بينما نشرع في الإجابة على السؤال ذي الصبغة الفلسفية والمتعلق بالتفاعل الغامض بين متغيري الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، نجد جدلاً معقداً من وجهات النظر المتعددة والأدلة التجريبية والتأملات الفلسفية. إن العلاقة المعقدة التي تربط هذه المتغيرات، بجوانبها العديدة وحالة التدفق المستمرة تتطلب تفكيرًا عميقًا وتدقيقًا علميًا كالتفاعل بين الخير والشر، النور والظلام. فيُعتقد أن الديمقراطية تخلق الاندماج والمسؤولية والاستقرار لأنها تستند إلى قيم عميقة مثل الحُكم التشاركي والمساءلة الشاملة والاستقرار المجتمعي.[1] بعبارة أخرى، إنها تخلق بيئة مواتية للنمو الاقتصادي مع تشكيل سمات الأنظمة الديمقراطية. وبالتوازي مع ذلك، فإن التنمية الاقتصادية لها قوة هائلة، فتؤثر على المؤسسات السياسية وعلاقات القوة والقيم الاجتماعية. وهي مدفوعة بأهداف طموحة للتوسع الاقتصادي والتحسينات التكنولوجية والتصنيع. ومن ثم، فإن الترابط بين هذه العوامل وتأثيرها المتبادل يثير التناقضات والتآزر الذي يُلهم النقاش الفلسفي في تحديد أي متغير هو الأفضل، لا سيما بالنسبة للدول أو الشعوب المتقدمة بشكل عام أو النامية بشكل خاص. وفي سياق هذا المسعى الفلسفي لفك العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، بالاعتماد على تفاعل معقد من العمليات والظروف والديناميات الأساسية. فالآليات المتشابكة التي تحدد كيف تتقاطع وتتشكل بعضها البعض تلقى الضوء على اللغز الذي يكمن وراء علاقتهما؛ الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تقديم رؤى تؤثر على القرارات الحكومية والمناقشات الفكرية ومع معرفتنا الجماعية بهذه الركائز الأساسية للمجتمع المعاصر الذي نعايشه.
إن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية هدفان محوريان للعديد من الدول، حيث يمكن أن يتشابكا مع بعضهما البعض في أنظمة سياسية ذات مواصفات معينة. ومع ذلك، وفقًا للباحثين الذين تعمقوا في هذه العلاقة، فقد تكون العلاقة مجزأة ولا تخلو من المحاذير في أنظمة أخرى. وفقًا لآدم برزيفورسكي ورؤيته حول الحجة القائلة بأن الديمقراطية تعيش بشكل أفضل في الدول الأكثر ثراءً، فإن الاقتراح القائل بأن الديمقراطية هي نتيجة بسيطة للتنمية الاقتصادية هو أكثر إثارة للشك من جانبه.[2] لذلك، نجد أن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية هي في أحسن الأحوال علاقة واحدة غامضة، تتجلى هذه العلاقة في دول ديمقراطية ذات اقتصادات مرتفعة. وعلى النقيض من ذلك، تلك الدول سريعة النمو التي لا تزال غير ديمقراطية، مثل جمهورية الصين الشعبية التي تعمل بشكل متزايد على رسم مسار نمو وسياسي فريد من نوعه، يرتكز بشكل كبير على فهمها الخاص لتاريخها وقيمها الخاصة.
وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين ثلاث وجهات نظر للعلاقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية.
