تقديم:
دأب الإنسان منذ القدم على ربط حياته وسلوكياته بكائنات عليا سامية، بدوافع شتى أبرزها الخوف والحب، مؤكدا بذلك نزوعه إلى “المثال Idéal” الذي يناشد فيه الكمال العصي عن التحقق في الواقع، ويشكل هذا النزوع إلى المطلق ظاهرة إنسانية قديمة لها أبعاد أسطورية ودينية وفلسفية واجتماعية.
لقد انصبت جهود كثير من الباحثين على دراسة الأساطير، لا سيما علماء الإناسة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والفلاسفة، فهي مادة دسمة رسمت ملامح التفكير الإنساني القديم ولازالت تؤثر فيه إلى اليوم؛ تقدم لنا الميثولوجيا تصورات وأنماط من التفكير تعود إلى ثقافات وشعوب قديمة، وعليه ارتأيت أن أخصص هذا المقال للأسطورة عند اليونان؛ فقد شكلت القصائد الأسطورية آنذاك المصدر الأول للمعرفة في المجتمع وأثرت في مختلف الميادين سواء تعلق الأمر بالسياسية أو الاقتصاد أو الثقافة أو الدين، وأبرز النماذج على هذا قصيدة “الإلياذة” لـهوميروس و “الثيوغونيا” لـهزيود هذه الأخيرة التي ستكون بمثابة حجر الزاوية في هذا المقال؛ وهو ما يضعنا أمام العديد من الإشكالات من قبيل:هل يمكننا الحديث عن التفكير الأسطوري كأول مصدر للمعرفة بالنسبة للإنسان؟ كيف فسرت الأسطورة معضلة أصل العالم؟ وهل سيشكل ظهور الفكر العقلاني طلاقا تاما مع الفكر الأسطوري؟ وإلى أي مدى ساهم الفلاسفة الطبيعيون في تجسير الهوة الشاسعة بين عالم الآلهة وعالم البشر؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، وجب أولا تعريف مفهوم الأسطورة لتمييزه عن باقي الحكايات والسرديات رغم صعوبة الأمر:
- تتفق جل المعاجم العربية كـلسان العرب والمعجم الوسيط والصحاح: على أن مصطلح الأساطير مرادف للأباطيل، أي الأحاديث التي لا نظام لها أو الأحاديث العجيبة[1].
- يقدم معجم Le grand Larousse مجموعة من التعاريف لمصطلح Mythe من بينها: تصور ما عن حدث أو شخص كان له وجود تاريخي، ولكن تدخل الخيال الشعبي أو التراث قد غير إلى حد كبير من صفاته الواقعية؛ تقديم تصور مثالي عن حالة معينة من حالات البشرية في الماضي؛ ما هو خيالي صرف وعار عن كل حقيقة[2].
- كلود ليفي شتراوس Claude Levi Strauss: جوهر الأسطورة لا يوجد في الأسلوب، ولا في طريقة السرد ولا في التركيب، ولكن في الحكاية التي تحكيها الأسطورة[3].
- ميرسيا إلياد Micea Eliade: الأسطورة تحكي حكاية قدسية، إنها تحكي حدثا وقع في الزمن الأول، زمن “البدايات” الخارق، وبعبارة أخرى الأسطورة تحكي – بفضل منجزات الكائنات الخارقة – كيف أن واقعا ما جاء إلى الوجود، سواء كان واقعا كليا: الكون، أو مجرد جزء: جزيرة أو نوع نباتي أو تصرف إنساني أو مؤسسة. إنها دائما حكاية “خلق” تحمل إلينا كيف حدث شيء ما أو كيف بدأ وجوده[4]…
- جورج بلانديي Georges Balandier: الأسطورة تتحدث، في لغتها الخاصة، عن اللبس المجتمعي، وعن الاحتمالية التي تسمه، إنها تنتج عن ذبذبة ضرورية بين الوفاق والمواجهة، وبين النظام والفوضى[5].
