فهو الثائر الذي لا يهدأ، والصبي الذي كف بصره لكن انفتح عقله منذ الصغر بالنقد والتأويل والمعارضة.

ولا شك أن بدايات القرية قد أثرت بشكل كبير في عالم طه حسين فيما بعد، فلقد روى في كتابه الأيام الذي يعد من درر الأدب الحكائي على مر عصوره العربية جلسات القرية المسائية التي كانت تجمع أهل قريته حول راوي العصر وقتئذ وهو شاعر الربابة الذي كان يقص على مسامعهم سيرة عنترة بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، وأخبار سيرة بني هلال، وما شد وجذب انتباه الصبي طه حسين هو قدر المهابة التي كان يحظى بها أولئك الذين يغدون ويروحون إلى القاهرة للقرية ذهابا وإياباً مما جعله مفتونا منذ صغره بعالم سحري هو القاهرة . ولا شك أن تلك الجلسات الثقافية الشعبية والحكايات التي استمع إليها وهو صغير شكلت ملمحا مهماً  أصبحت بعد ذلك رافداً مهماً وخصباً من روافد تكوين طه حسين الإبداعية.ومما ساهم في خلق التكوين الثقافي لطه حسين حفظه للكثير من الأوراد والأدعية التي كان يسمعها، كذلك الكثير من الابتهالات الصوفية التي كانت تنشد في هذا العهد.

وما أن جاء طه حسين إلى القاهرة ليكمل تعليمه مع أخيه الأكبر أحمد في الأزهر الشريف حتى بدأت المرحلة الثانية والأكثر أهمية في حياة العميد والتي أكسبته بقدر الجانب الثقافي والعلمي خصائص نفسية أبرزها حب الاستطلاع والفضول الاستكشافي والقدرة على تحمل المشقة والصعاب، وعلمته هذه الفترة العناد بغير فجور والثورة الفكرية.

ولا شك أن مرحلة الأزهر الشريف ومكوثه لأول مرة بالقاهرة العامرة هي التي فجرت طاقات الثورة الذهنية عند طه حسين، ولعل سر إعجابه بالشيخ المرصفي معلمه الأول بالأزهر كان مفاده أنه أطلق لحريته وحرية زملائه النقدية العنان، وفك قيود الرتابة التعليمية لديهم عن طريق إثارة الأسئلة أو ما يعرف الآن بمصطلح العصف الذهني وإمطار الدماغ، وهي تلك الملازمة العلمية التي أكسبت طه حسين قدرا كبيرا من الجرأة في النقد والحرية المطلقة في إبداء الرأي العلمي بغير حرج.

وجدال طه حسين من شيوخه بهذه الفترة أكسبته الجرأة في الجهر برأيه مهما كانت النتيجة، ونمى ما كان مركبا فيه من استعداد للعناد والتحدي، كما يلوح في الجزء الثاني من الأيام من مساجلات بينه وبين شيوخه بالأزهر الشريف وهي المساجلات التي شكلت اتجاهه الفكري صوب الجديد والقديم في الطرح الفكري العربي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (2) الجامعة ومرحلة التنور الثقافي في حياة العميد

في الجامعة اختلفت حياة طه حسين ابن المنيا اختلافا كبيرا، فتعرف على عالم متباين عما شاهده وعاينه بالقرية والأزهر الشريف، وربما ضيقه بالدراسة في الأزهر هو الذي دفعه إلى النهل من روافد العلوم المدنية والتي برع فيها بقدر براعته وتميزه في العلوم الدينة لاسيما السيرة والتراجم، ولعل استماعه لدروس الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية، وأدبيات الجغرافيا والتاريخ، وفي اللغات السامية، وتاريخ الفلك عند العرب، ثم تاريخ الفلسفة وعصورها، هو الذي أكسبه التنوير الذي صار بعد ذلك علما رائدا له لعقود طويلة.

وفي الجامعة أتيح لطه حسين أن يتعلم على أيدي أساتذة متميزين لهم مقام رفيع في العلم والمعرفة وهؤلاء شكلوا إطارا فكريا وثقافيا جديدا لطه حسين بجانب الثقافة التي نهلها من القرية ثم الأزهر. ومن هؤلاء الأستاذة أحمد زكي باشا، وأجناسيو جويدي، ونللينو، وسانتلانا، ولوي كليمان الذي درس له الأدب الفرنسي، وكان لقاؤه بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد هو مرحلة التحول الكبيرة في حياة العميد طه حسين، وصاحب الريادة في انفتاحه على ثقافات أخرى جديدة وبيئات فكرية متنوعة.

