دراسات دينية

فقه العبادات

وجد الإنسان نفسه في هذا الكون الفسيح متسائلا عن علة وجوده، فانطلق في رحلة البحث والتأمل في أسباب خلقه، ومن هو خالق هذه الحياة بكل ما فيها، فساح في الأرض المتأملون والزهاد والعباد ليرووا ظمأهم ويسدوا شغفهم، ويضعوا حدا لتساؤلاتهم، فكان المخلصون حقا يدركون وجود الله ووحدانيته.

فالإنسان موحد بالفطرة الطبيعية، كما قال نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار): «ما من مولود إلا يولد على الفطرة».

وجاء الإسلام ليضيء درب السائلين عن سبب من أسباب خلقهم، فأجابهم خالقهم في محكم تنزيله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.

 بل إن الله أخبر نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) بأن جزءا من خطاب الله لجميع رسله يتعلق بوجوب عبادته وطاعته: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.

وقد استفتح كل نبي كلامه مع قومه بهذه الدعوة، وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.

عن إبراهيم (عليه السلام) قال تعالى {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله}؛ عن عيسى (عليه السلام) قال الله تعالى: {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم}، عن نوح (عليه السلام) قال تعالى: {لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله}، عن هود (عليه السلام) قال تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله}، عن صالحً (عليه السلام) قال تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله}، عن شعيبً (عليه السلام) قال تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله}.

فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضا. ومن هنا ورد مفهوم العبادة بمكانتها المقدسة باعتبارها سببا من أسباب خلق الإنسان ووجوده، وحق الله الذي أوجبه على العبد.

ولقد خصصت الشريعة الإسلامية للعبادات بابا مستقلا في الفقه في مقابل باب المعاملات، وقسمته وفصلت كل جزئياته في إطار ما يسمى فقه العبادات. ولا شك أن مفهوم العبادة يرتبط بعلاقة الإنسان بربه وبمجموعة الأعمال الخاصة التي أوجبها الله تعالى على عباده، وذلك على خلاف المعاملات التي تربط علاقة الإنسان مع غيره. ومن هنا تشغل العبادات حيزا كبيرا في الشريعة الإسلامية كونها تقوم على تمتين الرابط بين الخالق والمخلوق، فهي مطلق الطاعة والخضوع لله تعالى، ومن هنا قال الإمام علي (عليه السلام) في مناجاته لله: «إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولاطمعا في ثوابك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك”.

يعد فقه العبادات من أهم فروع الفقه وأشهرها وأكثرها تناولا. ويهدف هذا الفرع إلى تأصيل العبادات وترسيخها، كما يهدف إلى ربط العبادة وأحكامها بالكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، وتعريفنا للعبادات هو: «كل الأفعال والأقوال التي يقوم بها العبد استجابة لأوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه مشروطة بالنية والقصد والإخلاص»؛ قال الله تعالى: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾.

والنية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار): «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى».. وموافقة الشرع لها فلا تصح العبادة إلا بهذه الشروط المذكورة.

والعبادات غير محصورة في نوع واحد، ولكنها كلها تصب في نفس الهدف، وهو الامتثال والطاعة لله، وتطهير النفس وتزكيتها وتمتين علاقتها بخالقها.

وهناك عبادات عملية والتي يمكن تقسيمها إلى عبادات بدنية وتشمل: (الطهارة والصلاة والصيام)، والعبادات المالية التي تشمل: (الزكاة والخمس)، والعبادات المالية والبدنية معا وتتمثل في: (الحج والعمرة والجهاد بالمال).

ولا شك أن العبادات التي شرعها الخالق هي عبادات توقيفية؛ بمعنى أنه لا يجوز التعبد لله إلا بالعبادة الثابتة في النصوص الشرعية الموافقة لها، لذلك فإن العباد ملزمون بما ألزمهم الله تعالى وما قام الدليل الشرعي عليه، ومن شك في عما ما هل هو عبادة أم لا، فالأصل أنه ليس بعبادة حتى يقوم الدليل على ذلك: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} فينبغي أن يكون العمل على حسب ما جاء في كتاب الله؛ قال الله تعالى: {ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} وكل عمل بلا دليل فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء. فلا تشرع عبادة من العبادات إلا بدليل، فيجب أن يلتزم الإنسان بالعبادة كما وردت في القرآن الكريم. فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين بطل وحبط وأصبح مردودا على عامله؛ قال الله تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا﴾.

خلاصة فقه العبادات: إن الله (عز وجل) خلق الإنسان لمعرفته وعبادته والامتثال لأوامره. وعبادة الله كالطهارة والصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة والجهاد تستوجب النية والقربة إليه والإخلاص له وحده لاشريك له، وتكون وفق ماحددته الشريعة الإسلامية المستندة في القرآن الكريم والسنة من دون أي زيادة فيها أو نقص أو تعديل أو اجتهاد؛ فلا تشرع عبادة من العبادات إلا بدليل موافقة الشرع لها؛ فعبادة الله توقفية توتى من حيث ما أمر بها حصرا.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.