ترجمة: محمد امباركي
مقدِّمة المترجم
ارتأينا ترجمة هذا الحوار مع ” هوارد بيكر”[1] استحضارا لعطاءاته السوسيولوجية الغنية قبل وفاته مؤخرا، وبالضبط بتاريخ 16 أغسطس2023 عن عمر يناهز 95 سنة.
ازداد “ه. بيكر” بتاريخ 28 أبريل 1928، يعتبر أحد أبرز علماء الاجتماع في العالم، وقد خلف تراثا سوسيولوجيا غنيا و كان من أبرز مساهماته تلك المتعلقة بسوسيولوجيا الانحراف (Sociologie de la Déviance )، كما يصنف ضمن ورثة التقليد السوسيولوجي لمدرسة شيكاغو ويندرج أيضا ضمن تيار التفاعلية الرمزية. له العديد من الأعمال الرائدة من أبرزها: “الغرباء” (Outsiders) الصادر سنة 1963، ثم في طبعة ثانية سنة 2000، و “عوالم الفن”(Les mondes de l’art) الصادر سنة 1982 وفي طبعة ثانية سنة 2010. كان ولعه العلمي بالفن لاحقا لشغفه الشخصي بمختلف الفنون كالموسيقى وفن التصوير حيث لما كان شابا اشتغل بعدَّة مهن فنية ومن جملتها كعازف على البيانو بالعلب الليلية من أجل ضمان مصاريف العيش ومتابعة الدراسة.
في هذه المقابلة التي أجريت مع “ه. بيكر ” سنة 1998، يعود هذا الأخير إلى هاتين الدراستين الرئيسيتين.
وهذا نص الحوار:
من دراسة السلوكات المنحرفة إلى تحليل عوالم الفن، يتبنى عالم الاجتماع الأمريكي ” هوارد بيكر” نفس الخطوات المنهجية: تسليط الضوء على كل التفاعلات بين جميع الأشخاص الذين ينخرطون في نشاط معين.
-ارتبط اسمكم في فرنسا بكتاب “الغرباء”، وهو العمل الذي تجددون فيه المقاربة السوسيولوجية للانحراف من خلال تبني مبادئ التفاعلية الرمزية. كيف قادتكم الظروف إلى دراسة الانحراف؟
لقد شرعت في كتابة فصول من كتاب “الغرباء” عشر سنوات قبل نشره سنة 1963. كنت قد أتممت بحثي حول معلمات في مدرسة من مدارس شيكاغو تحت إشراف ” Everett Hughes”.
إن المقاربة والمفاهيم المستعملة لدراسة ممتهني موسيقى الجاز أو مدخني الماريخوانا، هي مقتبسة من دراسة مهن ووضعيات الشغل. وهنا نجد الفكرة الرائعة لـ Everett Hughes” التي تقول إن كل وضعية قائمة هي نتاج تفاعل بين مختلف الأعوان. إذن من أجل فهم هذه الوضعية، ينبغي مراعاة مجموع المكونات المنخرطة فيها سواء من قريب أو من بعيد.
وكذلك من أجل دراسة السلوكات التي يتم الحكم عليها بأنها سلوكات منحرفة، لا ينبغي فقط الانطلاق من إحصائيات ومعطيات رسمية. بل يجب أيضا الاهتمام بهؤلاء الذين يفرضون المعايير أو يبلورون التهم من خلال تبيان كيف يصل هذا الفرد أو هذه المجموعة من الأفراد إلى انتهاك هذا المعيار أو يصنف باعتباره منحرفا. من يتهم من وبماذا؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه.
من خلال المنظور الذي أتبناه، ليس الانحراف خاصية مرتبطة بفئات معينة من الأشخاص. ميزة الانحراف أو غير الانحراف لفعل معين تتوقف على الطريقة التي يتفاعل بها الآخرون. كما أن رجال الشرطة لا يلجؤون إلى توقيف كل الأشخاص الذين يرتكبون جرائم. لا يعاقبون كل السائقين الذين يرتكبون مخالفات السير، بل فقط البعض منهم. الانحراف يعبر عن مسافة في العلاقة بمعايير وضعتها مجموعات اجتماعية، لكن كي يكون المرء منحرفا لا بد أيضا من أن يكون موضوع تهمة.
