أدبالتنويري

قراءة في رواية ” تضاريس الخبز والوطن ” للكاتب محمد الكرافس؛ صرخة وهجرة

” ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو “

كافكا ” المحاكمة “

تمهيد:

بادئ ذي بدء، استهلت الرواية على لسان الراوي / البطل أيوب الجرس، في الفصل الأول بقول حارق، قول تقريري واقعي نتيجة ما تحصل من وراء صيرورة كائن إنساني بداخل مجتمع ووطن فقد فيهما ما كان يحلم به، وما أنشده من سيمفونيات حالمة ووردية لتجاوز واقع البؤس والفقر والقهر، قول  يؤكد على أزمة بكل دلالاتها، هموم ثقيلة، متاهات، ضياع، تشظي، قيمة اللاجدوى بداخل المجتمع والوطن، الفعالية المفقودة والمعدومة في الوقت ذاته، أحلام بارت سوقها في واقع لم يعد يحتملها ولا يستسيغها، ولا أنها قابلة للتحقيق في ظل معطيات الواقع كما يأتي في متن الرواية.

وطن هو المغرب، في تماس مع أوطان أخرى لا تختلف عنه في كثير من العوالم، السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية والقيمية، ويتقاطع معها في العديد من الحقول المشتركة، المادية والرمزية، تنضح كلها بما لها وعليها من المحيط إلى الخليج، كل هذه الأوطان خضعت في مساراتها التاريخية إلى قوى خارجية احتلالية / استعمارية، تخلصت منها شكليا، ولا زالت، إذ لم تحقق استقلاليتها بعد، الكفيلة بإعلاء سيادتها القرارية ووضع قدم في مربع القوى الفاعلة عالميا، وفي كل توجهات ومذاهب السياسة الإقليمية والدولية وأيديولوجيات المتحكمين في قواعد اللعبة في شتى أبعادها، فالمتن الروائي في رواية ” تضاريس الخبز والوطن ” يخبرنا بأن هذه الأوطان العربية كانت بدورها ضحية مقالب الأيديولوجية المتحكمة في رقاب الشعوب والأوطان، وأن جزء منها لا زال يرزح تحت سوط الاحتلال الصهيوني، وكذا قبولها الطوعي لأيديولوجيا العولمة، ” إنني أصب جام غضبي على هذه العولمة التي تريد نفث سمومها في هويتنا، تريد قتل الجغرافيا والتاريخ وبيع الأوطان كذلك، تريد جعل الاستيراد والتصدير بلا وجه حق مثلما نصدر نحن الفوسفات إلى أوربا وأمريكا ليستخرجوا منه اليورانيوم الذي يمنح لإسرائيل لتصنع منه السلاح الفتاك الذي تبيد به أبناء فلسطين الذين هم إخواننا في كل شيء، والذين نتفرج على ماساتهم وماساتنا كل مساء” ( الفصل الثالث  ص 27 )، بتواطؤ من قبل الساسة الذين يسوسونها ويتولون أمورها العامة، في ظل زمن انهيار القيم والإيديولوجيات الكبرى، واعتلاء الماديات عروش كل الحقول الإنسانية، وفي جانب آخر من المتن الروائي يطلعنا البطل على حدث التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث يجعلنا أن نستقصي سردية التطبيع في جوانبها الخفية إلى المعلنة في وقتنا الحاضر، وبالتالي انهيار قوى الممانعة من قبل الأنظمة السياسية العربية، فيما كان منها بشكل محتشم، أو ما كان منها بشكل واضح، أو في ما كان منها تحت الطاولة ” أين نحن من هاته الحفنة من الصهاينة التي باتت تقضي حاجتها على رؤوسنا، وبعضنا يزغرد في فرح وأبهة، ينشد معها السلام ويريد الذهاب معها إلى الحمام لتكتمل البهية، فهذا هو التطبيع الذي يريدون طبعنا عليه، حيث يصير البيع والراء بيننا وتبادل الزيارات مباشرا ودون وساطة ” ( الفصل الثامن ص 86 ) .

من هنا بدأت الحكاية :

” أعيتني متاهات الأزقة القديمة حين ترسبت في أحضاني هموم هذه الأرض.

صرت قمامة أفكار ومعاناة بامتياز، أضحيت تفاهة حروف تجر أجداثها وأبنانها كل يوم إلى قتل الذاكرة لتنطوي في الليل، لتستحيل إلى كومة متشظية من الأحلام المزعجة. ” (الفصل الأول. ص.7 ).

