طغيان التكنولوجيا: مخاوف جونثان أندر حول مستقبل الجنس البشري
تقديم:
تروم هذه المقالة معالجة إشكاليَّة علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، التي انطلت كتقنية مساعدة للإنسان لكن سرعان ما انقلبت إلى آداة لاستلاب وعيه، وأصبحت تمارس سطوتها عليه، فالآلات والأجهزة الإلكترونية متغلغلة في كل جوانب الحياة الإنسانية، حاضرة في التعليم والتربية والترفيه والعمل…، وغيرها من الأنشطة اليومية؛ إنها أداة الوصل التي بدونها نصبح غرباء عن بعضنا ومن هنا يبزغ سؤال: من يتحكم في الآخر نحن أم التكنولوجيا؟
للجواب على هذا السؤال سنعتمد على مقالة من مجلة الثقافة العالمية، معنونة بـ”فيلسوف نهاية العالم”، بقلم أودري بوروسكي وهي باحثة مشاركة في جامعة أكسفورد وحاصلة على درجة الدكتوراه في الفلسفة، تتراوح اهتماماتها على نطاق واسع من الفترة الحديثة المبكرة إلى القرن 21، أي من لايبتز إلى كارثة وفلسفة الذكاء الاصطناعي؛ يتطرق المقال إلى أفكار وتنبؤات جونثان أندر التي سنميط عنها اللثام في الأسطر القادمة.
1- نقد أندر لواقع القرن العشريين:
جونثان أندر(1902-1992م): فيلسوف ألماني، كان تلميذا لفيلسوف آخر هو “مارتن هايدغر”، وزوجا لفيلسوفة السياسة “حنة أرندت”، عاصر مجموعة من الكوارث الكبرى في القرن ال20 التي كانت التكنولوجيا عاملا أساسيا في حدوثها، عمل جونثان في صناعة السينما الهوليودية ككاتب سيناريوهات في معظم الأحيان وفي هذه الفترة لاحظ الصعود الدراماتيكي لثقافة المستهلك، ما جعله يسرع في بسط آرائه التي تبرز أثر التكنولوجيا وهيمنتها على كل جوانب النشاط الإنساني: التسليع، الاغتراب عن العالم، تجريد الإنسان من إنسانيته، كمثال لهذا التجريد نجد أن قائد الطائرة التي قامت بإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما “كلود إيذرلي” يقول إنه لم يكن يشعر بأي بغضاء تجاه اليابانيين وأنه كان متورطا بلا مبالاة تامة في واحدة من أكثر أفعال الحرب العالمية الثانية وحشية.
شرع أندر في تناول التحديات التي تواجهها الإنسانية ومهددات وجودها بعيدا عن الأسلوب الأكاديمي لأستاذيه “إدموند هوسرل” و”مارتن هايدغر” معتمدا على أسلوب سهل المنال في اللغة الفلسفية، يمكننا اختزال أطروحته في أن كل الكوارث التي أصابت العالم في القرن العشريين – كإلقاء الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة النووية على هيروشيما وناجاساكي عام 1945، انفجر المفعل النووي تشيرنوبل في أكرانيا عام 1986- أصبحت ممكنة بسبب تقدم العلم والتكنولوجيا، التقدم الذي أوصل وجود عالمنا ذاته إلى خطر التهلكة، فقبل اكتشاف الطاقة النووية لم تكن هناك إمكانية لتدمير العالم قاطبة مهما بلغت حروب الدول مع بعضها من دموية. ربما الجذور الأولى لأفكار أندر تعود للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في القرن 18 خاصة في مؤلفه “خطاب عن العلوم والفنون”، و”خطاب في أصل التفاوت وأسسه بين البشر” إذ يقول في هذا الأخير، (( فيقينا أن المتوحش المريض والمتروك وحيدا لنفسه – وان كان لا يأمل في خير إلا ما اتاه من الطبيعة – بالمقابل، لا يخشى بأسا إلا ما أتاه منها كذلك، وهذا ما يجعل حاله مفضلة عن حالنا ))[1] يشير ابن الساعي بقوله هذا إلى أن الطبيعة كانت تتكفل بالإنسان في حالته البدائية فكل الآفات والشرور التي كانت تصيبه يمكنه حلها وتجاوزها، لكنه عندما اختار الاستقلال والتقدم بالانتقال من الحالة الطبيعية الى المدينة، أصبح أعزلا في مواجهة شرور ومشاكل تفوق قدراته، مثلا: الأوبئة، تلوث البيئة، فوفق تقرير “منظمة الصحة العالمية” ((WHO 2014 هناك 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنويا نتيجة استنشاق الناس جسيمات صغيرة جدا لدرجة أنها تخترق الرئة ومجرى الدم، مما يؤدي إلى تزايد انتشار أمراض القلب والشرايين وأمراض الجهاز التنفسي، إضافة إلى مشكلة الاحتباس الحراري، وثقب الأوزون…
بالعودة إلى أندر نجد أنه يعتقد بأن بدخولنا في العصر النووي انتهى زمن السياسة، (وأن كوارث القرن الـ20 نتيجة منطقية لعملية خبيثة تستهدف استعباد الجنس البشري) فالكارثة الحقيقية التي آمل أن تكون مرئية للجميع تكمن في تحول الحالة الإنسانية، وهو التحول الذي أصبح مقبولا وغير محسوس بقدر ما كان مدمرا، وقد جادل بأن القنبلة النووية هي العلامة النهائية على قوة غامضة ومقلقة ومخيفة موجهة بواسطة أهداف تكنولوجية، فكلما كبرت قوانا التكنولوجية نصبح نحن أكثر ضالة، وهذه هي المفارقة PARADOXالتي يجب أن ننتبه إليها.