-من داخل سوسيولوجيا المهن، تستعيرون أيضا مفهوم الحياة المهنية من أجل تحليل مسارات المنحرفين. أين تتجلى هذه الحياة المهنية.؟
داخل مفهوم الحياة المهنية، توجد فكرة التطور عبر مراحل حيث المخرج ليس مضمونا إطلاقا. في ثنايا هذا المنظور، لا يكون مركز الشخص محددا بشكل كامل، فهو نتاج تشعبات متعاقبة. الطرق التي تبدو في الظاهر أنها الأكثر وضوحا ليست بالضرورة هي الطرق المستعارة واقعيا. مثلا حامل شهادة في الطب، من حيث المبدأ ينبغي أن يصبح طبيبا، لكن من حيث المبدأ فقط. هناك خريجو الطب من لم يصبحوا أطباء. ونفس الأمر ينطبق على الانحراف، لا يصبح الشخص منحرفا حسب صيرورة غير قابلة للتراجع أو التفادي.
كان ” Herbert Blumer” عادة ما يقول أن الانخراط في نشاط غير قانوني ليس بأمر مسلم به. مثلا ليس كل شخص قادر أن يصبح لصا، لأن السرقة نشاط مركب للغاية. يجب أن تعرف ما ينبغي عليك سرقته، تحديد الاشخاص الذين في حوزتهم أشياء جديرة بالاهتمام وتستحق أن تسرق. هل سأعمد إلى سرقة آلة التصوير هاته مثلا؟، لا أبدا لأنها حقيقة لا تستحق ذلك. علاوة على ذلك، إذا سرقتها لمن سوف أستطيع بيعها؟. باختصار، إن السرقة نشاط مركب جدا. المسألة ليست ببساطة مسألة استعداد. السرقة حرفة يتم تعلمها !
-عادة ما يكون من الصعب رؤية الأنشطة المنحرفة. أية فائدة قد تكتسيها الملاحظة بالمشاركة في هذا الشأن؟
من أجل دراسة مدخني الماريخوانا، لم ألجأ إلى الملاحظة بالمشاركة إلا جزئيا. لقد استجوبت بشكل خاص أشخاصا معينين، حيث لم أسألهم كثيرا عن نشاطهم الحالي بقدر ما سألتهم عن المسار الذي قادهم إلى هذه الممارسة.
وهذا يعني أن الأشخاص الذين ينخرطون في ممارسات غير شرعية يقبلون أكثر من الآخرين، إجراء الملاحظة بالمشاركة التي يمارسها علماء الاجتماع . وذلك في الواقع لسبب بسيط ووجيه : هؤلاء الأشخاص يعرفون أن الشرطة لا تحتاج إلى علماء الاجتماع كي تتسب لهم في المتاعب. إذن فهم لا يبدون أي ارتياب خاص اتجاه علماء الاجتماع . وهذه هي حالة مدخني الماريخوانا بشكل خاص. لقد كانوا سعداء بكونهم يستطيعون الثقة في عالم الاجتماع. لأنه في الحالة العادية، كانوا يوصفون عبر كلمات غير مطابقة للواقع، بأنهم كائنات فاسقة. من خلال وعيهم أني عالم اجتماع، كان بعضهم يصرخ قائلا: ” على الأقل أنت تقول الحقيقة ! “.
-كي تكون مقبولا بين مدخني الماريخوانا، هل اضطررتم أنتم ذاتكم إلى التدخين؟
في ذلك الوقت لم يكن الأمر ممكنا. لم يكن سلوكا حكيما…
-لم يكن ممكنا التعبير عنه بشكل صريح ومنفتح؟
نعم. لكن…على أية حال لم يكن من الضروري الانخراط بشكل كامل في هذا النشاط الذي نرغب في دراسته. وإلا سوف لن تتمكن من دراسة الشيء الكثير. مثلا لا يمكنك الادعاء بمعرفة كل شيء بخصوص الأنشطة النسائية. في الواقع، الملاحظة بالمشاركة تعني أن الشخص يوجد هناك وأنه قادر على النظر والاستماع إلى ما يحدث. القدرة على الملاحظة: هي ما يفيد أكثر.
