قراءة في كتاب “الكبار يعرفون متى يرحلون” للكاتبة حبيبة نقوب
هو كتاب يرسم لوحة لانتفاضة شعب ودور الجيش في التجاوب مع الأحداث والتعايش معها، تجنّبًا لسفك الدماء وعدم العودة إلى مرحلة اتَّسمت بالعنف حين وقع صدام مسلَّح بين النظام والمعارضة، وجدت الجزائر نفسها الخاسر الأول، فالحديث عن الجيش الشعبي الوطني سليل جيش التحرير الوطني الثوري حديثٌ ذو شجونٍ، ولولا جيش التحرير الوطني الذي حرَّر البلاد لما وصل الجهاز العسكري في الجزائر إلى مستوى الريادة، فالجيش الجزائري عاش أحداثا دموية، فكان عليه أن يلتزم بالتعقُّل والتريُّث وعدم التهوُّر في اتِّخاذ موقف لا يخدم البلاد، لم تُخْرِجْ مؤسَّسة الجيش في الجزائر دباباتها في حراك 22 فبراير 2019 ولم تستعرض عضلاتها كما استعرضتها في بداية التسعينيات لتواجه المعارضة. حتى الشعب كان مسالما متفتِّح الفكر في تعامله مع الوضع، للإشارة أنَّ الكاتبة حبيبة نقوب أستاذة التعليم الثانوي متقاعدة ومدرِّبة في التنمية البشرية وشاعرة لها العديد من الإصدارات.
الكتاب من الحجم الصغير وهو من نوع “كتاب الجيب” يقع في 112 صفحة صدرت طبعته الأولى في 2021 عن دار الأوطان للنشر والتوزيع، كتاب يمكن وصفه بقصية غزل نثرية كتبتها حبيبة نقوب عن شخصيَّة عسكريَّة هي الجنرال أحمد قايد صالح، حيث خصَّصت له أغلب الصفحات من الصفحة السابعة الى الصفحة 35 لتعود إليه في أواخر صفحات الكتاب وعكس بعض الكتاب الذين يمارسون ثقافة العنعنة (عن عن)، إلا أنَّ الكاتبة استعملت ثقافة جديدة إلى حدِّ الإطراء وهي تثني على شخصيَّة عسكريَّة حتى أنَّها كادت أن تضع على رأسه تاج القداسة، لاسيما والقايد صالح ارتبط اسمه بالحراك الشعبي عكس ما كان عليه في التسعينيات، حيث خصَّصت فصلا عن “الانتفاضة” السلميَّة التي قامت بها الجماهير الشعبيَّة قادها رجال وطنيّون وشباب ونساء وحتى أطفال من أجل التغيير الجذري وتطهير البلاد من الفساد الذي عشعش في الحكم وتحقيق العدالة فضلا عن رفضهم للعهدة الخامسة، هي انتفاضة شعبٍ حُرٍّ لا يهاب القنابل المسيلة للدموع ولا الرصاص ولا الدبّابة ولا السّجون، خاصَّة وأن التحليلات السياسيَّة أشارت أن الحراك الشعبي كان مكملا لما حدث من قبل لأن النظام لم يفهم الدرس، فاستمر في جبروته، فكان على الجماهير أن تعبِّر عن غضبها من جديد وهي تواجه نظامًا متسلّطًا دكتاتوريًّا، وهو ما أشارت إليه الكاتبة عندما قالت:” إنَّ هذا الشعب كان مستبدًّا من طرف نظامه المتعسِّف” (ص36) .