وفي الجامعة، كان طه حسين صاحب أول رسالة للدكتوراه ناقشها يوم الثلاثاء الخامس من مايو 1914 عن أطروحة علمية في تاريخ أبي العلاء المعري، وبعد مناقشة ساخنة يمكن توصيفها بالمضطربة أيضا تم منحه درجة جيد جدا في الرسالة ودرجة فائق في الجغرافيا ودرجة فائق في الروح الدينية عند الخوارج.

(3) في فرنسا.. تميز ونبوغ:

وبحصول طه حسين على درجة الدكتوراه تقدم بطلب بغرض إيفاده لبعثة للخارج، عزمت الجامعة إرسالها إلى أوروبا، لكن تعذر السفر بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم سافر بعد ذلك إلى مونبلييه واهتم هناك بدراسة اللغة الفرنسية وآدابها، وحصل على الليسانس في الآداب من السوربون عام 1917، وفي يناير من عام 1918 ناقش أطلاوحته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية وحصل على مرتبة الشرف الممتازة مع تهنئة لجنة الحكم والمناقشة. وهو الأمر الذي حفزه للحصول على دبلوم الدراسات العليا في تاريخ القانون المدني الروماني في يونيو 1919 بتقدير ممتاز.

(4) إلى مصر الجميلة:

ثم عاد طه حسين إلى مصر ليصير أستاذا للتاريخ القديم، وعين بعد ذلك أستاذا لتاريخ الأدب العربي الذي نبغ فيه وتفرد وأبدع كتبا ومئات المقالات الصحفية في هذا الميدان، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة أخرى في حياة العميد وهي مرحلة الإنتاج والإبداع الفكري والأدبي، وفي هذه الفترة الخصبة من حياة طه حسين انخرط في العمل السياسي وكذلك العمل الاجتماعي التنموي من خلال إلقائه العشرات من الندوات والمحاضرات خارج الجامعة مثل الجمعية الملكية الجغرافية، واستطاع طه حسين فور عودته أن يحجز لنفسه مكانا ومكانة بين أهل الثقافة والمعرفة بصورة رسمية وغير رسمية، فلقد مثل مصر في مؤتمر المستشرقين بأكسفورد، وآخر في فيينا، وثالث في مؤتمر الآثار السورية في بيروت، ورابع في ليدن، وخامس في الاحتفال المئوي الرابع لكلية دي فرانس، ورغم هذه الفترة التي كان طابعها العام السفر المستدام إلا أن عطاءه الفكري لم يتوقف أو ينضب بل استطاع أن يؤلف أبرز وأهم كتبه على الإطلاق مثل كتابه المشكل في الشعر الجاهلي، الذي لا يزال يحدث صخبا نقاشيا وجدالا واسعا حتى لحظتنا الراهنة.

(5) طه حسين وتطوير التعليم المصري:

رغم أن هذه السطور القليلة لا تفي حجم ومكانة عميد الأدب العربي وما هي إلا إطلالة سريعة جدا على سيرة ومسيرة هو بطلها، إلا أنه بات من الضروري التأكيد على الدور التعليمي والتنويري الذي لعبه طه حسين في المشهد التعليمي والذي لازلنا نطبق أفكاره ورؤاه واجتهاداته التربوية حتى الآن. فكما يذكر الأستاذ الدكتور مصطفى رجب صاحب أفضل كتاب عن فكر طه حسين والمعنون بفكر طه حسين التربوي بين النظرية والتطبيق، أن فكره التربوي يمثل حلقة متميزة في تطور الفكر التربوي في مصر خلال القرن العشرين بأكمله.

ويمكننا أن نضيف بأن طه حسين باجتهاداته التربوية شكل بوصلة التعليم في هذا الوقت والعصر، ولعل براعته الأدبية هي التي مكنته من معالجة القضايا التعليمية بقدر من المرونة والتوفيق، وجل هدف طه حسين التعليمي هو التنوير وتثوير العقول وتنقية الأذهان من الضلالات الفكرية والثقافية التي كانت سائدة، وسعى لأن تكون لمصر نهضة ثقافية تمثل النواة للنهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد ذلك. ويمكن تحديد السمات العامة للفكر التعليمي والتربوي النهضي لطه حسين في سمتين رئيستين هما الديموقراطية، والحرية.