-تمت كتابة مؤلف “الغرباء ” في سنوات 1960. كيف كانت مقاربة هذا العمل في أمريكا الزمن الحالي؟
إنني لا أشتغل على مشكل الانحراف منذ سنوات. كل ما أعرفه هو أن هناك أساتذة يطلبون من طلابهم قراءة مؤلفي.
المشكلات العلمية لها هي أيضا حياتها المهنية. قد يحدث أن باحثين شباب يقومون بادعاء موضوع بحث من زاوية أخرى تختلف عن باحثي جيلكم. دون أن يعرف المرء لماذا يشغلون أنفسهم بالتكهن بتفاصيل غير ذات أهمية. باختصار الاهتمام – ” كما تقولون أنتم عادة – ب ” قص الشعر إلى أربعة”؟
-إن التحليل الذي اعتمدتموه في كتاب ” عوالم الفن” يختلف عن تحليل كتاب “الغرباء” على مستوى المنهج : إنكم تحيلون على تجربتكم الذاتية في الموسيقى أو في فن التصوير. الاستشهادات والعمل الميداني يعكسان هذه الملاحظة.
إن “عوالم الفن” كتاب من نوع آخر، ليس لأن الدراسات كانت تتأطر ضمن روح مختلفة عن تلك التي أنجزت حول موسيقيو الجاز. مثلا لقد لجأت إلى نفس الدراسة النسقية حول عالم المصورين، لكن من خلال التواجد هناك، حقيقة يكون الباحث منخرطا بشكل خاص. كنت أعيش أساسا في هذا العالم من أجل تعلم فن التصوير وليس من أجل دراسة ممتهني فن التصوير. داخل هذا العالم التقينا وتعارفنا أنا وزوجتي. وفيما يتعلق بعالم المسرح، لقد عملت أيضا على استجواب ممثلي ومديري مسرح سان فرانسيسكو. اشتغلت مع أشخاص آخرين درسوا عالم المسرح في مدن أخرى كبيرة.
-في “عوالم الفن” أحدد إطارا للتحليل لدراسة ذوات لها تعلق بالفن.
ماذا تقصدون بعالم الفن؟
في العادة، تصلح عبارة عالم الفن لتعيين شخصيات مرئية داخل وسط فني معين. وفيما يتعلق بي، فأنا أحدد من خلالها مجموع المهن التي تساهم في إنتاج عمل فني أو المساهمة في التعريف به كما هو : الفنان، لكن أيضا الحرفيون الذين يصنعون مواد الفنان، مورديه، الانتقادات التي توجه إليه…الخ، دون نسيان الجمهور أو الهاوي البسيط. بهذا المعنى، فالحديث عن عالم الفن يحيل على إضفاء الطابع النسبي على الفكرة التي تقول أن العمل الفني سوف يكون منتوج فرد منعزل.
إن هذه المقاربة يمكن أن تشمل في النهاية أي نشاط سواء كان فنيا أو غير فني – استهلاك الماريخوانا، الدعارة…-، كل نشاط هو في الواقع مرادف لعالم مركب من الأشخاص حيث يساهم عملهم في توضيح أن هذا النشاط يمكن أن يتم بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى.
-هل من الممكن تطبيق مقاربة مثل هاته أيضا في تحليل عالم علماء الاجتماع؟
ممتاز ! كما هو الحال بالنسبة لكاتب رواية، السؤال المطروح بالنسبة لي هو : أي أشخاص هم ضروريون لمباشرة عملي كعالم اجتماع بشكل جيد؟ مثال واحد يكفي لتوضيح الفكرة: خلال بداية مساره المهني، كان لصديقي القديم Erving Goffman عادة معينة وهي كتابة نصوص من عشرات الصفحات. هذا كثير من أجل الظهور بمجلة ولا يكفي لإنجاز كتاب، كان مدراء المجلات يقولون له ” حقيقة أريد أن يظهر مقالك داخل مجلتي لكن هذا الأمر سوف يرغمني على حذف مقالات أخرى”. عكس ذلك، يقول الناشرون ” 60 صفحة؟ ( عادة ما كان هذا هو طول مقالات Evring)، ليس بكتاب !” لماذا؟ لأنه من زاوية التكاليف المرتبطة بالطبع، سوف يكون الناشر مرغما على بيع الكتاب بسعر أعلى بالمقارنة مع كتاب من مئات الصفحات. إذن سوف يطلب من E. Goffman أن يكتب على الأقل الضعفين. كل هذا لتوضيح مسألة أن ظهور مقال ما يستوجب بالضرورة وجود كاتب، لكن أيضا حد أدنى من التعاون بين الكاتب والناشر.