من هنا وفي خضم أحداث ووقائع الرواية تبدو تضاريس الواقع والحياة لمواطن تكبد عناء سفر الوجود، بداخل وطن، أكثر عنفا وشراسة وقهرا، في وطن مرت عليه حضارات وثقافات على أرضه إلى أن وقع تحت أقدام من داسوا كرامته باسم الحماية، لتترك أجياله تجر خيبات الأمل والطموح، ولا زالت لم تنعتق من براثين الماضي إلى حدود الساعة.

” كانت الريح تهب من هناك قبل سنين عظيمة، وكان الرومان لا يحصدون سوى آهات الأمكنة بعدما يعصرون الزيتون، قبل سنين كانت الريح تعوي هنا ولا تحصد الأرض غير صمت الأرض وصمت هذه الجموع الحالمة.

واليوم بات العمر يأتي على الأخضر والجاف، تسيل دموع الكبار لتمسحها أيادي الصغار، وحتى هؤلاء الأطفال الذين تعذبهم حقائبهم الثقيلة، لا شط أنهم خارجون لتوهم من إحدى حروب القرن الغابر، مثلما فعل أجدادهم حين داسوا على صعلكة الأمان ليحرروا بلد الفرنسيس الذين كانوا يذلونهم في بلدهم باسم الحماية.

هكذا كانت فرنسا تبيع القردة وتضحك على من يشتريها، وحتى عندما ذهب الفرنسيس من الباب كما كان يسميهم أجدادنا الأميون، بقي أحفاده ينفشون ما تبقى من زبدة وحليب في نوافذ الوطن. ” ( الفصل الأول. ص. 8 ).

التضاريس : من دلالة الجغرافيا إلى تعدد الدلالات التراجيدية.

التضاريس، أو رسم الخرائط الأرضية، هي البعد الرأسي والأفقي لسطح الأرض. وعند ذكر تضاريس ما تحت الماء يُستخدم المصطلح قياس الأعماق.

ويستخدم  مصطلح التضاريس كمصطلح عام في الجغرافيا الطبيعية، للإشارة إلى موقع الأرض وعادة ما يعبر عن هذا من حيث الارتفاع والانحدار واتجاه الخصائص التضاريسية.” ويكبيديا، الموسوعة الحرة.

حين تناول كلمة ” التضاريس “، يحيلنا إلى مفردها ” ” تضريس “

التضريس : تحزيز في الشيء يشبه الضرس ( بكسر حرف الضاد وتسكين الراء).

لؤلؤة بها تضريس : بها تحزيز، حز أو نتوء.

ضرسه الزمان : اشتد عليه.

فالتضاريس أشكال هندسية تبدو عليها كل الأشياء والموجودات ذات الطبيعة المحسوسة، تتسم بالارتفاع والانحدار والانبساط والميل .. وعند استقصاء دلالاتها من خلال عنوان الرواية، تحضر تيمات متعددة ومختلفة الأوجه، من الخاص إلى العام، والعكس صحيح، في علاقات متشابكة وجدلية بين الذات والموضوع، بين كل مجالات الحياة، تتسم بالعنف والقهر والتسلط، والإقصاء والتهميش، فالبطل أيوب، وكل شخوصها هم في معمعة الواقع بتضاريسه الدالة على كل حقل من حقول المجتمع، حقل الاجتماع، السياسة، الجغرافيا، التاريخ، الاقتصاد، الثقافة، الحب، الوطن، الخبز، المواطنة، العلم، المعرفة، الإدارة، المسؤولية، الفضاء العمومي، الماديات، العولمة، الشغل / العمل/ الوظيفة، القيم، الاحتجاج، النضال، المخدرات،  التطبيع، الهجرة …