- جلبير دوران Gilbert Durand: يرى أن الأسطورة تطرح مجموعة من الأسئلة التي لا يستطيع العلم أن يجيب عنها، من بينها: من أين أتينا؟ ما هو مصيرنا بعد الموت؟ لماذا العالم ونظام العالم[6]؟
نستشف من خلال هذه التعاريف أولا أن المعاجم العربية بسطت أو بالأحرى سطحت مفهوم الأسطورة فأفقدته بذلك أبعاده الفلسفية والتاريخية والسوسيولوجية التي ساهمة في صناعة الحضارات الإنسانية، وهو الخطأ الابستيمولوجي الذي لم تقع فيه المعاجم الغربية، الأمر الذي عكسته التعاريف التي قدمها الفلاسفة والعلماء المذكورون سابقا، إذ اتسمت بعمق أكبر وقاربت الأسطورة كمفهوم دينامي يعكس تطور نمط تفكير الإنسان، و إذا أردنا ضبط المشترك بين كل هذه التعاريف يصح القول أنها تتفق على أن الأسطورة حكاية مقدسة حاولت الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المؤرقة والعصية عن الفهم في العصور القديمة.
1- الثيوغونياThéogonie : من الكاووس Chaos إلى الكوصموص Cosmos
الثيوغونيا Théogonie لفظ مركب من شقين: Théos وتعني إله، و gonie التي تدل على التكون والنشأة؛ وبذلك يدل المفهوم على القصة التي تخبرنا عن كيفية توالد الآلهة جيلا بعد جيل، وعن حكاية نشوء الكون انطلاقا من صراعاتهم وحروبهم، أيضا عن مميزاتهم ووظائفهم التي ستنقل الكون من الكاووس chaos الذي يعني حالة من الفوضى والاضطراب التام، خليط لا شيء فيه يتميز عن شيء، نحو الكوصموص cosmos الذي يدل على مكان يسود فيه التناغم والنظام والجمال.
البداية كانت مجرد كاووس لتظهر فجأة الإلهة غايا Gaia الأرض وهي أنثى وحيدة، تحتوي بداخلها على سجن رهيب اسمه تارتاروس Tartareيتميز بالعفونة والظلام الحالك الذي سيكون منفى للآلهة المهزومة في الحرب؛ بفضل طاقة الحب Eros ستنجب غايا بدون زوج[7]:
بونتوس Pontos: ماء البحر المالح؛ أوريا Ouréa: الجبال التي يزين الثلج الأبيض قممها؛ أورانوس Ouranos: السماء المرصعة بالنجوم النظير السماوي للأرض، ذكر يماثل غايا في القد والامتداد؛ وما إن تلده حتى يلتصق بها ولا يكف عن مضاجعتها طرفة عين. أدى هذا الاتحاد الجنسي بين أول زوجين في الكون، إلى تضخم رحم غايا بثلاثة أنواع من النسل الإلهي:
- التيتان Titants: ستة ذكورست إناث، يتمتعون بالقوة والجمال ويحبون الحرب.
- السيكلوب Cyclopes: وهم ثلاثة، يمتلك كل واحد منهم عينا كبيرة واحدة تتوسط الجبهة، ويتمتعون بقوة استثنائية: الصاعقة والرعد والبرق.
- ذوو المائة ذراع Hécatonchires: وهم ثلاثة، لكل واحد منهم خمسون رأسا ومائة ذراع تبطش بطشا مرعبا.
كان أورانوس خائفا من ثورة أبنائه عليه وتجريده من سلطانه، لأنه يعي القوة الكبيرة التي يمتلكونها، لذلك أبى أن يفارق غايا، فكان بصنيعه هذا يحبس أبناءه في أحشاء الأرض وعلى حواف تارتاروس، لتبدأ غايا بوسوسة أبنائها طالبة منهم الثورة على أبيهم، فاستجاب لها أصغر التيتان كرونوس الداهية الماكر، فزودته أمه بمنجل حاد؛ ومن هنا انتظر كرونوس فرصة مضاجعة أورانوس لـ غايا، فأمسك بيده اليسرى العضو الذكري لأبيه وبتره بضربة واحدة، ثم طوح به بعيدا والدماء تسيل منه، من فرط الألم راح أورانوس يتلوى ويبتعد صاعدا نحو الأعالي مشكلا على نحو ما سقفا للعالم، ومن دم عضوه المبثور المتساقط على الأرض ستولد ربات الشقاق والانتقام والكراهية les érineyes، والجبابرة les Géants الذين يخرجون من الارض مسلحين ومتعطشين لخوض الحروب وارتكاب المذابح، سقط العضو المبتور في البحر لتولد أفروديت Aphrodite أجمل الربات، إلهة الحب والعذوبة والغنج والإغواء (يرافقها دائما إيروس صاحب القوس والسهام، وإيميروس الرغبة التي تسبق الحب والجنس).