-عادة ما يرد اسمكم ضمن ورثة مدرسة شيكاغو. إلى أي درجة عملت هاته المدرسة على توجيه أبحاثكم؟
لقد تعلمت الشيء الكثير على يد E.Hughesd و H.Blumer. وبهذا الخصوص، فأنا أشارك بطريقة معينة فيما حصل الاتفاق بنعته بمدرسة شيكاغو. لكني أيضا أدين بالشيء الكثير ل William Lloyd Warner ، وهو أنثروبولوجي سبق له أن درس بشيكاغو بعد الدراسة بهارفارد. جميع هؤلاء الأشخاص مارسوا تأثيرا حاسما على طريقتي في إدراك الأشياء، لكن كما تعلمون، في خضم سنوات مساري أتيحت لي فرصة الاشتغال مع أشخاص آخرين كثر.
-ما هو الموضوع الذي تشتغلون عليه حاليا؟
في كتابي المقبل، أحاول أن أوضح لعلماء الاجتماع أنه للاهتمام بالمجتمع، هناك وسائل أخرى غير المقال المنشور في المجلة التقليدية، من بين هذه الوسائل مثلا: الأفلام، الصور، الروايات، اللوحات، المسرح، النماذج الرياضية أي المرتبطة بالرياضيات…الخ. سوف يكون عنوان هذا الكتاب هو (Telling about Society)، بمعنى: حديث عن المجتمع. إن عبارة “حديث” مهم للغاية : إنها تستوجب فكرة الصيرورة. في هذا الكتاب أقوم في الواقع بتحليل ليس فقط الوثائق النهائية في حد ذاتها ( التصوير، النموذج الرياضي…) بل العمل الضروري لإنجازها ( مراحل الإنجاز، الأشخاص المنخرطين في كل مرحلة…الخ). عدد كبير من الباحثين في العلوم الاجتماعية يميلون إلى الاهتمام بالوثائق بشكل مستقل عن الظروف والهيئات التي قادت إلى لإنتاجها. وهذه الخطوات المنهجية هي نفسها التي تم استعمالها في كتاب “عوالم الفن”. إن الأمر لا يتعلق بالتعليق على نص، بل بتحليل سوسيولوجي : تحليل أفراد منخرطين في إنتاج العلوم الاجتماعية. في نهاية المطاف، إنها نفس المقاربة التي عمل Bruno Latour على تطويرها بخصوص ” الأشياء العلمية”.
-إنكم لست فقط عالم اجتماع، بل موسيقي، مصور…في فرنسا، يلصقون بكم صفة “ملامسة كل الأشياء ” بدلالة هي بالأحرى ازدرائية؟
دفاعا عن نفسي أنا لست مذنبا ! لأنه لما أنغمس في إحدى هذه الأنشطة، أفرض على نفسي أن أكون دقيقا. لما ألعب البيانو، ليس لأنني ببساطة مجرد هاوي. خلال سنوات عديدة كنت ممارسا محترفا للبيانو، كنت ألعبه في فرق موسيقية بشيكاغو وكانساس سيتي…نفس الشيء بالنسبة لفن التصوير، لقد أمضيت الكثير من الوقت ليس فقط في التقاط صور، بل أيضا الانخراط في هذا العالم بشكل آخر أكثر منه هاوي بسيط. هذا بالإضافة إلى أن الانغماس في أنشطة متعددة يتيح إمكانية مباشرة مقاربة مقارنة. ليس لأن التخصص هو أمر سيء : التخصص يمنح أفضلية في معرفة الشيء الكثير عن ميدان معين. إن المسألة هي مسألة اختيار.
[1] La déviance, un métier qui s’apprend. Rencontre avec Howard Becker. Revue Sciences humaines. Hors-série N°25. Juillet-Aout 2020.Propos recueillis par Sylvain Allemand. P : 26-27-28.
________
*محمد امباركي: باحث في سلك الدكتوراه، تخصص علم الاجتماع، جامعة ابن طفيل القنيطرة. المغرب.