لسرد وقائع التاريخ ولع لدى كثيرين، وشغف أيضا لاسيما إذا تعلق الحدث التاريخي بماضٍ يبدو مشرفا لعقود طويلة وبعيدة، هكذا تبدو حركة الضباط الأحرار التي قامت لإجلاء الاحتلال الإنجليزي من مصر وإنهاء حكم الملك فاروق الأول، وكلمة الحركة مفهوم عسكري يرتبط بالعسكرية والجندية والتخطيط الاستراتيجي للمعارك والمواجهات المسلحة، المصطلح الذي سرعان ما تغير اسمه ودلالته إلى كلمة ثورة التي أطلقها على الحركة عميد الأدب العربي صاحب الأيام الدكتور طه حسين؛ وقتما انضمت جموع الشعب المصري إلى حركة هؤلاء الضباط الشباب الأحرار بالفعل والذي تزعمهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية العربية المتحدة آنذاك.
وربما طه حسين في إطلاقه لكلمة ثورة بدا متأثرا كثيرا وليس بعض التأثر للثورة الفرنسية وتغلغل الثقافة الفرنسية في ثنايا تكوينه وتأصيله الفكري وربما أيضا أراد وهو صاحب العبارة الأكثر شهرة في القرن العشرين “التعليم كالماء والهواء” حينما طالب بمجانية التعليم دون التطرق الآن لما فعلت الثورة بالتعليم وما صار إليه راهن تعليمنا الآن ! لكن في صياغته لكلمة ثورة وعبارته ذائعة الصيت كان يحمل مشروعا استشرافيا للتنوير وتثوير الثقافة العربية. الأمر الذي تجسد بعد ذلك في تحقيق التوزيع الديموقراطي العادل للثقافة، وتعويض المناطق التي كانت محرومة من جني الإبداع دون التطرق مطلقا إلى يوليو من حيث نكبتها أو نكستها، أو من حيث تجاوزاتها التي تم تسجيلها أيضا في الأعمال الأدبية التي صارت خالدة إلى اليوم.
والمشهد الذي بين يدينا ونحن نسطر بعض الحروف والكلمات في ذكرى الاحتفال بثورة الثالث والعشرين من يوليو ما يعنيني قضية الأدب والسياسة لا أكثر لا أقل، وهذه العلاقة يمكن توصيفها من زوايا ثلاث؛ علاقات ملتبسة، ومساحات شائكة، ومغامرات أدبية غير محسوبة. رغم أن ثورة يوليو 1952 راهنت على الثقافة كسلاح ناجز من حيث توجيه الوعي القومي للجماهير في وقت باتت فيه الثقافة عموما والأدب الفني من رواية وقصة ومسرحية وقصيدة ملمحا من ملامح الوطن، وأسلوب حياة لا يمكن التغافل عن شهوده الحضاري في وقته وحينه.
لكن من خلال استقراء العلاقة بين الأدب والسياسة يمكننا اقتناص نقطة التصالح بينهما؛ تحقيق الأمن الفكري الذي يعني إحساس المجتمع بأن أفكاره وأخلاقه وقيمه ليست مهددة من طرف داخل أو خارجي، أو تهديده من فكر وافد خبيث. من هنا تم الالتقاء بين نقيضين من أجل السعي نحو تحقيق الطمأنينة وسلامة الفكر والفكرة أيضا، وسلامة الاعتقاد الشعبي، وحينما لجأت السياسة آنذاك للأدب فهي كانت على وعي بالرهان على التاريخ لأن الأعمال الأدبية تظل خالدة بإعادة طباعتها ورواجها اللامحدود بين القراء ومن ثم تجاوز فعل القراءة إلى جموح المشاهدة عبر شاشات السينما، وهذا ما يمكن وصفه بقانون الهيمنة على الوعي الجمعي.
لكن، يظل الأدب رغم هروبه من مباشرة التوثيق التاريخي أصدق قليلا من تأريخ الحدث نفسه لاسيما في مساحة التوثيق والتأويل والتفسير عبر زوايا إبداعية رغم كل محاولات أي نظام حاكم بائد أم قائم بفرض الوصاية والولاية على عملية الإبداع، من أجل هذا كان الأدب هو التأريخ الخالد للعصور السياسية المنصرمة. ومن هنا يمكننا القول بأن الأدب وأهله ساهم بشكل كبير في توثيق ملامح ثورة 23 يوليو سنة 1952.
ليس هذا فحسب، بل إن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أعلن أكثر من مرة أن رواية المفكر والأديب الشاهق توفيق الحكيم ( عودة الروح ) التي استهدفت عرض فكرة عودة الروح لمصر بعد قرون من الضياع، وفكرة قيادة مصر لكي تعود لممارسة دورها الحضاري. كذلك رواية العميد نجيب محفوظ أوبرا الحكايات ومقهى الحكي في روايته الجميلة (بداية ونهاية ) والتي نشرت عام 1949 والتي رصد فيها بعبقريته السردية والحوارية أيضا أوضاع المجتمع الملكي وظلم الطبقات، لكن يظل نجيب محفوظ حالة خاصة جدا في موافقه السياسية تجاه ثورة يوليو وربما هذا الاستثناء الأدبي له ضمن عشرات المبدعين هو الذي جعله بمنأى عن منافسة الحصول على رضا السلطات لعقود طويلة.