وتضيف الكاتبة أنَّ خروج الشعب كهبّة واحدة لم يكن صدفةً، بل بسبب ما عاناه من الاستعمار ثم العشرية السوداء ثم العشرين سنة التي عاشها تحت وطأة السلطة الحاكمة في عهد بوتفليقة، حيث وصفت هذه المسيرات السلميَّة بالراقية، لأنَّ الشعب خرج لإنقاذ كرامة الجزائر، ربما يتفق القارئ مع الكاتبة في بعض النقاط، لكنه قد يختلف معها في نقاط أخرى عندما أشارت في الصفحة 36 أنَّ “الشعب صمت دهرا ونطق يوما” وأنَّ القايد صالح هو من غيّر شعوره، نقول: لقد كان الشعب يُعَبِّرُ عن صوته في كل انتفاضة يقوم بها منذ الثورة إلى ما بعد الإستقلال، وما الحراك الشعبي سوى الانتفاضة الأخيرة وربما لن تكون الأخيرة إذا ما استمرت السلطة في تعنتها وقمعها طالبي الحرية والعدالة، الإعتراف جميل طبعا، وقد اعترفت الكاتبة حبيبة نقوب بالحكمة والوعي الذي يتمتع به الشعب الجزائري الذي عاش المأساة الدموية، فكان عليه أن يتعقَّل من أجل سلامة الوطن، لم يكن الحراك الشعبي في الجزائر من أجل إسقاط العهدة الخامسة فقط، وإنّما من أجل إسقاط نظام فاسد وبناء جزائر جديدة بوجوه وطنيَّة تعيد للشعب كرامته المسلوبة.
الملاحظ أنَّ الكاتبة قد اعتمدت على بعض آيات القرآن الكريم من باب الاستدلال على الخط الذي رسمه الإسلام في تسيير شؤون الرعية وإدارة الحكم، كما نقرأه في الآية 37 من سورة النازعات: ” فأمّا من طغى ..الخ “، فالحراك الشعبي جاء لمحاربة “الطغاة ” (العصابة) الذين عاثوا في الأرض فسادا، تشير الكاتبة في الصفحة 38 من الكتيب أن ” الطغيان عدوٌّ غاشمٌ وهو آفة الشرعية والعدل والحرية ويستحيل مع الطغيان تحقيق التقدم والازدهار ولا صون الوحدة والأمن والاستقرار”، والملاحظة الثانية هي أن الكاتبة وقعت بين نقيضين، فتارة تتحدث بموضوعية وبمنطق الكاتب الملتزم والباحث الحيادي وتارة أخرى تنجرف وراء الأنا، أي أنها تكتب بذاتية، وهي تصف القايد صالح، فالذين قادوا الحراك أناس تسري في عروقهم روح نوفمبر، وإن حقق الحراك بعض المطالب، فلمّ الشمل الجزائري لم يتحقَّق بعد وهناك أطراف لا تريد له أن يتحقَّق، فلا ينبغي أن نقول إنَّ فلانًا وحده من أنقذ الموقف، ثم أنّ الكاتب الملتزم يجب أن يكون حياديًّا فلا يقف في صف طرف دون الآخر، كما يجب عليه أن لا يُشَخِّص، فكيف لكاتب أن يصنّف شخصًا ذا رتبة عالية في خانة المجرمين كما جاء في الصفحة45 دون أن يقدِّم قرائن وبراهين، أم أننا نمدح هذا ونقدح ذاك من أجل الإثارة؟
هذه الملاحظات ليست من أجل إنكار جهد الكاتبة، فأفكار الكاتبة جاءت متسلسلة، فما وقفنا عليه هو أننا نلمس في الكاتبة شيئا من “الغيرية ” على الوطن، عندما قالت: إنَّ الحراك الشعبي هدفه بناء دولة جزائرية على قيم وثوابت الدولة ( ص48 )، فالغيرية كرِهَان ليس لتأسيس الإنسان فقط، بل لبناء دولة لا تزول بزوال الرجال، وهذه الغيرية لها ارتباط وثيق بالذات والآخر، ولذا لا يمكن أن نؤلِّه هذا الآخر ونمنحه هالة قدسية فنضعه في مرتبة الإله فنعبده، خاصة إذا ارتكب هو الآخر أخطاءً لا يمكن غفرانها أمام الله والتاريخ، إلا أننا نختلف معها في قولها: (بناء دولة جزائرية على قيم وثوابت الدولة، بل نضيف على قيم وثوابت الدين الإسلامي الحنيف ومبادئ أول نوفمبر 1954 الذي رفع شعار ” الله أكبر”، أما ما جاء في الصفحة 49 نقف مع الكاتبة عندما اقتبست مقولة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: ” الفساد يبدأ من القمّة والإصلاح يبدأ من القاعدة” ولو أن هذه المقولة فيها إعادة نظر، كيف يكون الإصلاح من القاعدة إذا كان رأس العصا مُعْوَجٌّ من فوق وليس من الأسفل؟.