الآن انطلق التاريخ وأصبح من الممكن للآلهة أن يتزوجوا وينجبوا لتتعاقب الأجيال وتتجدد، فيخلي الآباء المكان لأبنائهم، وقد أدرك كرونوس خطورة هذا الوضع، كيف لا بعدما صب عليه أورانوس اللعنات، وأنبأته أمه بأن أحد أبنائه سوف يصنع به ما صنعه بأبيه، وسوف يجرده من سلطانه. وعليه سيقرر كرونوس ترك السيكلوب و ذوو المائة ذراع محبوسين في تارتاروس لأن قوتهم مصدر تهديد، ثم اتخذ من أخته ريا زوجة له، لكن كلما أنجبت ابتلع المولود بغية إلغاء الزمن والتاريخ حتى لا يتغير شيء، فابتلع الداهية هيستيا Hestia، وديميتير Déméter، وهيرا Héra، وبوزيدون Poséidon، لكن زوسZeus سيفلتمن هذا المصير. إذ ضاقت ريا ذرعا من سلوك كرونوس، واتفقت مع غايا على إنقاذ وليدها، من خلال التحايل على الداهية بإعطائه حجرا ملفوفا في قماط على أنه الابن، وهكذا نجا من الابتلاع وعاش إلى أن اشتد عوده، وقرر مواجهة الأب المستبد؛ أول خطوة قبل الحرب كانت حيلة أخرى ستنطلي على كرونوس بإعطائه عقار الفارماكون الذي سيجعله يلفظ أبناءه الذين ابتلعهم[8].
هكذا نشبت حرب طاحنة بين معسكرين: “معسكر التيتان” (آلهة الجيل الأول)، بقيادة كرونوس، و”معسكر الأولمبيين”، (آلهة الجيل الثاني)، إضافة لذوي المائة ذراع وسيكلوب، بقيادة زيوس؛ امتد القتال لعشرات الآلاف من الأعوام لينتصر في النهاية زوس الذي حبس المهزومين بسجن تارتاروس. ولكي لا يلاقي نفس مصير والده وجده، ابتلع زوجته ميتيس Métis ربة الحيلة والذكاء لكي يحصل على صفاتها، وبهذا أصبح حكيما إضافة لقوته، الأمر الذي سيجعله يسلك مسلك الحكمة والتشاور بدل الظلم والاستبداد، فتزوج بالإلهة العدل ثيميس Thémis لتعينه في هذه المهمة (أنجب منها: ربة القانون، ربة التوزيع المنصف، ربات القدر). هكذا انتقل العالم من الكاووس إلى الكوصموص، بالقوة والحيلة ربح زيوس الحرب وبفضل العدل والتقسيم العادل للامتيازات سيحافظ على النصر والنظام (أعطى لكل اله دورا في الكوصموص). لكن الحكاية لن تنتهي هنا إذ سيظهر مخلوق أنجبته غايا وتارتاروس هو ثيفون Thyphon (مسخ رهيب له مائة رأس من الأفاعي) الذي سيهدد النظام من جديد بدخوله في حرب ضارية مع زوس ستنتهي بانتصار هذا الأخير، غير أنه سيبقى شيء من هذا المخلوق الشرير في الأرض[9].
تحليل الأسطورة:
- تعاقب الأجيال: الثيوغونيا حكاية لانتقال السلطة عبر أٍربعة أجيال، لتستقر في يد زوس؛ لأنه لم يرتكز في حكمه على السلطة الفجة بل على العدل. هي حكاية مليئة بالكراهية والغضب والخيانة من قبل الزوجات والأبناء.
- الذكور يخضعون الإناث: الثيوغونيا حكاية انتصارات الآلهة الذكور التي تتخللها حيل وخيانات الإناث، فعلى الرغم من أن الذكور هم من يحكمون إلا أن مكائد الإناث كانت تدمر الحكم في كل مرة، قبل أن يرسي زوس نظاما قارا سيطرة الذكور فيه غير مهددة.