ينطلق المنظور الأول، من فرضية مفادها أن التنمية الاقتصادية “متغير مستقل”، والديمقراطية “متغير تابع”. وهذا يعني أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق دون توافر شروط أولية معينة لضمان تحقيقها، وهذه الشروط هي (النمو الاقتصادي، التعليم، الصحة، الثقافة العامة) وهذه هي رؤية المدرسة التحديثية التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.[3]
ينطلق المنظور الثاني، من أن الديمقراطية عامل أساسي في تحقيق التنمية الاقتصادية، فالديمقراطية هنا “متغير مستقل”، والتنمية الاقتصادية “متغير تابع”. وقد ساد هذا الطرح منذ نهاية الثمانينيات في القرن الماضي حتى الوقت الراهن، مدعومًا بأطروحات الحُكم الرشيد من قبل مؤسسات ووكالات التنمية الدولية التي اتجهت إلى التركيز على ضرورة تبني الدول، وبالأخص دول العالم النامي، الديمقراطية كنظام حُكم حتى تحقق التنمية الاقتصادية. وهذا في إطار المقاربة الخاصة بتحقيق التنمية البشرية، ومكافحة الفقر، تحت تأثير نظرية الاقتصادي الهندي “أمارتيا سن” كمنظور ثالث يعتبر أن جوهر التنمية هي الحرية. ونتيجة لذلك، فإن الاهتمام بمسألة الحريات والديمقراطية عند أمارتيا سن ليس فقط بسبب كونها وسيلة مهمة لتحقيق التنمية، ولكن لأنها تحمل في طياتها أهمية جوهرية لمفهوم الحرية الإنسانية بشكل عام.
المطلب الأول: التنمية الاقتصادية تؤدي إلى الديمقراطية (المدرسة التحديثية)
تنطلق هذه الرؤية من فرضية مفادها أن الديمقراطية هي الغاية النهائية للتنمية الاقتصادية، وأنها تتحقق مع توفر عدد من الشروط الأولية التي تمثلت في دراسة “سيمور مارتن ليبست” والتي أكد فيها على ضرورة وجود مستويات عالية من التنمية الاقتصادية، تحولات في البنية الطبقية، ظهور طبقة برجوازية، التوسع العمراني، وجود تعليم، وثقافة عامة، وذلك من خلال تطبيقه ومقارنته عن توفر تلك الشروط من عدمه بين دول أوروبا المتقدمة، ودول أمريكا اللاتينية.
وبصفة عامة تُعرَّف عملية التحديث، حسب “رونالد أنجلهاردت”، “كريس ويلزل” على أنها: مجموعة متلازمة من التغيرات الاجتماعية المرتبطة بالتصنيع، والتي تتصل بجميع جوانب الحياة وتعمل في المدى البعيد على التأثير في صنع المؤسسات السياسية الديمقراطية.[4]
بالاتفاق مع نظرية سيمور مارتن ليبست، تناول لاري دايموند التأثير الإيجابي للتنمية الاقتصادية في مجال التحول الديمقراطي من وجهة نظر اجتماعية سلوكية، حيث أكد أنه عندما تصبح دولة ما أكثر ثراءً، وأكثر تصنيعًا، وأكثر تحضرًا، وأفضل تعليمًا، فإن القيم العامة في المجتمع تصبح أكثر ملاءمة للديمقراطية.[5] بالإضافة إلى ذلك، يتمتع الناس بدخل أعلى ويصبحون أكثر إنتاجية: “يصبحون أكثر وعيًا وثقة من الناحية السياسية، وأكثر ميلًا إلى المشاركة في السياسة والتفكير بأنفسهم. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى دراسة أخرى تناولت تلك العلاقة مثل دراسة روبرت دال الذي أوضح أن التعددية كأحد أشكال الديمقراطية هي هدف نهائي لأي عملية تنمية. وبالإضافة إلى ذلك، تناولت دراسة أخرى العلاقة بشكل غير مباشر مثل كارل دويتش الذي ركز على أهمية تعبئة الاجتماعية الناشئة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتي تؤدي بدورها إلى وجود تحولات سياسية، فقد مثل هذه التحولات برأيه لا تحدث دون وجود ما يسمى بالاتصال الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع. فالبناء التدريجي لشبكة هذا الاتصال هو السمة المميزة لما سماه دويتش “بالتعبئة الاجتماعية المؤدية إلى صهر كل فرد ضمن إطار عام سياسي”.
المطلب الثاني: الديمقراطية تؤدي إلى التنمية الاقتصادية
ظهرت هذه المقاربة في الثمانينيات من القرن الماضي مع أتون الحرب الباردة، والتي انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر 1991، وحديث فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ وانتصار القيم الليبرالية على حد وصفه.