ولا شك أن قضية الديموقراطية قد شغلت إنسانا كطه حسين فتناولها في كثير من كتابته وجعلها منهجا نقديا يمكن تناول التاريخ الإسلامي في ضوئه، وهو المنهج الذي اتبعه في كتبه الفتنة الكبرى بجزئيها والشيخان، ورغم أن الديموقراطية في أساسها تضمين سياسي إلا أن طه حسين استطاع أن يستغل هذا المنحى في سياقه التعليمي الأمر الذي جعله يعلن شعاره الخالد بأن التعليم كالماء والهواء وأنه حق لكل إنسان. ورغم مناداته بذلك إلا أنه واجه حربا شرسة شنها عليه رجال التعليم آنذاك.

وليس بغريب على شخص كطه حسين أن ينادي بمبدأ الحرية وهو الطفل المحروم من التدليل والرفاهية، والطالب العاجز المقهور بالأزهر، وحبيس الثقافة العربية بالقارة الأوروبية، فأخذ على عاتقه المناداة المستدامة بالحرية التعليمية وإتاحة الفرص التعليمية المختلفة لأبناء الشعب المصري بقصد التنوير. وتلك الحرية الفكرية هي التي دفعته على المستوى الشخصي لينهل من كل روافد الثقافة وتياراتها المتباينة بغير خجل ويقول في ذلك بإن الحرية لا تستقيم مع الجهل والتعليم أصبح ضرورة لا رفاهية، ويكفي أن نقول بإن التعليم الجامعي قد لقي على يدي العميد النابغة كثيرا من التطوير والتنظيم الذي كان يهدف لتحقيق مزيد من الحرية والاستقلال.

(6) فِتْنَةُ السَّرْدِ:

تكاد تكون مهمة القاص صعبة المنال والمراس نسبيا في محاولته اقتناص لحظة إبداعية للسرد التاريخي، وهذه اللحظة تبدو استباقية لدى الموهوبين في القص والمتميزين في حرفة الحكي، وهذا الرهان الأدبي قلما تحقق لروائيين يمكن توصيفهم بالمنتمين لعوالهم الإبداعية، وهي موهبة تثقلها الصناعة بامتلاك أدوات وتقنيات السرد والحكي كما في حالة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ الذي أمهر حق الإبهار في استلاب قارئه صوب نص مفعم بإحداثيات سردية تدور في أفلاك تاريخية لاسيما في عبث الأقدار وكفاح طيبة ورادوبيس وغيرها من الروايات التاريخية التي بدأ بها محفوظ مشروعه الروائي الطويل.

وإذا كان نقاد العصر الحديث منذ طروحات محمد مندور النقدية أشاروا إلى العلاقة التزامنية بين بدايات السرد الروائي لدى صناع التجربة القصصية العربية وبين النص الاجتماعي بوصف الأخير رافدا خصبا لا ينضب من الحكايات وأعاجيب الأخبار، فإن الذين التزموا بتوافر النص الاجتماعي لدى سردهم القصصي من أمثال طه حسين قليلون لاسيما إذا تحول سرد النص التاريخي الاجتماعي إلى حكاية تتفوق بإحداثياتها على حدث التاريخ نفسه. طه حسين حينما لجأ إلى حدث التاريخ فهو لا يعتمد على ذيوع الحكاية التاريخية بل يعمد جاهدا إلى نقل القارئ إلى موقع النص الأصلي بل ويبدو هذا القارئ مشاركا فاعلاً في تفاصيل مشهد الحكي.