شخوص وعلاقات وأحداث

كل التضاريس  / الحقول / التيمات في  المتن الروائي، حضرت بشكل مكثف وبعبارات وجمل جد مختصرة ووجيزة، وبلغة مكتنزة ومرتبطة أيما ارتباط فيما بين تيماتها، حيث لا يمكن للقارئ فصل واحدة عن أخرى في سياق عام لأحداث وشخوص الرواية، تجعله يستحضر العلاقات الجدلية في كليتها مع  تفاصيلها الدقيقة، رغم حجم النص الروائي في فصوله الموزعة من الفصل الأول إلى العاشر ثم الفصل الأخير، الموسومة بعدد الصفحات القليلة والمعدودة،  تحضر فيها الذات / البطل / أيوب الجرس، يصارع الواقع المرير في كل تفاصيله، يريد الخلاص من الحمل الثقيل الذي سكنه منذ الطفولة، مرورا بكل مراحل الدراسة إلى حصوله على شهادة عليا، لم تسعفه في تحقيق المرغوب والمأمول ” هذا أنا أيوب الجرس، لا أنا  من الأغنياء الجاهلين، ولا أنا من المتعلمين الانتهازيين، ولا حتى من المعطلين الساكتين. هذا هو حالي يعرفها أصحابي والمدينة الصغيرة التي تركتها تتوسد أشجار الكاليبتوس بحوانيتها ومقاهيها. حتى أصحاب الديطاي  أصبحوا يتعاطفون معي منذ حصلت على الشهادة المعلومة والملغومة في آن واحد، لأنها كانت فيما مضى توصل إلى أعلى كراسي الحرير في الإدارة، واليوم لم يعد لها نفع ” (  الفصل الرابع، ص. 39 ).

أيوب الجرس، الشاب المغربي، خريج الجامعة المغربية، حصل على شهادة عليا، التي ستزج به في عالم مجهول، عالم البطالة والتعطيل، عالم البحث عن عمل، عالم النضال، والاحتجاج… من عالم وردي إلى عالم البطولات الدموية بداخل واقع لا يرحم ” لقد انتهت الخطوة الأولى بالنسبة إلي على الأقل، لأنني لم احتج إلى حوافز مادية كثيرة لأفعل المستحيل أنا المواطن أيوب المبني للمجهول. وكما كنت أحلم وأنا طفل غارق في عزلتنا الريفية ذات طفولة، فقد وصلت إلى ما أنا فيه من مستوى بفعل جلدي وعنادي، وجسمي النحيف هو الآخر يستحمل معي مواجهاتي اليومية مع قساوة الزمن ولهيبه الحارق ” ( الفصل الأول، ص.12 ).

رحلته هذه لا زالت في البداية، ، اعتصامات، بحث عن بصيص أمل قد يلوح في الأفق وقد لا يظهر له اثر، لكن لا جدوى ولا أمل، المعاناة والمأساة هو عنوان المرحلة بامتياز كما كانت سابقاتها، تعرضه لمضايقات رجال ألأمن…

في سياق العلاقات الاجتماعية، هناك علاقات تربط أيوب الجرس بآخرين،  منها علاقة الحب والعشق لمحبوبته ليلى ” ليلى هي إكسير الحياة الذي يجدد عزيمتي كلما تلاشت، ويدفئني كلما تضاءل إيماني في عودة مجاري الحياة لتصب في بحيرتي الجافة” ( الفصل الثاني، ص. 23 ).

ومنها علاقته بمن هم في وضعيته الميئوس منهم من طرف المسؤولين والسياسات الحكومية، يشكلون جحافل وجيوشا من المعطلين، يحتجون أمام البرلمان والمؤسسات الحكومية وفي الشارع العام بالعاصمة المغربية، في وضعيات الكر والفر في مواجهاتهم مع قوى الأمن، يتعرضون لكل أصناف التنكيل والقهر المادية والرمزية ” لقد جفت الأقلام وجفت معها الحناجر ودار لقمان على حالها بل هما بنت عمومة وخؤولة. ويبدو انه لا فائدة ترجى منا بعدما جابت ثرثرتنا الآفاق مدوية صارخة، ومع ذلك لا يتضايق منا احد. .. فهذه صورة من صور الديمقراطية،  لكن طبعا عندما نقلقهم كثيرا ونفسد منظر الشارع يتصدقون علينا ويرسلون إلينا بركاتهم التي تذكرنا بحدود اللباقة وبتاريخ العصا في البلاد. في الحقيقة نحن بالنسبة إليهم بضعة همجيين رغم أننا متعلمون، فنحن متخلفون في كل شيء ولو لبسنا الثقافة ثوبا وحريرا في الصبح والعشي  … فنادرا ما تمر الأمور بسلام دونما خسائر او مناوشات ” ( الفصل الثالث، ص. 25 ).