هذه المقاربة ترى أن الديمقراطية هي النظام السياسي الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية.[6] وبالتالي، فهي ترفض بشكل كلي افتراضات الرؤية التحديثية من خلال تأكيدها على أن الديمقراطية هي الشرط الأول والحاسم في تحقيق التنمية الاقتصادية وليس العكس. وفي هذا السياق، يرى كل من جوزيف سيجل، ميشيل إنشتاين، مورتون هابرن أن نوعية النظام السياسي لها دور حاسم في التأثير على مستوى الأداء الاقتصادي للدولة، وليس فقط العامل المؤسسي. فالديمقراطية برأيهم بما تمتلكه من خصائص كالمسؤولية، الشفافية، تدفق المعلومات وغيرها تجعلها نظامًا مناسبًا لتحقيق التنمية الاقتصادية. أيضًا، يرى كل من باتريسييو نافيا، توماس زويفل أن النظم الديمقراطية تكون أفضل بكثير من النظم الدكتاتورية في الرعاية الصحية؛ وفقًا لهم وفيات الأطفال في النظم الديمقراطية تكون أقل بكثير من النظم الدكتاتورية.
بالإضافة إلى هؤلاء، يرى جون بول فيتوسي أن المسؤولية، الشفافية، المشاركة في صنع القرار السياسي تمثل متغيرات مهمة في تطوير السوق، والمساهمة في تشكيل وبناء بيئة استثمارية جيدة.
المطلب الثالث: التنمية بوصفها حرية (أمارتيا سن)
يؤكد الاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أمارتيا سن على أهمية جعل الإنسان محورا للعملية التنموية، وكذلك التأكيد على أهمية الديمقراطية. وفقًا له، يمثل مفهوم القدرة؛ أي الإمكانات الحقيقية للفرد، وكذلك البدائل الممكنة من الأعمال التي يمكن للفرد إنجازها، عاملًا مهمًا في تحقيق طموحاته. وعلى هذا الأساس تم التمييز بين القدرة والعمل على أساس أن العمل يمثل مختلف أنماط الحياة الممكنة لدى الفرد، بينما تمثل القدرة مجموعة هذه الأنماط، هذا بالإضافة إلى حرية الاختيار من بين تلك الأنماط. وفي هذا السياق، أشار سن إلى أنه لا ينبغي الحكم على نوعية حياة الأفراد انطلاقًا من أساس الأعمال المنجزة، لأن هذا يجعلنا نركز على المحصلة النهائية التي وصل إليها الأفراد، وليس على العوامل المساعدة “الفرص” التي ساعدت هؤلاء الأفراد على تحقيقها. فالأعمال المنجزة هذه تشكل عند سن حياة الفرد، وهي التي تحدد وجوده، وأفعاله، هذا بجانب حريته. وفي هذا السياق، قام بتعريف التنمية على أنها عملية توسيع مجال الحريات الأساسية التي يتمتع بها الأفراد. فإذا كانت الحرية الإنسانية هي جوهر التنمية فإن التنمية تستلزم إزالة جميع المصادر الرئيسية لفقدان الحريات: الفقر والاستبداد وتقلص الفرص الاقتصادية، وكذلك الحرمان الاجتماعي المنظم وإهمال المرافق، كما أن تحقيق التنمية يتوقف بالكامل على فعالية الحرية التي يتمتع بها الشعب لضمان تحقيق التنمية.[7] واستنادا إلى الفوائد العديدة لتأمين حقوق الإنسان، يجادل سن أنه كلما زاد احترام الحقوق، زادت المستويات الممكنة لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية على حد سواء. ومع ذلك، يشير سن أيضًا إلى أن التنمية الاقتصادية لا تفضل دائمًا تطوير الحريات الديمقراطية كما هو الحال في حالة الدول الآسيوية الاستبدادية التي تستخدم التنمية كذريعة للاستبداد، والحد من الحريات الشخصية للشعوب. ويدعي أنه “لم تحدث أي مجاعة على الإطلاق في تاريخ العالم في ظل ديمقراطية فعالة”، ويرجع ذلك إلى أن الحكومات الديمقراطية لديها حافز قوي لاتخاذ إجراءات لتجنب المجاعات وغيرها من الكوارث.