ولطالما افتتح النقاد حديثهم عن الرواية بالسرد القصصي، واجتهدوا في رصد حالات السرد ومقاماته وأحواله التي تبدو أكاديمية نسبيا وبعيدة عن رصد حالة الحدث الإبداعي أي الرواية ذاتها، إلا في حالة طه حسين فالسرد يرتبط به طوعا بغير كراهة، وربما إذا طفق النقاد المتقدمون في تأصيل السرد كمزية أصيلة للرواية بأنه أي السرد يعني التتابع والانتظام مما يوحي للقارئ العادي غير المتخصص بأن الرواية عمل رتيب يصف الواقع دونما أي تجديد أو إثراء له بالتأويل والتوصيف، لكن سردية جمال طه حسين متغايرة فهي لا تعني أو تهتم بتتابع نص الحدث في صورته التاريخية أو حتى تتابع الأحداث بتقاليدها النقدية المستدامة، بل يلجأ دوما إلى تقنيات استثنائية يمكن توصيفها بكلمة واحدة وهي التجلي. وفي حالة التجلي التي أعتقد أن طه حسين كان يقصدها وهو يخط رواياته وتحديدا أديب والمعذبون في الأرض ودعاء الكروان يضطر طه حسين وهو مقتنع أن ينقل قارءه صوب مشاعره السردية، بمعنى أنه نجح بامتياز وكفاءة في انتزاع الانفعال من القارئ، وهي نتيجة قلما تتحق لدى روائيين، ويمكن رصد تلك الحالة أيضا في رواية ( أصابع لوليتا ) للروائي الجزائري واسيني الأعرج، ومجمل أعمال الروائي عبد الرحمن منيف.

وإذا كان السرد في عمومه النقدي يعمد إلى تكريس تقنية إجراء الحوار الداخلي ( المونولوج ) فإن دعاء الكروان الحالة الأولى الساحرة لطه حسين نجحت في إجراء حوار من نوع خاص وفريد في ذهن القارئ لإحداث شراكة مستدامة بين النص والحدث الاجتماعي والقارئ، والسردية الجديدة التي بدت نفسية وفقا لتاريخ إصدار الرواية اقتضت إلى الوصول بنتيجة واحدة وهي كلما اقتنع القارئ بأنه شريك أصيل في الحدث اكتفى الروائي بأنه امتلك بالفعل بوصلة الحدث القصصي بل وعدم فكاك القارئ من الشَرَك ( بفتح الشين والراء ) السردي.

وإذا ما فكرنا في تناول المشروع السردي عند طه حسين والذي تمثل في رواياته شديدة الاجتماعية، فإن السرد عنده لا يهتم بالحكي المباشر بقصد ما يعني بسبر أغوار اليقين، وطه حسين وهو يحاول الوصول إلى إنجاز هذه المهمة يبدو أكثر وعيا بتجارب من سبقه من المبدعين العرب، لكن تظل مشكلته السردية وإن حق التوصيف عبقريته السردية هي أنه خارج السرب في تغريده على مستويات التقنية السردية بلغة الغائب الذي يتطلب حضورا دافقا بذهن القارئ، والأدوات والتكنيكات الروائية المتمايزة واستحضار صور تاريخية، ولاشك أن استحضار التاريخ بأحداثه صنع حالة من الدهشة الدائمة للاكتشاف داخل النص، ولعل إيجاز حدث تاريخي في صورة سردية إبداعية يخلق إيقاع إزاء الحدث الذي يبدو قلقا ومرتعدا مما يحفز القارئ في انفعاله صوب النص من ناحية، ويعزز التكوين السردي غير المشابه من ناحية أخرى.

(7) مَقَامَاتُ طه حسين.. مِنْ السَّرْدِ إلى الوَعْيِّ المَعْلُومَاتِيِّ:

ليس مشكلة في أن تستحيل كاتبا، فالمفردات والألفاظ مطروحة على قارعة طريق اللغة، لكن الأصعب أن تكون ذاك الكاتب القارئ، وهذا الدور المزدوج يجعل الكاتب كرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه، هذا الدور قام طه حسين عبر مشروعه القصصي الطويل، ومن خلال نثرياته المدهشة، وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها ( رولان بارت ) بإعلان موت المؤلف.

فالمؤلف لم يعد ميتا كما استحال عبر استدامة هيمنة الكاتب على قارئه، ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه؛ بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية بمعاونة الكاتب نفسه.

وطه حسين الغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل استطاع أن يوفر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرة الكتاب الحجاجيين اي الذين يمتازون بإقامة الحجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بطروحات فكرية وفلسفية ذات شراكة متماثلة بعض الشيء. يبدو هذا الطرح المعلوماتي في تفاصيل المشهد السردي للكتاب والذي نجح الشعر بقوالبه أن يفرض سطوته وقوته القمعية في إحداث التأويل والإمتاع ومن قبلهما الدهشة لدى القارئ من خلال الصورة والتصوير الفني لأحداث تبدو سياسية محضة، وفيها يدعم طه حسين طرحه الفكري بأفكار ومساجلات فكرية تؤدلج الدور السياسي للمثقف وأنه ليس بالقطعية تنظيريا أو مكتفيا بالمتابعة بدون المشاركة في صنع القرار السياسي، وأنه بمثابة أيقونة شرعية للحراك المجتمعي.