في فصل آخر تنتقل الكاتبة إلى الحديث عن “العصابة”، وكل المتورطين في الفساد باتفاقهم مع أعداء الجزائر، مذكرة بما تناولته الصحافة ومواقع التواصل الإجتماعي من ردود، خاصة فيما تعلق بجولات القايد صالح وخطاباته وتحذيراته للعصابة وأذنابها مهددا إياهم بالكشف عن الملفات الثقيلة ( ص54) لتنتقل للحديث من جديد عن القايد صالح، لتصفه ( ومن باب التلميح) بأنه “المُعَلِّمُ” الذي علّم الشعب معنى الوطنية والنضال والكفاح، إذ تقول في الصفحة 68: من أراد أن يمارس السياسة عليه أن يتعلم معنى الوطنية وكيف تبنى الأوطان و..و..الخ، إلى ان تقول فلا يمكن أن يتعلم ذلك إلا من سيرة هذا القائد الفذ الفريق القايد صالح ..الخ، ما ينبغي التنبيه إليه هو أن الجزائر أنجبت قادة عسكريين منذ الأمير عبد القادر إلى آخر جنرال في جزائر ما بعد الحراك الشعبي، فيهم من قضى نحبه وفيهم من لا يزال على قيد الحياة وعلى رأسهم الجنرال اليامين زروال أطال الله عمره المنحدر من منطقة أوراس النمامشة وهي نفس المنطقة التي ينحدر منها القايد صالح.
من الصعب أن نذكر كل ما جاء في هذا الكتيب خاصَّة مسألة انتخاب الرئيس تبون ووفاة القايد صالح فهذا مجرد تحصيل حاصل، كون الشعب عاش الحدث ولم تعد تخفى عليه كثير من الامور(الصفحة 81.. إلى الصفحة 108 من الكتاب)، نعم الرجال يتعلمون من الرجال والقايد صالح تعلم ممّن سبقوه في القيادة العسكرية منذ ايام الثورة وبعدها، ثم أن الحديث عن الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني حديث ذو شجون، ولا يسعنا إلا أن نذكر قادة عسكريين كان لهم دور في رفع راية الجزائر في السماء، ونذكر منهم الجنرال اليامين زروال أطال الله عمره والعقيد محمد الصالح يحياوي رحمه الله وأسماء أخرى، تأبى الذاكرة الجماعية أن تنساهم أو تُخْدَشَ صورتهم من طرف الخونة أعداء الوطن.
الملاحظة الأخيرة هي أن الكتيب لم يكن مهمشا حيث أشارت الكاتبة أن إنجازها هذا المولود جاء من خلال متابعتها القنوات الفضائية وما نشرته مجلة الجيش، بحيث لم تذكر التواريخ وأعداد المجلة حتى تمكِّن القارئ من الرجوع إليها، وخلاصة القول إنَّ الكاتبة حبيبة نقوب على غرار كتاب آخرين وكاتبات قد أرخت للحراك ولشخصية عسكرية عاشت أحداثا دموية، فكان عليها أن تلتزم بالتعقل والتريث ومعالجة المشاكل بعقلانية، والدليل أن الجهاز العسكري لم يُخِرِجْ الدبابات في حراك 22 فبراير 2019 ولم يستعرض عضلاته كما استعرضها في بداية التسعينيات ليواجه المعارضة، الكتاب في حاجة إلى إثراء للوقوف على المسائل اتي لا تزال خفية على الشعب الجزائري وماذا يُدار في كواليس النظام والسلطة وإلى الوقت الراهن.
_______
قراءة علجية عيش مع ملاحظات.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.