2- التكنولوجيا وصناعة العوالم الجاهزة:
لا ننكر أن التكنولوجيا سهلت الحياة وأفادت الإنسان في عدة مجالات ومكنته من اختصار الوقت والمسافات، لكن سرعان ما تحولت من وسيلة للرفاهية إلى ضرورة تفرض نفسها في حيواتنا، ما أدى بشكل تدريجي إلى اغتراب الإنسان عن عالمه، وجعله مهددا بالغرق إن لم يواكب هذا التقدم التكنولوجي الرهيب.
يقدم أندر لائحة اتهام قاسية للواقع التكنولوجي الاستهلاكي المعاصر(نموذج العمل الحديث) الذي يجعل العامل يفقد رؤية المنتج النهائي بسبب التقسيم التقني المتطرف للعمل وسلاسله التجريدية، وهذا أحد أبرز مظاهر الاغتراب.
قلصت التكنولوجيا آفاقنا الاختيارية، لتقدم لنا عوالم جاهزة، بواسطة الإعلام (الراديو، التلفزيون،…) فأصبح العالم كـ”شبح”، أخفي بوفرة المنتجات الصناعية، يقول أندر))لا شيء يجعلنا غرباء عن أنفسنا أو يجعل العالم غريبا عنا بشكل فادح أكثر من إنفاق حياتنا، بشكل مستمر تقريبا الآن، بصحبة هذه الكائنات الحميمة المخادعة، هؤلاء العبيد الأشباح الذين ندخلهم إلى غرف معيشتنا))[2] فغدونا مجرد تروس في آلة ضخمة تختزل كل أبعاد الوجود الإنساني في صفتين: إنسان عامل(مساهم في الانتاج)، وإنسان مستهلك(يشتري المنتج).
هكذا أصبحنا آلات لمجتمع استهلاكي بالكامل، غايته زيادة الانتاج واستغلال الطبيعة بأكبر قدر ممكن، ما جعل الملايين من البشر سلبيين، مجردين من التفكير والمسؤولية، يؤدون مهام بلا فهم بطرق آلية بحته، وعليه لا يجب أن يفهم التقدم التكنولوجي بوصفه تقدم الجنس البشري، الأن الإنسان اليوم وجد نفسه مجندا لإنتاج اختفائه.
تبدو تنبؤات أندر مخيفة حيث أدركت قبل ما يقارب الثلاثين عاما كيف جاءت الأجهزة والآلات لتغزوا أفكارنا ومناقشاتنا وعلاقاتنا، وهو ما يصيب حرية الإنسان واستقلاليته في مقتل، فبدل تنوير الإنسان أدى التقدم التكنولوجي إلى ترسيخ تقادمه ووضعه خارج التاريخ. إن الكارثة في هذا الوضع الشاذ على كل الحضارات البشرية، هي أننا لا نزال سلبيين في مواجهة هذا التطور الذي يدمرنا ودمر بيئتنا وربما سيدمر مستقبلنا، وهو ما وصفه أندر بقوله: (( نعيش في عصر عدم القدرة على الخوف ))[3] فنحن نلجأ إلى التجاهل والاستهتار في مواجهة احتمال انقراضنا، فهل نملك الحق في الجلوس متكاسلين؟ هل الجاذبية المهلكة لمستقبلنا… تفويض مطلق بالكسل؟
3- حلول مقترحة لتجاوز هذه الأزمة:
- الاعتماد على ذكريات الكوارث السابقة لدعم صورة الإنسان في ابداعه وبراعته ومسؤوليته، يقول جونثان أندر: ((يجب أن نتدرب على فهم الغيب على أنه الحاضر في كل الأوقات، ونربي الجيل القادم على هذا الفهم وما يتطلبه من معاناة))[4].