والكل يعيش أوهامه الخاصة، وهم المسؤول ووهم المعطل والمجتمع ” لقد بات كل شيء مرسوما في الوهم … لأنه لكل مسؤول أوهامه التي يقضي بها وطره ويغلط بها الناس البسطاء .. معنا اللعبة غير مجدية، دماء الكرامة المهزومة تغلي في عروقنا كسيف علي. كلنا واهمون حقا حينما نستبشر خيرا بقدوم هذا المسؤول أو المدير ورحيل ذاك .. قطاع المتعة الذين يمتصون الدماء البشرية يتكاثرون وتزداد أطماعهم، اليأس سيد المكان، ولا حاجة إلى كل هذا اللغط الذي يصم الآذان .. إنهم يعلمون بحقيقة مطالبنا أنا المواطن الشريف العفيف أيوب الجرس ومن معي ، ومهما صعبت في وجهنا الدنيا ” ( الفصل الثالث، ص. 26 ).

ففي خضم سيرورات العلاقات الاجتماعية، شاءت الأقدار أن يتعرف أيوب الجرس على مصطفى بائع الكتب ويتقاسم معه غرفة السكن، فيتهمه هذا الأخير بالطوباوية أثناء حديثه عن المرأة وعلاقتها بالرجل، ويبدأ رحلته المكوكية في البحث عن عمل من جديد، وفي الأخير يحصل على عمل بالمقهى بعد أن وعده مراقب العاملين به بقدومه يوم الغد، بعد أن كان يعمل بأحد الأسواق،  وتجاورهم السكن سميرة التي تنتمي إلى مربع القاع الاجتماعي المزري، هنا يتحدث عن الانتهازية والانتهازيين، مظاهر النفاق الاجتماعي، واقع المال والأعمال، ولا حاجة للإبداع والفن .. وان الفقر حافز للقراءة والدراسة، ولسان حال المجتمع يلوك وضعية أيوب ووضعيات أخرى  كل من مركزه وموقعه الاجتماعي والاقتصادي ..

وتتوالى الأحداث ما بين الفصل السادس إلى الأخير من فصول الرواية، وهاهو أيوب يحصل بشكل رسمي على عمل كنادل بالمقهى، فيدخل في علاقات أخرى يقارن فيها ذاته كحامل لشهادة عليا وذي ثقافة ومعرفة وبين ما يقدمه من خدمات كنادل، مع اعتقاده الراسخ ونظرته للعمل ولكنه اضطر مكرها أن يتنازل عما كان يحلم به وما كان في جعبة مطالبه المشروعة كخريج جامعي ذي مستوى عال، درء للحاجة والعوز  ” فعلا، العمل ليس عيبا كما تعلمته من عائلتي، والعيب كل العيب هو عندما لا تجد درهما واحدا تشتري به سيجارة من النوع الأشقر أو حتى ثمن تذكرة الحافلة، هذا هو العيب أو الإعاقة الحقيقية. إعاقة جديدة اخطر من كل الإعاقات وليس لها حل، إنها إعاقة الجيب اجل، إذا كان جيبك فارغا فكلامك فارغ هو الآخر ” ( الفصل السادس، ص. 50) .

فيدخل أيوب في دوامة من الأفكار ومونولوج  داخلي، يستعيد فيهما شخصه وكل أحلامه وواقعه الحالي وما هو عليه من وضعيته كنادل ، تتوزعه بين التبخيس والدونية والاحتقار وبين التمجيد لشخصه بكونه حصل على شهادة عليا وافتخار أمه به وبين السخط والكدر، بين تلك التي تجره للهامش والأخرى التي يتخيل فيها أصحاب الحال والكبار الذين لهم الحق في الثقافة والسياسة والمناصب الكبرى ” الذين يشمون رائحتها، يعرفونها وتعرفهم” ( الفصل السادس، ص. 53 ) .

ثم يعرض فكرة الزواج على ليلى، واقترح عليها أن تفاتح خالتها لنقاش عرض أيوب الجرس، فتستقبله خالتها التي تتكفل بها منذ نعومة أظافرها، ليحظى بالقبول ورضى الخالة.