ومن البدهي لقاص استثنائي ماتع كطه حسين أن ينقل لنا عبر صوره السردية النثرية ملامح ثقافية شتى لعصور بائدة زمنيا باقية بتفاصيلها المكانية، حينما يريد المزج بين حدث معاصر له والحالة الوجداني لجيل سابق لم يعاصره، الأمر الذي نجده على الشاطئ الآخر يبدو مغايرا لسمات الكاتب التي تبدو شاعرية حينما يقرر تناول بعض القضايا السياسية الأكثر رواجا في عصره، مثل هذه الإشارات هي بالطبع خير دليل على استنارة الكاتب حينما يعرض قضيته باحثا عن أدلة شافية وكافية لتبرير عرضه السردي وتدعيم أفكاره المطروحة. والمستقرئ لهذا الطرح يجد ثمة مشاكلة وتماثل بين وقائع الحياة السياسية والاجتماعية وبين الأحداث والمشاهد الزمنية المصاحبة لوقت كتابة الرواية.

(8) دعاء الكروان.. مَسَاحَاتٌ مِنْ الحِجَاجِ السَّرْدِيِّ:

حينما صدر كتاب ( جوع الواقع موت الرواية.. نوع أدبي يحتضر ) للناقد ديفيد شيلدس اصطدم الروائيون ولهجوا في الدفاع عن طرحهم السردي طارحين فكرة المؤلف وزعمه بأن قوة الواقع وتفوقه على الرواية هي التي قضت على وجودها كجنس أدبي استطاع أن ينتزع من الشعر أيقونة ديوان العرب، وسواء اتفقنا مع أفكار ديفيد شيلدس أم اختلفنا جذريا فإن الرواية المعاصرة والراهنة هي بشك في مرحلة معاناة حقيقية يمكن توصيفها في ملامح محددة، منها حالة الغياب بين النص والقارئ والتي مفادها لغة النص ذاتها، لذلك فإن رواية ” دعاء الكروان ” رغم قدم تاريخ نشرها إلا أنها تعد بمثابة حافز إيجابي يدفع القارئ العربي لتجديد علاقته بفن الرواية، لاسيما وأنه ـ القارئ ـ يجد وطنه حاضرا بقوة في سياقات الرواية، ويلحظ فتنة المدينة التي لطالما هرب من سطوتها بنفس القدر الذي يدفعه إلى النزوح النهائي إليها.

وأهم من ذلك كله فإن الطرح النصي الذي قدمه لنا طه حسين في روايته ” دعاء الكروان ” هو طرح العلاقة بين الوطن والمواطن، تلك العلاقة التي تحتاج إلى تحليل نفسي صوب الحاكم والوطن وقضايا المجتمع المعيشية وبعض القضايا المجتمعية كتريبة السكان وانتماءاتهم الأيديولوجية والزواج والارتقاء العلمي وغير ذلك من الطروحات الاجتماعية التي تربط المواطن بوطنه ومجتمعه، لذلك فإن القارئ لا حرج عليه في كونه مستلبا صوب الرواية وأحداثها وبطلها الذي لا تستطيع أن تتعاطف معه، في الوقت الذي تجد نفسك فيه أكثر المدافعين عن سيرته ومسيرته.

إنها دهشة السارد / طه حسين، وهو المسئول الأول والأخير عن تقديم الكلام عن شخوصه لاسيما شخصية بطلة الرواية، ودهشة طه حسين ليست في سرد التفاصيل وعرض إحداثيات حوارية تقضي على ملل الوصف والتوصيف، بل من حضور القارئ الذي يوهمه طه حسين بواقعية النص المسرد من خلال مشاهد وملامح كالإيفادات والإشارات الرمزية ووصف الإطار العام للمشهد، وحضور السارد نفسه الذي يجعل القارئ يفتش أكثر عن ما يشبع شغفه بتوصيف البطل.