- مقاومة إغراء التطبيع مع هذا الوضع، وأن ندافع عن إنسانيتنا وقوتنا بوصفنا أفرادا.
- توسيع حدود التخيل لكي نعيد اكتساب الوعي بالإنسان، وبالنتائج الاجتماعية والأخلاقية لأفعالنا، وأن نتحمل مسؤولية قراراتنا فنحن من طوقنا أنفسنا بأغلال التكنولوجيا ونحن من يجب أن ينزعها، عندئذ فقط يمكن أن نأمل ((الحفاظ على ضميرنا حيا في عصر الآلة))[5].
- ضرورة التمرد والذعر، لتحويل الخوف إلى إلهام وموضوع الاستبصار.
- الاضراب ورفض المشاركة في هذا النظام المستبد، الذي حط من قيمتنا كبشر، وفتت المجتمعات وعرض وجودنا للخطر.
4- مظاهر من طغيان التكنولوجيا على الإنسان:
- مباراة شطرنج بين غاري كاسباروف والحاسوب ديب بلو سنة 1997، لم تكن لعبة شطرنج عادية إذ أدخلت الحاسوب ديب بلو التاريخ بوصفه أول حاسوب يهزم بطلا عالميا في مباراة من ست جولات تحت ضوابط وقت قياسية، كان كاسباروف قد فاز بالجولة الأولى، وخسر الثانية، ثم تعادل في ثلاث الجولات التالية، وعندما انتصر ديب بلو في المباراة الأخيرة، رفض كاسباروف التصديق قائلا إن طريقة لعب الحاسوب كانت أشبه بطريقة لعب البشر منها لطرق الآلة، مشككا في مصداقية مبرمجي الحاسوب، أما المقتنعون بأدائه ، فقد بدا لهم أن الذكاء الاصطناعي قد بلغ مرحلة يتفوق فيها على الذكاء البشري، على الأقل في لعبة طالما اعتبرت أكثر تعقيدا من قدرات الآلة.
- حسب دراسة حديثة بنيت على استطلاع آراء 352 خبيرا في مجال التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي من جامعتي أوكسفورد وييل الأمريكية، وجد أن الذكاء الاصطناعي يحسن قدراته ويثبت ذاته على نحو متزايد في مجالات عديدة سيطر عليها الإنسان تاريخيا، وأن هناك احتمالا بنسبة 50 بالمئة بأن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري في جميع المجالات في غضون 45 عاما، كما من المتوقع أن يكون قادرا على تولي كافة الوظائف البشرية في غضون 120 عاما، مثلا: ترجمة اللغات بحلول 2024، القيادة بحلول عام 2027، العمل بالتجارة عام 2031، كتابة واحد من أفضل الكتب مبيعا بحلول عام 2049، إجراء الجراحات بحلول 2053.
خاتمة:
يمكننا اعتبار مخاوف وتنبؤات “جوناثان أندر” حول التكنولوجيا والمستقبل فرصة للتأمل في واقعنا وما يحمله من مفارقات وتناقضات، أصبحت مقبولة ومسلم بها عند الإنسان دون أن تستفز فكره وملكاته النقدية؛ وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول هذا الاستسلام واللامبالاة الانسانية تجاه مستقبل غامض ومريب لا نستطيع رسم أي ملامح له، إننا حرفيا نعيش في كارثة عدم القدرة على العيش بدون تكنولوجيا، إننا في مرحلة تحور الطبيعة الاجتماعية للجنس البشري للأبد.
[1]– جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق عبد العزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، ط.1، بيروت، 2009. ص..78
[2]– أودري بوروسكي، فيلسوف نهاية العالم، ترجمة حمدي أبو كيلة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الثقافة العالمية، العدد 211، 2022. ص.27.
[3]– المصدر نفسه، ص.29.
[4]– المصدر نفسه، ص.30.
[5]– المصدر نفسه، ص.30.
________
أشرف الغربي: طالب باحث في ماستر(ماجستير) التواصل السياسي والاجتماعي، بالمعهد العالي للإعلام والاتصال – المغرب؛ حاصل على شهادة الإجازة في الفلسفة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
شكرا أشرف على مجهودك. صحيح من مسؤوليات( إنسان اليوم) المغترب عن إنسانيته، أن يحاول جاهدا الخروج من حلقة التقدم التكنولوجي-الذي يتناسب عكسيا مع تقدمه كإنسان- متوجها بذلك نحو الوعي بمخاطر ما يؤول إليه الوضع، كنوع من عملية إسترجاع لدهشة فلسفية في قراءة الواقع سلبنا إياها العصر الحالي.