حين تشتد المصائب وتقسو أقدار الزمان، فتأتي كلية في جو عاصف هذه المرة، عاصفة كادت تعصف بحياة أيوب الجرس جملة، وكأنها تقول له، ألا يكفيك ما مر معك، وأنت صامد، رغم كيد أقدار السياسة والاجتماع، بداخل ارض في جزء منها، ممتدة من المحيط إلى الخليج، ارض العرب  ” هذه هي الأرض التي وعد الأجداد بزراعتها قمحا وشعيرا، من اجلنا نحن ومن اجل أبنائنا وأحفادنا، بلاد عريضة شاسعة تمتد تحت شروق الشمس من غياهب المحيط إلى رونق البحر العجائبي. هذه هي جغرافية العرب التي يلعبون فيها مجموعة من الألعاب الطفولية العقيمة، إنها مهزلة – علامة تعجب – بلاد عريضة تهزمها عصابة ناسها مثلنا يمشون على إثنين، لهم عقول مثلنا كذلك، لكن عقولنا مفرملة لا نشغلها.لا فائدة ترجى من كثرة اللغط والزعيط، إنكم تشبهون سلة مهملات قاسية تمتح وجودها من اللاوجود الممتد في التخلف. أي وجود هذا الذي تحاصره أسراب الجراد وأسراب الشر وأسراب الدبابات؟ ” ( الفصل الثامن، ص. 71 ).

أيوب الجرس ” نموذج للفشل العربي وأمثولة لانقلاب المعادلة الثقافية والعلمية في الوطن العربي. كوادر حقيقية تتشرد في الشوارع بدل الاستفادة من طاقتها … – استقطاب الأدمغة من طرف الغرب – يجدون أنفسهم في الغرب يبنون الحضارة الغربية هكذا من دون أن يخسر الغرب على تكوينهم فلسا واحدا ” ( الفصل الثامن، ص. 72 ).

فأيوب الجرس، بطل الرواية، لا يتوانى بين الفينة والأخرى في تليين أعصابه وبلسمة واقعه بالأماني والآمال العريضة، وان العيب ليس فيه، بل العيب كل العيب في المنظومة السائدة ببلده المغرب كما بلدان أخرى في العالم العربي، ليعلن الصمود والتحدي في ساحة المعركة ” لا تفقد الأمل يا أيوب العمل نادلا في المقهى ليس عيبا. لا، إنه عيب حقيقي أن يعمل أميون في مناصب حساسة ويبقى المتعلمون وحتى المثقفون يستجدونهم كسرة خبز ويجترون مهانة الفراغ وآلام الهامش. لما لا تمنح لهم الفرص الضائعة بدل منحها لأشخاص يرجعون لقضاء مراهقتهم المتأخرة؟

هون عليك يا أيوب الأرزاق بيد الله، ورزقك سيأتي، يجب أن تصبر فقط وتناضل للبقاء هنا ملتصقا بأصدقائك المناضلين في سبيل الكرامة الاجتماعية. الحق يؤخذ ولا يعطى، ولا شيء يتحقق دون تضحية ” ( الفصل الثامن، ص 72 ).

في طي هذه الرحلة من فصول الأحداث والوقائع المؤلمة في غالبيتها، يتعرض أيوب الجرس إلى الاعتقال بتهمة الاتجار في المخدرات الصلبة، بعد أن تم اقتياده من محل عمله بالمقهى، بناء على كنية إسمه العائلي الذي هو أيوب الضرس، ولم تسعفه إيضاحاته بخصوص اسمه الكامل.

  • أنت هو أيوب الضرس ؟ أليس كذلك؟
  • لا أسيدي أنا الجرس ماشي الضرس علاش ؟
  • الجرس أو الضرس، بحال بحال المهم اسميتك أيوب ..
  • نعم أيوب

وبعد لعبة سين وجيم، في إطار التحقيق معه بمخفر الشرطة، أتضح أنه ليس هو أيوب الضرس الذي تبحث عنه الشرطة، وليس هو وسيط صاحب المقهى الذي يتاجر في المخدرات، الذي ينقل البضاعة إلى موزع بالدار البيضاء، وان صاحب المقهى الحاج المقص الذي يعمل عنده له  ” مقهى آخر يستعمله واجهة لهذا الغرض. عرفنا حقا انك من أصحاب الشهادات العليا. نحمد الله أن قضيتك لم تصل  إلى المحكمة وإلا كانت الأمور تعقدت” ( الفصل الثامن، ص. 85).