(9) طه حسين يُؤَسِّسُ بِدَايَاته السَّرْدِيَّة:

في رواية ” دعاء الكروان ” سعى طه حسين أن يقدم لنا حكاية رجل تضطر طوعا من مقدمات سردية شارحة أشبه باللمحة الدالة السريعة للتعاطف مع الحكاية، وهو يقدم لنا تمهيدا ببيئة الحكي وشخوصه، هذا التقديم أشبه بلحظة الوسن التي تحدد العتبة الفارقة بين الحالة النوم الكامل وبين حالة اليقظة غير المستقرة، هذه اللحظة نجح طه حسين في خلقها لدى القارئ حتى يتمكن من عرض مشاهده المتتابعة لسيرة مدينة.

لكن طه حسين يؤسس لسرد مختلف إذ تراه أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم، فهو كذلك في رواية دعاء الكروان، يعتلي مسرحا سرديا يقص التاريخ الشخصي لشخصيات اجتماعية بعدسات غير متمايزة رغم أنه لا يدخل في قالب المسرح وكنهه، فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة الرواية بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي بصورة مغايرة لما اتفق عليه في خمسينات وستينات اقرن الماضي حينما ازدهرت الرواية واستحالت إلى أفلام سينمائية ذات شهرة. فبرغم كون الرواية حدثا اجتماعيا محضا يحكي سيرة امرأة وعصرها إلا أن طه حسين لم يكترث بتصعيد الحدث الاجتماعي إلى سدة الاهتمام القرائي مثلما اهتم باستقطاب الدهشة والمتابعة لدى القارئ في تعرف مزيد من الحكايا المرتبطة بالشخوص أكثر مما ترتبط بالأحداث المجتمعية الروائية.

فأنت تطالع شخوصا كثيرة مختلفة المهن والطبائع والأمكنة والثقافات، وفي كل شخصية أنت مضطر تماما إلى نسيان الحدث التاريخي المسطور في كتب التاريخ لاكتشاف ملامح أكثر دهشة عن طبائع هذه الشخوص، فتجد نفسك مهموما بتتبع تفاصيل شخصيات شتى، وفي كل هذه الشخصيات لم يقع طه حسين في فخ التنافر والتفكك البنائي للحدث الرئيس بل استطاع أن يقبض بإحكام على متابعة القارئ للحدث.

(10) لَحْظَةُ القَبْضِ عَلَى دعاء الكروان:

كنت أتوقع ـ وغيري كثير ـ منذ الإطلالة الأولى لعنوان رواية دعاء الكروان أن طه حسين يريد أن ينقل إلينا صورة مركزية لشخصية محورية تدور الرواية حولها، لكنه بحق نجح في الهروب من الشراك المحوري لينقل لنا صورة مركزية على الشاطئ الآخر للسرد، مركزية المدينة وصراعها التاريخي مع ثقافة القرية وصورتها الذهنية. هذه المركزية نقطة السر التي حولت النص التتابعي إلى خطاب إبداعي، والتعبير عن أحاسيس المجتمعات المدنية غير المستقرة نفسيا والتي قررت ان تختار الحرية غير المنضبطة كرهان واحد أخير. ولربما حينما استطاع طه حسين أن يلم تاريخيا بحقيقة شخصياته الروائية، أمكنه أن يخفي الوجه الإنساني لبطل العمل بصوته ووجوده الفعلي داخل النص من أجل أن يجعل القارئ يمارس دورا قرائيا إبداعيا هو التوصيف الجسدي والنفسي والذهني الجديد لشخصية البطل. وأعتقد أن طه حسين منذ خطه لسطور روايته ” دعاء الكروان ” وضع رهانات جديدة للسرد الروائي وهي حضور القارئ بقوة رغم انفصاله زمنيا عن حدث الحكي.

وحينما أمكن لطه حسين القبض بإحكام على الشخصية المركزية في رواية دعاء الكروان وقام بتشريح الشخصية نفسيا واجتماعيا في سياقات الرواية استطاع أن يفضح آليات المجتمع وقام بنقد المجتمعات المدنية في زمن كتابة الرواية في ضوء تقنيات وإحداثيات تاريخية لم تنفصل زمنيا عن واقع مشهود. إن دعاء الكروان إحساس عميق بالتاريخ الذي يلقي بظلاله على واقع معاصر مر، وإذا كان هناك ما يعرف عند أهل الاختصاص من اللغويين بالمشترك اللفظي، فإن طه حسين ابتكر ظاهرة المشترك السردي وهو الإحساس العميق لدى القارئ صوب الحدث. وحينما أحكم طه حسين قبضته على شخوص دعاء الكروان حدد بوضوح سردي دور شخصية البطل في رصد تحولات المدينة، وصياغة رؤية المدينة المستقبلية، ووظيفة المجتمع.

