فقه البيئة
تشغل البيئة حيزا كبيرا من اهتمام الإسلام الذي يدعو إلى التعاطي الإيجابي مع كل مكونات البيئة، ولم يغفل عن تقديم منظور محدد للأرض، التي يعيش عليها الإنسان وكيفية التعامل معها وفق فقه البيئة ضمن النصوص الدينية المختلفة، فالبيئة هي ذلك الهواء الذي يمدنا يوميا بالأكسجين الذي نتنفس به، وهي ذلك الماء الذي نحيا به «وجعلنا من الماء كل شيء حي»، وهي الأرض التي ندب عليها ونأكل من خيراتها، فـ»سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون» فكلها من نعم الله علينا، «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»، وباعتبارها المكان الذي يحيط بنا والذي نتأثر به ونؤثر فيه، فإن الإخلال بعناصرها لا شك أنه سينعكس سلبا على الطبيعة وعلى جميع الكائنات الحية؛ لذلك فإن المحافظة على البيئة هي مسؤولية الجميع من خلال الحرص على نظافتها والقيام بمختلف النشاطات التي تحميها، وهناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال أهل البيت عليهم السلام التي أكدت على ذلك فقد قال تعالى «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين»، كما قال نبينا (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) «من نصب شجرة وصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله».
الإحسان للبيئة من شعب الإيمان
إن الإسلام دين شامل ومتكامل وتعاليمه لم تدع شاردة ولا واردة إلا وعالجتها بما فيها البيئة، وقد شجعت تعاليم الإسلام على غرس الأشجار وزرع النباتات وحمايتها، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال لرجل سأله فقال له: أسمع قوما يقولون إن الزراعة مكروهة؟
فقال عليه السلام: «ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل الناس عملا أجل ولا أطيب منه»، بل إن الغرس والزرع من الأعمال الصالحة التي يعم بها الخير، وتأكيدا على ذلك يقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة»، بل إن نبينا دعانا إلى خدمة الأرض ولو في اللحظات الأخيرة من هذه الحياة عندما قال: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، بل إن جزاء من يقوم بزراعة الأرض وخدمتها فإن له أجرا عظيما في الآخرة، وهو ما يزيد في تشجيع الناس على هذه الأعمال التي لها محاسنها الدنيوية وثوابها الأخروي، وهنا يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه الله عز وجل وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة ويدعون المباركين».
ومن مظاهر عناية الإسلام بالبيئة دعوته إلى إصلاح الأرض وإحيائها بغرسها، بل إن الرسول (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) جعل أحقية امتلاك الأرض لمن يصلحها «من أحيا أرضا ميتة فهي له»، ناهيك عن الأجر العظيم في الآخرة: «ما من امرئ يحيي أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به أجرا».
الإسلام واستراتيجيته حماية البيئة
لا شك أننا رأينا المواضيع الخطيرة التي تتعلق بتغييرات المناخ الحاصلة والتي تؤرق العالم بسبب حساسية الوضع، ولا شك أن أنانية الإنسان وارتباطه بالجانب المادي جعله يغفل ويتغافل بل ويجرم في حق الطبيعة بسبب التلوث الذي تتسبب به المصانع وتفاقم نسبة ثاني أوكسيد الكربون ما سبب إخلالا في مكونات الهواء، إن هذا الوضع يستدعي تحكيم وعينا وضميرنا ومسؤوليتنا جميعا لحماية البيئة من دمار كبير سيطالها إذا لم نتخذ الخطوات المناسبة قبل فوات الأوان، «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس».
لمواجهة هذه الأزمة علينا أن نعي تماما الاستراتيجية التي وضعها ديننا لحماية البيئة الذي يحث الإنسان إلى الإحسان إليها، انطلاقا من اعتبارها من الإيمان، فرسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) يقول «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»، وهذا يعني أن الله قرن توحيده بالحفاظ على نظافة البيئة باعتبارها شعبة من شعب الإيمان، كما أن لا أحد فينا يجهل أن النظافة من الإيمان، فقد حفظناها عن ظهر قلب منذ نعومة أظافرنا، كما نجد أن الرسول يؤكد أن تلويث المياه لا يصح الاغتسال به كما جاء عنه: «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه».
كما لا ننسى أن الإسلام وضع خطة لمكافحة التصحر عبر إطلاق المشاريع الخضراء للقضاء على هذه المشكلة التي تعاني منها الكثير من دول العالم والتي تتسبب في كوارث اقتصادية بسبب خسارة المحاصيل الزراعية، عبر تشجيع الغرس كما سبق وتحدثنا، والنهي عن قلع وقطع الأشجار، فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام «لا تقطعوا الثمار (أي الأشجار المثمرة) فيصب الله عليكم العذاب صبا»، بل ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) قال لعلي عليه السلام «اخرج يا علي فقل عن الله لا عن الرسول: لعن الله من يقطع السدر»، فهذا يعني الأهمية البالغة للزراعة التي تحمي حياتنا جميعا من الهلاك.
إن قيم الإسلام العظيمة أولت اهتماما للطبيعة حتى في وقت الحروب فكانت أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) تشدد على عدم قطع الأشجار أو تدميرها وضرورة المحافظة عليها «ولا تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا إليها».
ومن هنا يتبين لنا من خلال فقه البيئة حرص الإسلام الشديد على العناية بالبيئة من خلال زرع القيم الإسلامية وبسط استراتيجية خالدة لحماية البيئة من الانتهاكات التي تتعرض لها، وتفعيل مختلف النشاطات التحسيسية وعمل المؤسسات التربوية التي تهدف إلى رفع منسوب الوعي لدى أوساط المجتمع لتحقيق بيئة صحية آمنة لكل البشرية.
______
*السيد محمد علي الحسيني.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.