2– نمط التفكير: من الميثوس إلى اللوغوس
كانت الثيوغونيا تمثل ثقافة العالم اليوناني، حيث كانت تنشد حكايتها في المناسبات والاحتفالات، لكن مع مطلع القرن 6 قبل الميلاد ظهرت المدرسة الأيونية التي دشنت نمطا جديدا من التفكير مع طاليس وتلامذته أنكسيماندرس وأنكسيمانس، الذين حاولوا رفع التقديس عن التفكير والمعرفة محققين بذلك أول خطوة نحو العقلانية؛ فقد اعتقدوا أن الطبيعة واحدة ولا شيء خارجها، ظواهرها متكررة في كل زمان ومكان، دون تدخل الآلهة الذين كانوا مقرونين بنظام الطبيعة وبكل ما يجري في المجتمع.
لفهم هذه الطفرة لا بد من ربطها بالسياق الثقافي السائد حينها، فإذا كان التعليم والثقافة شفهيان في إطار الميثوس ينقلان المخزون المعرفي عبر الحكايات الأسطورية في قالب أناشيد شعرية، فالمدرسة الأيونية عبرت عن أفكارها كتابيا في نصوص نثرية، إضافة إلى اتخاذها العالم كموضوع ومحاولة تفسيره بالاعتماد على مبادئ عقلية تعلل الظواهر الملحوظة بهدف فهم نظام الطبيعة الفيزيس Phusis ؛ وعليه يصح القول أن هذه المدرسة جعلت الطبيعة تأخذ مكان الآلهة، بتقديمها نظريات Théoria، قائمة على التفسير والملاحظة؛ جاءت كالآتي:
طاليس: رد أصل الكون إلى الماء، أنكسيمانس: رد أصل الكون إلى الهواء، أنكسيماندرس: رد أصل الكون إلى اللامحدود (الأبيرون).
اختلف الباحثون في تعيير القيمة المعرفية لهذه الأطاريح الثلاثة، فقد اعتبر البعض أنها ستشكل قطيعة ابستيمولوجية مع الماضي وهو ما عبر عنه Brunet Jhon بقوله: »فتح الفلاسفة الأيونيون الطريق الذي لم يعد على العلم سوى اتباعه« [10]؛ فيما رفض F. M. Conford هذا الموقف مؤكدا على أن الفلسفة في بداياتها الأولى ظلت أقرب إلى الأسطورة منها إلى النظرية العلمية، وأن الفيزياء الأيونية ليس لديها شيء مشترك لا في إلهامها ولا في طرائقها مع ما نسميه نحن علما، فهي تحاول الإجابة عن السؤال نفسه الذي عالجته الأسطورة، ووراء العناصر الطبيعية التي استعملتها تختفي أولوهيات قديمة من الميثولوجيا؛ يدعم موقفه هذا بعقده لمقارنة بين قصيدة هيزيود Hésiode وفلسفة أنكسيماندرس[11].
- الثيوغونيا: انطلقت من الكاووس، لتظهر فيما بعد الآلهة ومن خلال توالدهم وحروبهم سيتشكل العالم وسنصل إلى حالة النظام أو الكوصموص.
أنكسيماندرس: انطلق من اللامحدود (الأبيرون)، ومن هذا المكون انبثقت بواسطة العزل والتمايز التدريجيين، أزواج متناقضة كالمظلم والمضيء، والحار والبارد وغيرها، ومن هذا ظهرت حقائق ومقاطعات مختلفة السماء الساطعة والأرض الجافة والبحر الرطب… وعبر انفصال واختلاط هذه المتناقضات تنتج ظواهر مثل الولادة والموت التي تصيب كل ما يحيا من نبات وحيوان وإنسان.
يؤكد جان بير فيرنان Jean-Pierre vernant (1914-2007م) في الفصل السابع من “كتاب أصول الفكر اليوناني” على التشابهات التي أشار إليها كورنفود، لكنه لا يعتبرها حجة على أن الفلسفة في نشأتها الأولى كانت مجرد صيغة جديدة للحكايات الأسطورية؛ فوراء استعمال المصطلحات الدنيوية في نظره يكمن موقف ذهني جديد ومناخ فكري مختلف، جعل العالم ونظامه إشكالا يتطلب تقديم حلول بصدده، من دون أسرار وعلنا مثلما تناقش أية مشكلة سياسية في الساحة العمومية، وعليه فقد أحدث الفلاسفة الطبيعيون نقلة ستقطع مع الثقافة السائدة قبلهم، إذ لم يعد الأمر يتعلق بسرد قصص الآلهة بل السعي إلى تقديم تفسير للعالم اعتمادا على العقل لا على الإيمان بما جاء في الأساطير.