وبصدد هذه الواقعة بالذات  طرحت لأيوب الجرس فكرة الانتماء لهذا الوطن بشكل مريب ومهول، حيث بعد أن عامله ضباط الشرطة بشكل قاس جدا، استنكر في نفسه تعاملهم وطريقة التحقيق معه دون رحمة، ليضع المفارقة فيما بينه وبين إن كان صهيونيا، لا يجب عليهم أن يتعاملوا بتلك الأساليب الهمجية، لما له من انتماء مشترك بين وبين هؤلاء وانه متيم بوطنه الضارب في عمق التاريخ. ” اجل، تعلمت أن الوطن بلا تاريخ مثل الشجرة بلا جذور، منتصبة فوق الأرض لكن ليس لها امتداد. وهناك دول لا تاريخ لها وطبعا لا يمكن لها أن توجد في ماضي التاريخ العالمي، ولا يمكن لها تزوير أو شراء تاريخ يصنع لها الكينونة والعمق الماضويين ” ( الفصل الثامن، ص. 86 ) .

وبعد هذه المأساة والآلام وتراجيدية مراحل المعركة الدراسية والنضالية من أجل الخبز وضمان الاستمرارية والعيش الكريم بوطنه الأم، سيما وأنه كد واجتهد للحصول على شهادة جامعية عليا، تجعله في مصاف المكرمين والمساهمين في بناء وطنه ومجتمعه، وبعد أكوام من خيبات الآمال المتراكمة، إلى حد أنه اتهم ظلما بالترويج والوساطة في تجارة المخدرات الصلبة، اضطر أيوب الجرس أن يفكر في الهجرة، أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما يجود به العمر مستقبلا،  ليحصل على عقد عمل من صديق له بفرنسا وحصوله على تأشيرة الذهاب إليها للعمل هناك، بعد أن عاش أول رحيل لشابة في مقتبل العمر، وقد شاخت قبل الأوان، إنها سميرة، جارته بمحل سكناه، بنت الأزمة الخانقة، عملت كخادمة في مدينة أكادير، وبعدها جلبت للعاصمة لتوعد بعمل في شركة للنسيج، كل ذلك كان وهما، فإذا بها وجدت نفسها في ملهى ليلي .. وضاع حلم العيش الكريم وتبخر أمل إعالة ومساعدة الأسرة الفقيرة والضاربة جذورها في أعماق البؤس والعوز والهوان والقهر، فرحيل سميرة ينذره بالشؤم في واقع لا يرحم، وهل له من سبيل آخر غير الهجرة بعد أن لاح أفق شبح الموت والرحيل المبكر من خلال رحيل سميرة، وقد يلقى هو نفسه المصير إذا ما قدر له أن يعيش مأساة الراحلة جارته وربما يفوقها تراجيديا وهو الذي يفهم الواقع ويعيه ويمتلك ناصية تأويله؟ ” واليوم ها أنذا احصل على تأشيرة لدخول بلد أجنبي، على ورقة، نعم مجرد ورقة لاصقة، لكنها تعني الشيء الكثير لأنها ستنقلني إلى بلد غير بلدي، وتنقذنني من معاناة ظلت لصيقة بذاتي وعقلي منذ أن أنهيت تعليمي العالي بشهادة مهمة” ( الفصل العاشر، ص. 100 ).

وفي الأخير جاءت لحظة الوداع، وما أقسى لحظة الفراق، ليلى حبيبته وزوجته، يعدها بألا ينساها ويترجاها بأن تكف عن البكاء، يمسح دموعها، آلام الفراق لا تعرف حدودا، تتناسل الأسئلة تلو الأخرى، وفي رحلته من العاصمة إلى طنجة وليلى تصاحبه، مر شريط الحياة بكل ما لها وأكثر ما كان عليها من أثقال، وها هو يغادر الوطن ” مضطرا لا مخيرا ” ليعيش الغربة بكل همومها التي سيرغم عليها للعيش في كنفها ” لو كان الحل بيدي لمكثت بوطني قرب أمي وقرب ليلى أشم رائحة زقاقنا وأمارس حريتي وصعلكتي كيفما أشاء، لأنني أعرف أن الوطن وحده يقبل ذلك، والإنسان كائن لابد له من وطن واحد ينتسب إليه. وحتى لو كنت ناجحا في بلد آخر فإن تيمة الغريب تظل دائما ملتصقة به، وعندما يموت  يحمل  جثمانه إلى الوطن الأم ” ( الفصل الأخير، ص. 105 ) .

اعتراف:

حين يغوص القارئ في مجريات الأحداث والوقائع التي عرفتها فصول الرواية، قد يجد نفسه واحدا من شخوصها بشكل أو بآخر، كل بحسب انتمائه الاجتماعي أو الثقافي، السياسي أو الجغرافي، التاريخي أو الحضاري، وقد تتعدد خانات التقاطعات الانتمائية، خاصة وأن بطل الرواية لديه وعاء ثقافي يجعله ينظر بمنظار مختلف عن باقي شخصياتها، ويميز بين كل حقول الاجتماع والثقافة والسياسة والتاريخ والحضارة، وهو يعي تمام الوعي انتماءه الخاص، حيث يستطيع أن يعري عن الحقائق السائدة وخلفياتها الثقافية والسياسية والأيديولوجية والتاريخية والحضارية، سواء بداخل وطنه الأم الذي سيصرخ في وجه أوضاعه الداخلية، وبعد هذه الصرخة المدوية سيتخذ قرار  الهجرة للتخلص من الشقاء الذي لازمه منذ طفولته إلى أن حصل على الشهادة الجامعية ورحلته السيزيفية لأجل البحث عن خبزه كمواطن صالح من حقه أن ينعم بالكرامة والعدالة والحرية، أو بداخل أوطان أخرى سواء تلك التي ينتمي إلى جغرافيتها الإقليمية العربية بالذات، أو تلك التي لها جغرافيتها الخاصة ويعلم مراكزها الجيوستراتيجية وما تبدعه من وسائل واستراتيجيات التحكم في رقاب الشعوب والدول.

فالكاتب محمد الكرافس استطاع في متنه الروائي بمعانيه ودلالاته أن يجعل من قضية مواطن بسيط حصل على شهادته الجامعية أن يعري على واقع يسود بجغرافية تضاريس وطنه الأم، ليحاكمه على ضوء الحقائق التي تتسم بالفوارق الصارخة بين فئاته، مجاليا، اجتماعيا، سياسيا، اقتصاديا، وثقافيا، وما يرتبط بها من تفاعلات سلبية في غالبيتها، قهر، تسلط، إقصاء، تنكر للقيم الوطنية … ، خاصة في ظل انهيار القيم والمقولات الجوهرية والأيديولوجيات الكبرى التي سادت في مراحل سابقة من تاريخ الأمم والشعوب.

رواية ” تضاريس الخبز والوطن “، للكاتب والناقد محمد الكرافس،  صدرت عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، الإمارات العربية المتحدة،  ضمن منشورات جائزة الشارقة للإبداع العربي الدورة 2009 / 13 – 2010، 106 صفحات، من القطع المتوسط، 10 فصول وفصل أخير( 11).

ويشار  إلى أن الكاتب محمد الكرافس من مواليد عام 1977،  بالخنيشات، إقليم سيدي قاسم، المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في الآداب، تخصص السيميائيات، يشتغل بتدريس اللغة العربية وآدابها، ويبدع في مجالات الأدب، كما أنه يكتب الدراسات والمقالات الأدبية،  ينشر أعماله بالمجلات العربية والمنابر الثقافية، تحصل على عدة جوائز أدبية منها : جائزة الإبداع الشعري من القناة الثانية المغربية 2007، وجائزة ناجي نعمان العالمية للثقافة والآداب ( بيروت ) 2009، وجائزة المكتبة العالمية للشعر ( بأمريكا ) 2008، وجائزة الشارقة للإبداع الأدبي ( الرواية ) بالإمارات العربية المتحدة، دورة 2010، وجائزة صلاح هلال للقصة القصيرة بمصر 2016، وجائزة قلمي الأدبية للرواية بدبي 2016.

صدر له :

  • الظل يتعرى، شعر، المغرب، 2009.
  • حلم يتلوى في زورق، شعر، مصر، 2010.
  • تضاريس الخبز والوطن، رواية، الإمارات العربية المتحدة، 2010.

Eugene O neill s philosophy in long days Journey into night ألمانيا، 2011.

  • السيميائيات العامة بين السيميولوجيا والسيميوطيقا، الأردن، 2018.
  • آلام عابرة للقارات، رواية، المغرب، 2023.
  • مدينة على أكتاف الأوكالبتوس ( قيد الطبع ).

وله أيضا مشاريع قيد الإنجاز في مجال الرواية والنقد وغيرهما.

__________
*
عبد المجيد بن شاوية/ كاتب مغرب.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبد المجيد بن شاوية

كاتب مغربي، مهتم بالقضايا الفكرية والثقافية وباحث في الشؤون المغاربية. صاحب مجموعة مقالات بجرائد ورقية إليكترونية، مجلات، وصاحب مدونة " أصداء الحكمة".

مقالات ذات صلة