كما رأي سورينسون أنَّ التدخل واسع النطاق من قبل الدولة في الاقتصاد أمر صعب جدًا أن يحدث، إن لم يكن مستحيلًا في دولة ديمقراطية. النظام السياسي الاستبدادي برأيه يزيد من معدل التنمية الاقتصادية، في حين أن النظام السياسي الديمقراطي هو ترف يُعيق التنمية الاقتصادية. السمة المميزة للنظام التنموي الاستبدادي لها القدرة على تعزيز كل من النمو والرفاهية. الحكومة الصينية موجهة نحو الإصلاح وتتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، كما تسيطر على جهاز الدولة الذي يتمتع بالقدرة البيروقراطية والتنظيمية لتعزيز التنمية وتديرها نخبة من الدولة ملتزمة أيديولوجيًا بتعزيز التنمية الاقتصادية.[8] وبالتالي، نرى أن النظام السياسي الصيني كتطبيق واقعي لواقع العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية استطاع تعزيز جودة الحكم وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال الدوافع البراغماتية، وقدرة النظام على توفير السلع والخدمات الأساسية (صحة، تعليم، غذاء)؛ الأمر الذي ساهم في وجود سلطوية مرنة “رشيدة”. ونتيجة لذلك، يمكن تفسير سبب عدم اهتمام الصينيين بآلية وصول حكامهم إلى السلطة بقدر اهتمامهم بالطريقة التي يمارس بها الحكم. وفقًا للبعض، الأنظمة السلطوية هشة بطبيعتها بسبب ضعف الشرعية، والاعتماد المفرط على الإكراه، والمركزية المفرطة في صنع القرار، وهيمنة السلطة الشخصية على المعايير المؤسسية. ومع ذلك، أثبت النظام الصيني مرونته.[9]
[1] كلتشرز بوست. (٢٠٢٣). ماهية الديمقراطية: ماذا تعني لنا؟. متاح عبر الرابط التالي: https://culturespost.blogspot.com/2023/04/blog-post_25.html?m=1
[2] Bishop M.L. (2016). Democracy and Development: A Relationship of Harmony or Tension?. In: Grugel J., Hammett D. (eds) The Palgrave Handbook of International Development. Palgrave Macmillan, London. https://doi.org/10.1057/978-1-137-42724-3_5
[3] بروسي، رضوان. (٢٠١٣). جدلية العلاقة بين الديمقراطية والتنمية نحو مقاربة غير معيارية. مركز دراسات الوحدة العربية: المستقبل العربي. المجلد ٣٥، العدد ٤٠٩. ص١٥-٣٦.
[4] باي، أحمد. (٢٠١٦). التنمية والديمقراطية في ظل العولمة بين أسبقية التأثير وعلاقة التكامل. جامعة العربي التبسي تبسة: مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية. المجلد/ العدد ١٢. ص٣٤٢.
[5] Diamond, L. (2008).The Spirit of Democracy. New York, NY: Henry Holt. Retrieved from: https://cutt.ly/5FsKdAB
[6] Fukuyama, F. (1989). The End of History? The National Interest, 16, 3–18. http://www.jstor.org/stable/24027184
[7] Sen, A. (2000). Development as freedom. New York :Anchor Books. Retrieved from: https://cutt.ly/oFfMcNm
[8] Sørensen, G. (2008). Democracy and Democratization Processes and Prospects in a Changing World. Westview Press. Third Edition. Routledge. pp112-116. Retrieved from: https://cutt.ly/4Sr3weH
[9] الشيشي، رامز. (٢٠٢٢). فهم عملية التحول الديمقراطي في الصين: تأثيرها على النظام الدولي الراهن. كلتشرز بوست، متاح عبر الرابط التالي: https://culturespost.blogspot.com/2022/09/blog-post.html?m=1
__________
*رامز صلاح الشيشي/ كاتب وباحث سياسي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.