ثمة حسب فيرنان توازي بين الانتقال من الأسطورة إلى التفكير العقلاني وبين التحول الذي أدى إلى اختفاء الأنظمة الملكية مع سقوط الامبراطورية المسينية التي كانت تعطي للملك سيادة على كل شيء وسيطرة على كل الميادين، وميلاد الدولة المدينة Polis؛ حيث اتخذت المدينة شكل هندسي مركزه الأغورة Agora، في هذا المركز تنتصب المؤسسات السياسية وتناقش قضايا الشأن العام، حيث الكل متساوي أمام القانون وله الحق في إبداء رأيه. في إطار هذا النموذج الجديد ظهرت القدرة على الاقناع بالحجة والبرهان لترجيح الرأي واقناع الجمهور، وعليه فيصح القول أن الفلسفة قد انبثقت من رحم الممارسة السياسية.
خاتمة:
لقد كانت الأسطورة لحظة من لحظات تطور الفكر البشري، ولا يمكننا تجاهل الدور الثقافي والسياسي والديني الذي لعبته في المجتمعات القديمة، فرغم أنها كانت مجرد سرديات أنتجها شعراء لديهم مخيلة مبدعة، إلا أنها ساهمت في تنظيم المجتمع وملء الفراغ المعرفي عند الإنسان من خلال تقديم تفسيرات سحرية لما يجري في الطبيعة، وصناعة تاريخ مقدس للعالم الذي يعيش فيه دون أن يعلم عنه شيئا، إضافة لتأثيرها في النظام السياسي سواء عندما مركزت السلطة في يد ملك إله أو عندما مهدت لتوزيع السلط حسب الاختصاصات، باختصار لقد كان العالم الواقعي مرآة تعكس ما حدث أو يحدث في عالم الآلهة، إلى أن ظهرت الارهاصات الأولى للفكر الفلسفي مع طاليس وتلاميذه الذين قلبوا المعادلة رأسا على عقب» بالنسبة للفكر الخرافي، كانت التجربة اليومية تكتسب وضوحا وتأخذ معنى بالنسبة للأعمال النموذجية التي أنجزتها الآلهة في الآصل. وقد انقلب قطب المقارنة عند الأيونيين. فالأحداث الأولى، والقوى التي أنتجت الكون باتت تدرك على صورة الوقائع التي تلاحظ اليوم وتكشف عن تفسير مماثل[12]« وبدل أن يغير وينير الأصلي وجه ما هو يومي، غدت الوقائع اليومية المتكررة هي التي تؤدي إلى فهم وتفسير نظام العالم.
خطت المدرسة الأيونية بهذا الباراديكم الجديد أول خطوة نحو العولمة، التي تسعى لتجسير الهوة الشاسعة بين عالم الآلهة وعالم البشر، من خلال نزع الأسطرة عن الكون ودنيوة الظواهر الطبيعية، بالبحث عن تفسيرات لها من العالم الفيزيقي السرمدي، الأمر الذي كان من شأنه أن يحفز العقل البشري على المضي في طريق العلم.
[1]– يونس لوليدي، الأسطورة بين الثقافة الغربية و الثقافة الإسلامية، انفو برانت، ط.1، فاس، 1996. ص: 1-2.
[2]– المصدر نفسه، ص: 2-3.
[3]– المصدر نفسه، ص: 7.
[4]– المصدر نفسه، ص: 9.
[5]– المصدر نفسه، ص: 10.
[6]– المصدر نفسه، ص: 10.
[7]– VERNANT, J.-P. (2003). Les origines de la philosophie.
[8]– المصدر نفسه.
[9]– المصدر نفسه.
[10]– جان بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر و التوزيع، ط.1، 1987، بيروت. ص: 92.
[11]– المصدر نفسه، ص: 93.
[12]– المصدر نفسه، ص: 92.
_________
_________
أشرف الغربي، طالب باحث في ماستر(ماجستير) التواصل السياسي والاجتماعي، بالمعهد العالي للإعلام والاتصال – المغرب؛ حاصل على شهادة الإجازة في الفلسفة.
التعليقات:
Comments are closed.
جيد جدا، دمت متألق كما عهدناك.
مشكور صديقي محمد