وبحق، تظل العلاقة بين يوليو الثورة والأدب مرحلة معقدة سياسيا ومعقدة أدبيا أيضا؛ لاختلاف الشهادات والنصوص وتباينها، وخير مثال على ذلك توفيق الحكيم نفسه الذي أشار جمال عبد الناصر أنه أحد أصحاب فكرة الثورة والرمز التاريخي لها قبل اشتعالها بسنوات، فكتب قبل الثورة روايته ( عودة الروح ) في 1933، ثم تبعها برواية ( الصفقة ) في عام 1956 التي تناولت كفاح الفلاحين حتى حصولهم على حقوقهم كاملة وإص\دار قانون الإصلاح الزراعي، وبعد ذلك جاءت روايته ( الأيدي الناعمة ) التي تناولت قيمة العمل واختلاف البعد الاجتماعي للمواطن عقب الثورة المصرية، لكن في عام 1960 فاجأنا توفيق الحكيم بنقد ثورة يوليو مسار الحدث وليس الفكرة نفسها حينما قدم للقارئ العربي مسرحيته ( السلطان الحائر ) التي شهدت أحداثها حيرة الحاكم بين مزاعم الديموقراطية وشهودها، والقانون الحاكم للجميع، والقوة الغاشمة وتفاصيلها شديدة الشراسة.
لذلك يمكننا تفسير العلاقة بين الثورة والرواية من زاويتين؛ الأولى زاوية التوثيق، والأخرى زاوية تتبع المسار. أما الزاوية الأولى ( التوثيق ) في ثمة شهادات أدبية لأصحابها تم رصدها في سياق فني روائي، من مثل روايات ( في بيتنا رجل ) لإحسان عبد القدوس، و (صح النوم ) ليحيى حقي، و ( رد قلبي ) ليوسف السباعي، و ( غروب وشروق) لجمال حماد، فسمحت الثورة لهؤلاء الأدباء تسجيل شهاداتهم التاريخية عبر قناة أدبية وهي الرواية وتم تجسيدها فيما بعد من خلال السينما.
لكن هل تخلى المبدعون عن سماتهم الفنية الاستثنائية التي تميزوا بها؟ هنا نلجأ إلى عبارة إحسان عبد القدوس الشهيرة: ” حبك الأول هو حبك الأخير “، لم يستطع كل من إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي التخلي عن مزيتهم الرئيسة في الفن الروائي لاسيما وأنهما من رموز الرواية الإنسانية الرومانسية، فكلاهما صبغا رواية الثورة بخيط رومانسي يعطيها فكرة موازية هي حب الوطن بقناع آخر. ربما بخلاف جمال حماد الذي له خلفية عسكرية وخبرة تاريخية طويلة دفعته أن يحاول تقليد إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي في صنيعيهما لكنه بقصة رومانسية بها أقنعة التشفي والمحاكمة غير المباشرة والانتقام بصورة غير شرعية في روايته ( غروب وشروق ).
أما الزاوية الأخرى، زاوية تتبع المسارات، فيمكن إجمالها في روايات ( ثرثرة فوق النيل ) و ( ميرامار ( لنجيب محفوظ، و( نجمة أغسطس ) و ( تلك الرائحة ) لصنع الله إبراهيم، و( القضبان ) لمحمد جلال، و ( شئ من الخوف ) لثروت أباظة، وجميعها رصدت مسارات الديموقراطية التائهة ونقد اتجاه المسار الثوري وقت تدشينه وصور الانتهاكات ضد العدالة الاجتماعية الإنسانية. فتحولت الرواية العربية إلى قضية وعي بقدر ما كانت تشكل دراما سياسية، بل استحالت الرواية المصرية منذ بزوغ ثورة يوليو 1952 وحتى نهايات الستينيات من القرن العشرين جزءا أصيلا من تصدير المشهد السياسي لعقل المواطن، فتعقدت العلاقة مجددا بين الأدب والسياسة في ظل صراع الأدمغة والحرب من أجل احتلال العقول.
وفي سياق الزاوية الأولى التي اهتمت برصد وتوثيق المشهد الثوري، نجد حراكا مسرحيا استثنائيا لم يتكرر بعد حتى لحظة الكتابة الراهنة، حتى أعدت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين العصر الذهبي للمسرح المصري، ورصدها آخرون بقولهم تاريخ المسرح الحقيقي؛ حيث كان البطل هو النص المسرحي لا الممثل، وباتت الفكرة المسرحية هي الحدث لا السيناريو أو الحوار بين الممثلين. فكانت ثمة أصوات مسرحية واعدة؛ عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة وألفريد فرج، وبزغت أيقونات مسرحية خالدة مثل على جناح التبريزي وتابعه قفة، والسبنسة، وكبري الناموس، والناس اللي تحت، وسقوط فرعون.
ولا يمكننا ختم السطور الراهنة دون إشارة سريعة لما أحدثه صلاح عبد الصبور في المسرح الشعري العربي بدءا من رائعته ( مأساة الحلاج ) في 1966 والتي كانت بمثابة نبوءة لنكبة يونيو 1967، وكان بذاته كما وصفه النقاد الصوت الشعري الوحيد خارج السرب، و مسرحية ( مسافر ليل ) التي تنتمي لمسرح الكوميديا السوداء والتي تناول فيها صور الصراع الخفي والمعلن أيضا بين و السلطة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية والدينية محاولاً تسليط الضوء على احتدام الصراع بين الإنسان والمجتمع، و الإنسان والسلطة.
أما أبرز الحضور الأدبي وشهوده المثير بل الأكثر إثارة لتأثير الحركة الثورية في يوليو 1952 هو الصوت الشعري والمسرحي الاستثنائي الذي لا يمكن الفكاك من شراكه أو أسره أو اقتناص اسمه على سبيل التغافل؛ نجيب سرور !
______
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل: أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية.ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.