(11) ملامح الشهود الاجتماعي.. قراءة في الطرح التنويري:

قد لا تشغلنا أبدا إحداثيات روافد فكر طه حسين التنويري بينما ينشغل آخرون باللهاث واللحاق بتفاصيل الذكريات التي بدت مكرورة وأحيانا أخرى رتيبة مهملة الاهتمام، والأخطر أننا أيضا نجد أنفسنا مبتعدين تماما عن الانشغال بالكتابات النقدية التي تحمل انطباعات طبيعية شخصية ذات دلالة وانعكاس بتكوين طه حسين الاجتماعي، وربما من وجهة نظرنا تميل أكثر إلى المقاربات النقدية للأدب والأدب المقارن تحديدا.

لكن يظل الجانب الاجتماعي في الطرح الفكري لطه حسين يمثل ثورة تنويرية وعتبة فارقة في طريق تجديد الفكر العربي الحديث والمعاصر بل والراهن أيضا خصوصا وأنه واجه بكتاباته مجتمعات ساكنة، بدا ذلك في طروحاته الفكرية وليست الأدبية حينما ناقش بالدرس والتحليل والتفسير والتأويل الشعر العربي القديم، والفكر القروي والصورة الذهنية لساطني المدينة، ولا يعنينا كيف يجب أن تُفهم ثورة طه حسين ضد الأزهر أو الشعر الجاهلي أو عريف القرية أو حتى أهله ووالده المتيم بقراءة دلائل الخيرات بل بما تم عن ذلك من منتج فكري تداوله القراء والنقاد.

فهو نفسه ـ طه حسين ـ كما يذكر سامح كريم وسهير القلماوي كان يضيق ذرعا أحيانا بتأويل سيرته الذاتية ومحاولات النقاد المريضة فكريا ونفسيا وأيديولوجيا كذلك في اقتناص رغبات غير مشروعة لم يقر بها صاحبها الحقيقي، لكن مشكلة كبار نقاد السير الذاتية والأدب عموما أنهم يفرضون التاريخ منهجا صارما في القراءة والتفسير.

لكن أهم أبعاد الطرح الاجتماعي الذي نبغيه مقصدا في اقتناص فكر طه حسين التنويري هو مسارات الفكر الاجتماعي نفسه، واعتنائه الشديد بالطرائق اللغوية والأشكال الإبداعية والنقدية في جعل فكره الاجتماعي طرحا إصلاحيا؛ نتلمس ذلك تحديدا في مقالاته السياسية المباشرة، وأعماله القصصية الأدبية، والإسقاط التاريخي المتعمد في كتاباته النثرية الأخرى.

ولا يبدو مهم لدي تعقب جذور الفكر الاجتماعي عند طه حسين والمتمثل في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، أو التفسير الاجتماعي للوقائع التاريخية، بل نعرات الإصلاح الوطني الذي يبدأ من التكافل والتضامن الذي قصده طوعا بصورة مستدامة في كتاباته لاسيما الكتاب الأميز ” مستقبل الثقافة في مصر”، كذلك كتابه ” بين بين “.

وأهم أبعاد الفكر الاجتماعي عند طه حسين هو تصديه القوي العنيف للعوامل الهدامة في المجتمع المصري كالجهل والتخلف والمرض وكل هذه الإحداثيات رصدها جميعها في رواياته.

كذلك مطالبته المستدامة بإلغاء الفروق بين الطبقات والذي وجدناه منثورا في روايته ” دعاء الكروان “، وقضية ديموقراطية التعليم ونشره في رواية ” أحلام شهرزاد”، وأخيرا قضية تعطيل العدل الاجتماعي التي عبر عنها في صورة إبداعية تمثلت في قصة ” أحلام شهرزاد”.

لكن يبقى أثر طه حسين الخالد متمثلا في كتابه الفريد ” مستقبل الثقافة في مصر ” والذي تحدث فيه عن سياسات إصلاح التعليم، وعرض مرتكزا قويا ومعلما مرجعيا رصينا لهذا الإصلاح تمثل في الفلسفة الديموقراطية، وحرصه الدائم على تأكيد حقيقة أن التعليم دعامة أولى لبناء الوطن.

____
*بليغ حمدي إسماعيل/ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية(م)/ كلية التربية ـ جامعة المنيا.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة