رساميل التجربة الصوفيَّة ورسومها المدهشة
يظل القرن الخامس الهجري يمثل عصر المصنفات الكبرى في تاريخ التصوف الإسلامي، وهي بالضرورة التاريخية حسب تأثيرها في عموم المسلمين تبدو تصنيفات فريدة من نوعها، لأن مفادها آنذاك تلخيص التجربة الصوفية وتوضيح حقيقتها من حيث كونها قطعًا من الحكمة وتجارة مربحة مع الله مستعملة في طريقها العبادة الخالصة وإلزام النفس بأوامر الله ونواهيه والحرص الشديد على الطاعات وتأديتها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، شكلت هذه المصنفات ملمحا مغايرا لما كان عليه التصوف لاسيما في تجربة الحسين بن منصور الحلاج التي بدت مغايرة ومغالبة أيضا لما كان هو سائد في التجارب الروحية . وربما فورة الصراع بين تجربة الحلاج التي تعد المرحلة الأخصب والأقوى والأشرس أيضا في تاريخ التصوف مع حكم عقيدة أهل السنة والجماعة التي رأت في التجربة الصوفية ضربا من الشك في العقيدة، هي التي دفعت رجالا آخرين من أقطاب التصوف الإسلامي إلى تأليف تلك المصنفات التي تعزز الأسس والركائز الإسلامية الرصينة والعميقة للتجربة الصوفية .
وكما يشير المستشرق جوزيبي سكاتولين في كتابه القيم ” التجليات الروحية في الإسلام ” أن الغرض الرئيس من تلك المصنفات الصوفية هو الغرض التعليمي، ويؤكد أن هؤلاء الأقطاب أرادو أن يصفوا أمام مريديهم السلوك الصوفي ومراحله المختلفة، ومنازله المتصاعدة ومخاطره المتعددة أيضا، فضلا عن أن هذه المصنفات تجد فيها وصفًا وافيا وشاملا للطريق الصوفي على مختلف أنواعه ومراحله. ولعل أبرز مؤلفي المصنفات الصوفية في هذا القرن الحكيم الترمذي الذي اعتمد على الموقف وطرح السؤال الذي بالضرورة يثير الدهشة ومن ثم اقتناص الوعي والانتباه والإدراك لدى المتلقي المريد، وهذا ما فعله أيضا النفري في المواقف والمخاطبات، وإذا كان كتاب الحكيم الترمذي ” ختم الأولياء ” يعد مؤلفا صوفيا للخاصة، فإن كتابه ” الرياضة وأدب النفس ” يستحيل من الكتابات الصوفية التي اعتمد فيها على أسس الدين الإسلامي الرئيسة من القرآن والسنة لذا فهو مصنف صوفي لعموم الناس.
فلقد وجد التصوف نفسه في موقف المبرر والمدافع عن التهم التي وجهت للحسين بن منصور الحلاج واتهامه بالفسق ثم بالخروج على التقاليد والأعراف الدينية وأخيرا بالكفر، فكانت ثمة ضرورة في توضيح موقف التصوف الذي لجأ إلى الاستناد على مصدري الشريعة القرآن والسنة الشريفة، فكانت كل النصوص والطروحات الصوفية لا تخرج عن المصدرين ورد كل فكرة وحال ومقام إليهما وهذا دفع الكثيرون إلى الاعتراف بأن التصوف لا يخرج عن الدين ولا عن القيم والأخلاق الإسلامية الرشيدة . وسرعان ما تحول المهاجمون إلى منسجمين مع الطرح الصوفي انسجاما تاما، وتستحضر تلك السطور ما قاله الإمام أبو الحسن الشاذلي : ” من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو بدعي “، وقوله : ” إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في جماعة فلا تعبأ به ” .والإمام الجنيد يؤكد دوما على الصلة الوثيقة والعلاقة المتينة بين التصوف والشريعة فقال : ” الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر السول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقه “.
ومن أبرز المتصوفة المنتسبين لهذا العصر الذهبي في التصنيف والتأليف السراج الطوسي، الملقب بطاووس الفقراء، وتأتي ترجمته بموسوعة ” ويكيبيديا ” العالمية بأنه زاهد، كان شيخ الصوفية، على طريقة السنة. ملقب بطاووس الفقراء وتنقل بين بلاد كثيرة، منها: القاهرة، وبغداد، ودمشق، والرملة، ودمياط، والبصرة، وتبريز، ونيسابور. ويعد كتابه « اللمع في التصوف » بمثابة موسوعة في تاريخ التصوف الإسلامي وطبقات الصوفية وعلومهم ومصطلحاتهم وأقوالهم وأحوالهم.
ومشكلة السراج الطوسي هي قلة الأنباء والأخبار عنه، وأن المهمومين بتأريخ حركة التصوف الإسلامي لم يعيروه اهتمام يليق بمكانته وتصانيفه، بالرغم من أن المستشرقة الألمانية الكبيرة ” آنا ماري شميل ” ذكرت أن ول مرجع في التصوف الإسلامي يعرض بشكل متكامل الطريق الصوفي مع ذكر مصادر عديدة له هو كتاب اللمع، وهو كتاب جامع شامل للتصوف الذي قسمه إلى مائة وخمسين بابا، اجتهد فيه أن يرصد ويصف رؤية الصوفية لمقام الوجد. وفيه يعرض الطوسي سبب تأليفه للمصنف فيقول : ” واعلم إن في زمننا هذا قد كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة ـ يعني الصوفية ـ وقد كثر أيضا المتشبهون بأهل التصوف والمشيرون إليها، والمجيبون عنها وعن مسائلها، وكل واحد منهم يضيف إلى نفسه كتابا قد زخرفه، وكلاما ألفه، وليس بمستحسن منهم ذلك، لأن الأوائل والمشايخ الذين تكلموا في هذه المسائل وأشاروا إلى هذه الإشارات ونطقوا بهذه الحكم إنما تكلموا بعد قطع العلائق وإماتة النفوس بالمجاهدات والرياضات والمنازلات والوجد والاحتراق والمبادرة والاشتياق إلى قطع كل علاقة قطعتهم عن الله عز وجل طرفة عين وقاموا بشرط العلم ثم عملوا به، ثم تحققوا في العمل فجمعوا بين العلم والحقيقة والعمل” .
ولمكانة الكاتب والكتاب يقول عنه المستشرق نيكلسون : ” ومن العجيب أن يغفل مؤلفو التصوف القديم شأنه، فلم يؤلفوا عنه أسفارا تحوي لنا تاريخه وتراجمه وأحواله،مع أنه كان فريد عصره، راسخ القدم في علوم القوم، وشيخًا لمذهبهم في الزهد والتصوف، وكم كنت أتمنى لو سبق وجودي إلى عصره الذهبي أو الذي يليه لأترسم خطاه، وأتتبع آثاره وأخباره وأحواله، فأميط اللثام عن مستور لو كشف لعبق عبيره، وطيب شذا عرفه الأنام “.
وإذا كان الصوفيون هرعوا بعيدا باجتهاداتهم عن أبواب الجدل التي أثارت الخصومة، إلا أن فصل المحبة نفسه يعد أروع مثال لتجارب الصوفيين التي لا تعرف للتشابه سبيلاً، ولا تؤدي للنمذجة طريقاً، لذا فإننا نجد ثمة أقوال متباينة عند حديثهم عن المحبة والوجد، لدرجة أن أبا نصر السراج الطوسي يقول : ” اختلف أهل التصوف في الوجد : ما هو ؟ فقال عمرو بن عثمان المكي : لا يقع على كيفية الوجد عبارة ؛ لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين ” .
وكتاب ” اللمع ” للسراج الطوسي نجد حديثا ماتعا وشاملا عن الوجد، من حيث ذكر اختلاف الصوفية في ماهية الوجد، وتواجد المشايخ الصادقين، وقوة سلطان الوجد وهيجانه وغلباته، وأيضا حديثه عن صفات الواجدين، وفيه يقول أبو نصر عبد الله السراج الطوسي : ” يقول الله تعالى : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ( سورة الزمر، الآية 23 )، هذه صفة من صفات الواجدين، وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ( سورة الحج، الآية 35 )، فالوجل صفة من صفات الواجدين، وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيدًا ) ( سورة النساء، الآية 41 ) فصعق، فالصعقة صفة من صفات الواجدين” .
ويسهب السراج الطوسي في حديثه عن صفات الواجدين فيقسمهم إلى طبقتين ؛ واجد، ومتواجد، أما الطبقة الأولى الواجدون فهم على ثلاثة أصناف كما يذكرهم بكتابه ” اللمع “، يقول : ” فصنف منهم : وجدهم مصحوبهم، إلا أنه يعارضهم في الأحايين دواعي النفوس والأخلاق البشرية ومزاج الطبع، فيكدر عليهم الوقت ويتغير عليهم الحال . والصنف الثاني : وجدهم مصحوبهم، إلا أنه إذا طرأ عليهم ما يشاكل وجدهم من طوارق السمع تنعموا بذلك وعاشوا وانتعشوا، ثم يتغير عليهم الوجد. والصنف الثالث : وجدهم مصحوبهم على الدوام، وقد أفناهم ذلك الوجد، لأن كل واجد قد فنى بما وجد، فليست فيهم فضلة عن موجودهم، لأن كل شيء عندهم كالمفقود عند وجدهم بموجودهم بذهاب رؤية وجدهم ” .
ثم ينتقل السراج الطوسي إلى الحديث عن الطبقة الثانية من أهل الوجد وهم المتواجدون، والذين يقسمهم إلى ثلاثة أقسام أيضا في تواجدهم، فيقول : ” أما المتواجدون فهم أيضاً على ثلاثة أصناف في تواجدهم، فصنف منهم : المتكلفون والمتشبهون وأهل الدعابة ومن لا وزن له . وصنف منهم : الذين يستدعون الأحوال الشريفة بالتعرض بعد قطع العلائق المشغلة والأسباب القاطعة، فذلك التواجد يجمل منهم، وإن كان غير ذلك أولى بهم، لأنهم نبذوا الدنيا وراء ظهورهم، فتواجدهم مطايبة وتسلياً وفرحاً وسروراً بما قد عانقوا من خلع الراحات وترك المعلومات … فالتواجد من الوجد بمنـزلة التباكي من البكاء . وصنف ثالث : أهل الضعف من أبناء الأحوال وأرباب القلوب والمتحققين بالإرادات، فإذا عجزوا عن ضبط جوارحهم وكتمان ما بهم تواجدوا ونقضوا ما لا طاقة لهم بحمله، ولا سبيل لهم إلى دفعه عنهم ورده، فيكون تواجدهم طلباً للتفرج والتسلي، فهم أهل الضعف من أهل الحقائق” .
وفي كتابه ” اللمع ” بذل السراج الطوسي جهدًا محمودًا في إبراز الجوانب الأساسية للإسلام وهي القرآن الكريم والسنة النبوية في التصوف الإسلامي، وهو في ذلك بذل مشقة كما تشير ترجمته من حيث إنه تقمص دور عالم النفس من جهةٍ، ومن جهة أخرى كان حكيما ربانيا مبصرا ببصيرة إلهية يتسلل بوساطتها إلى خفايا الصدور وخفقات القلوب كما كان يتسلل إلى دقائق المعرفة ورقائق الذوق فيكشف عن أخطاء العابدين وعقد الذاكرين وتلبيسات المحبين ووسوسة الزاهدين وهي أخطر عقبات الطريق ومزالقه، فجلى لنا بذلك وجه التصوف الإسلامي كما جاء به القرآن وكما صوره النبي المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وكما عاشه رجاله وأعلامه وهم الصفوة من خلق الله والخيرة من عباده وخزائن العلم والمعرفة.
إشْرَاقَاتُ صُوفيَّةٌ :
وتظل المشكلة الرئيسة لأقطاب التصوف الإسلامي مع العامة هي الشيفرة اللغوية التي تقتنص الرمزية وحدها وتميل طوعا أم كرها إلى استخدام خطاب لغوي غير متحفي ( نسبة إلى المتحف ) أو مؤسسي تداولي، بل هي لغة تلجأ عادة إلى الاحتفاظ بأسرار دلالاتها الاستثنائية وكأنها تشكل نصا غير مواز للغة الفصيحة المؤسسية أو لغة الشارع الذي يحترف التلقي السلبي بامتياز . هذا ما يمكن أن نتلمسه بوضوح في الخطاب الصوفي عند محي الدين بن عربي، والحسين بن منصور الحلاج، والسهروردي، وغيرهم، ولعل متصوفة الإسلام ـ وحدهم ـ استطاعوا أن يتلمسوا خصائص اللغة العربية التي انفردت بها اللغة العربية من اشتقاق ونحت ومشترك لفظي، ورغم أن هذه الخصائص هي سمات ميزت اللغة العربية في استخدامها الفصيح إلا أنها لدى الصوفية شكلت مراوغة لغوية أمكنت من الفرار من شره التصنيف والقنص تارة، ومن مشاكلة الطرح الفكري داخل العقل تارة أخرى .
واللغة التي تبدو رمزية وغامضة معظم الوقت، وربما رمزية النظم وغموضه يعد من أسرار التصوف ؛ حيث إن الذين يعمدون الوصول إلى معارجه لا يتجرعوا مرارة الإخفاق وتعثرات النفس التي تصاحب الفشل في الحياة الاجتماعية، بل هو اختيار قصدي لا يعرف للتصنيف سبيلاً، أو مثلما يعاني إنسان ما متاعب الحياة ويتحمل عثراتها فيلجأ مباشرة صوب الاحتماء بأستار الدين كتوجه ظاهري فقط، أما أولئك الذين ذهبوا للتصوف ليس كطوق نجاة فحسب من فتنة الدنيا وكدرها فإنهم لم يغادروا الدنيا بمشاعرهم نحو نصوص السلف القدماء من أجل اجترارها بل تيقنوا أن بتصوفهم هذا يؤكدون إرادة تحقق العقل وكماله . بل إن معظم أقطاب الصوفية اعتبروا عن جهد وروية أن الإرادة هي جوهر الإنسان نفسه، وبمقتضاها يستطيعون إثبات وجودهم وكنههم، بل إن بعضهم طرح فكرة أن الإرادة هي سبيل الوصول إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مطلوبهم .
وربما الصوفي الوحيد الذي استطاع أن يهرب ولو قليلا من رمزية الاستخدام اللغوي الذي عادة يشير إلى غياب صاحب النص هو النفري صاحب المواقف والمخاطبات، حيث دلل في طرحه الصوفي على وجوده ضد الغياب السمة التي لازمت الكثير من أهل التصوف حتى وإن استعملوا تقنيات المتكلم إلا أن الغياب كان بارزا مشهودا . إن اهتمام النفري في المواقف والمخاطبات بالماورائية تعد إرهاصات تمهيدية للمريد بحثا عن طبيعة التصوف الإسلامي وصولا إلى غايته، لذلك لم يلجأ النفري في كتابه إلى انزياحات معرفية سابقة أو مبررات لتعبيراته بخلاف ما قام به محي الدين بن عربي في بعض مصنفاته التي قام بعمل شروح قصيرة لها خوفا من قصر الفهم وسوئه . لكن الكتاب في مجمله والذي يمتاز بلغة رمزية شديدة الترميز والتلميح بغير تصريح أو استطراد في الشرح يحتاج إلى قارئ مثالي يجيد آليات التأويل ويعتبر نفسه أمام نص أجنبي وليس عربيا فيستحيل بذلك مترجما فنيا وليس حرفيا له، مع محاولة اجتيار اللغة النصية المباشرة اجتيازا إلى لغة أخرى غير بائنة بسبب ثراء اللغة الرمزية المتوافرة بكتاب المواقف للنفري .
العَصْرُ الذَّهَبِيُّ للحَضَارَةِ الإسْلامِيَّةِ :
ويظل ما بين القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريين هو مرحلة ارتقاء التصوف الإسلامي وازدهاره بشهادة مؤرخي التصوف والمهمومين بالتجربة الروحية في الإسلام من المستشرقين، بل يحرص كثير على توصيف هذه المرحلة بأنها العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في مجملها لاسيما منذ خلافة هارون الرشيد وابنه المأمون الذي أسس في بغداد بيت الحكمة الذي استحال فيما بعد المركز الأبرز لترجمة المئات من الكتب في مختلف صنوف المعرفة والثقافة مما أمكن للثقافة الإسلامية الانفتاح على ثقافات العالم المعاصر آنذاك . وهذا الرفد الثقافي هو الذي نتج عنه وجود آثار فلسفية عريضة وظهور فلاسفة مثل الكندي والفارابي . والتجاوز الثقافي في هذه المرحلة أضفى أبعادا جديدة على الطرح الصوفي مثل المركزية الكونية والتحليل النفسي والمعرفة وأحوالها (1).
وفي ظل هذه الثورة الثقافية استطاع التصوف الإسلامي أن ينتقل من مرحلة الشيخ الصوفي الذي يهتم المريدون والمعارضون بأخباره وحكاياه وبعض قطوفه اللغوية القصيرة ومواقفه الشخصية مع العامة والأمراء على السواء، إلى مرحلة جديدة وفارقة في تاريخ التصوف وهي مرحلة تصنيف المؤلفات الكبيرة ذات التخصص، مما أمكن المتخصصون أن يطلقوا على هذين القرنين علم التصوف لكثرة التصنيفات والمؤلفات، ورأينا المصنفات الصوفية التي تجري في موضوع واحد وتقتصر على قضية واحدة بعينها بخلاف ما سبق من تصنيفات كانت تتناول موضوعات وقضايا شتى .
ويمكن توصيف هذه الحقبة الزمنية بأنها ثمة انتقال التصوف من مرحلة إبداع الكلمة والجملة والعبارة إلى مرحلة الخبرة الصوفية الواسعة والشاملة، وربما اتساع دائرة العلوم الإسلامية آنذاك وظهور عواصم عديدة للثقافة الإسلامية وانتشار العلوم الإسلامية وشيوع المدارس الدينية وفتح أبواب الاجتهاد الفقهي مع دعوات تجديد الفكر الديني هو الذي ساعد على ظهور علم التصوف في سلطة مجازه اللغوي . ومن أبرز هذه المصنفات التي راجت في عصر التصوف الذهبي معتمدة على سلطة المجاز كتاب ( اللمع في التصوف ) لأبي نصر السراج الطوسي، وكتاب ( قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد ) لأبي طالب المكي، وكتاب ( الرسالة في علم التصوف ) لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، وكتاب ( ختم الأولياء ) للحكيم الترمزي، و كتاب ( المواقف والمخاطبات ) لعبد الجبار النفري، وأخيرا المصنفات الصوفية الرائعة لسهل بن عبد الله التستري .
وتكفي الإشارة السريعة لسيرة سهل التستري دون مغالبة الولوج إلى تفاصيل المولد والمسيرة اهتماما بالطرح الصوفي نفسه، إلى ما أشار إليه الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق في سطور معدودة، يقول سهل، فيما يرويه القشيري : ” كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم الليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقوم الليل . ويشفق الشيخ على الغلام أن يصيبه برد، أو أن يكون عدم النوم سببا في ضعفه، ويشغل ذلك قلبه ؛ رحمة بالغلام وشفقة عليه، فيناديه أحيانا : يا سهل اذهب فنم فقد شغلت قلبي ” .
ويحاول الغلام الاستمرار إرضاء لرغبته، ويحاول الذهاب إلى النوم إرضاء لخاله، ويتأرجح بين هذا وذاك، وتتغلب الرغبة أحيانا، وأحيانا تتغلب إطاعة خاله، ولكن الأيام تمر، والغلام يحضر خلوة خاله، ويألف خاله وجوده بجواره، ويألف الغلام ملازمة خاله في تهجده وعبادته، حتى كانت لحظة فارقة في حياته الروحية صوب التصوف حينما قال له خاله محدثا إياه : ” قل بقلبك، عند تقلبك في ثيابك، ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك : الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي ” (3).
وكانت هذه اللحظة بحق فارقة في حياة القطب الصوفي سهل بن عبد الله التستري الذي تعنينا طروحاته الصوفية أكثر مما يعنينا تقصي حياته وأحواله ومقاماته، ولعل أبرز ما في تلك المسيرة هي مداومة القرآن الكريم التي وجد فيها النور والهداية .
ولعل أبرز ما يعنينا من قصة العارف بالله سهل التستري هو ذلك الطرح الصوفي الذي تجسد في جملة من الإشراقات التي تمثل تجربته الروحية وتعكس عباداته ومجمل طاعته لربه سبحانه وتعالى، ومن أهم تعاليمه في التصوف الذكر الدائم، فمن خلاله يتذكر الإنسان يوم الميثاق في الأزل، ويعتبر سهل التستري من الأوائل الذين ركزوا على تفسير القرآن الكريم، وكما يؤكد جوزيبي سكاتولين في كتابه ” التجليات الروحية في الإسلام ” فإن سهل التستري شدد على طلب التوبة المستمرة والتوكل على الله . وفي التوكل يقول التستري : ” أول مقام التوكل أن يكون العبد بين يدي الله عز وجل كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف أراد، ولا يكون له حركة ولا تدبير ” .
ولسهل التستري رأي في التوبة، فهو يقول إن التوبة النصوح ألا يرجع لأنه صار من جملة الأحبة، والحب لا يدخل في شئ لا يحبه الحبيب . ويقول أيضا : ” علامة التائب أن لا تقله أرض ولا تظله سماء إلا هو متعلق بالعرش وصاحب العرش حتى يفارق الدنيا ” . ويقول : ” ليس شئ في الدنيا من الحقوق أوجب عليَّ للخلق من التوبة، فهي واجبة في كل لمحة ولحظة، ولا عقوبة عليهم أشد من فَقْدِ علم التوبة، فقيل : ما التوبة ؟، فقال : أن لا تنسى ذنبك ” .
ويستطرد سهل التستري طويلا وكثيرا في حديثة الشائق عن التوبة، بوصفها حالا توصل العد إلى أعلى المقامات الصوفية، وهو يشير إلى أن التوبة لا تصح لأحد حتى يدع الكثير من المباح مخافة أن يخرجه إلى غيره، تماما قالت أم المؤمنين السيدة عائشة ( رضي الله عنها وعن أبيها): ” اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال ” .
أخطأ من ظن أن النافذ إلى عوالم الصوفية المختبئة هو محاولة من محاولات الهروب من عوالم أخرى محيطة قد تدفعه دفعا صوب الإحباط والاكتئاب، لأن تأريخ التصوف الإسلامي الضارب في القدم لم يشر إلى هذا الظن الخائب، لكن يظل الولوج إلى أكوان التصوف والصوفية رغم ذلك معادلا وجدانيا لكيانات إنسانية متشظية بالسمو والاعتلاء غير التنافسي، ولأن المتصوف بطبيعته أكثر ميلا للتعامل مع الباطن والجوانب المضمرة والخفية عن المشترك الجمعي، فهو بالضرورة لا يعبأ أو يكترث بالتصارع الاجتماعي لدى أعضاء المجتمع الواحد، الأمر الذي يجعله منفردا على منصة التتويج الروحي .
ولعل سمة السمو ومزية الاعتلاء التي انفرد بهما الصوفي، جعلاه يعزز فرضية بلاغة التعبير والإفراط المثمر تأويليا في الرمزية التي أرهقت النص الصوفي نفسه، وجعلت آليات التلقي أكثر اضطرابا في نفس الوقت، ولا يمكن أن يهرب النقاد العرب عبر رحلة النقد العربي الممتدة من ابن قدامة الجمحي وحتى عصرنا الراهن من حقيقة مفادها أن التصوير المجازي في النصوص الصوفية هي أحد أهم روافد الشعر العربي لاسيما ثورات الشعر الحر وقصيدة النثر .
( 2 ) والصورة اللغوية في النص الصوفي هي بعيدة تمام البعد عن فعل الواقع أو الرصد المنطقي لحركة التاريخ، فإذا كانت الصورة اللفظية تعد لغزاً في ذاته، فإن المعنى في جملته يعد ملغزا يتطلب قدرا طويلا من الوعي لاقتناص تفاصيل تدل على ما يريده الصوفي من نصه. ومن قبيل هذا الضرب اللغوي ما نظمه سلطان العاشقين عمر بن الفارض قائلا :
” قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ .
لم أقض حق هواك إن كنت الذي لم أقض فيه أسىً ومثلي من يفي .
ما لي سوى روحي وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرفِ” .
وكعادة أهل السمو والاعتلاء، أعني متصوفة الإسلام، نجد مجمل نصوصهم اللغوية غامضة معظم الوقت والتوصيف، لاسيما وهم يصفون تجربتهم ويتحدثون عن تفاصيلها، وهو ما نلمحه في قصائد ابن الفارض التي تفوح منها الغموض والمدلولات غير المفسرة لمعانيها المقصودة، ومن ذلك قصيدته الأشهر المعروفة بالتائية الكبرى، والتي يقول فيها :
( سقتني حميَّا الحبِّ راحة َ مقلتي وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ
فأوهمْتُ صَحبي أنّ شُرْبَ شَرَابهِم بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة ِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي ومنْ شمائلها لا منْ شموليَ نشوتي
ففي حانِ سكري، حانَ شُكري لفتية ٍ بهمْ تمَّ لي كتمُ الهوى مع شهرتي ) ..
وفي هذه القصيدة الشهيرة تنقسم التجربة الصوفية عند عمر بن الفارض إلى ثلاث مراحل رئيسة، هي : مرحلة الفَرْقِ وفيها يصف الشاعر الصوفي حالة التفرقة والتمييز عن محبوبه الذي يخاطبه هو بلغة حب عميقة وواسعة، ومرحلة الاتحاد وفيها يصف الشاعر حالة الوحدة بينه وبين محبوبه، أما المرحلة الأخيرة والمسماة بالجمع فيصف الشاعر فيها حالة الوحدة والاندماج بين ذاته هو وكل الموجودات . ويجتهد جوزيف سكاتولين في رصد لغة الحب في تائية ابن الفارض، حيث يقوم بدراستها دراسة دلالية حيث أشار إلى تعدد الدلالات اللفظية للأصول اللغوية : ( حـ ـ ب ـ ب )، و ( حـ ـ بٌ )، و ( هـ ـ و ـ ى )، و ( و ـ ل ـ ي ) وهي الأصول اللغوية الثابتة التي تشكل مراحلة الثلاث التي سبق سردها .
وإذا كان بعض نقاد الأدب العربي حاولوا أن يتعاملوا مع النص الصوفي ـ كونه نصا لغويا ـ كخطاب أدبي، إلا أنهم قد واجهوا ثمة إشكاليات جعلت النص الصوفي أبعد ما يكون من تفكيكه، وجعلت النقاد أنفسهم بمنأى عن تأويل النص الصوفي كخطاب أدبي، وهذه الإشكاليات نجمت عن ظواهر شتى من أبرزها أن النص الصوفي الذي امتاز ببلاغة الصورة وغياب المعنى بعيدا عن رصد الناقد لم يكن محكوما بالنظام اللغوي الذي يشير إلى فرضية العلامة والدال والمدلول التي تم إيفادها إلينا من رواسب المدرسة البنيوية في النقد الأدبي، وأيضا لم يخضع هذا النص إلى أفق التوقعات أو جماليات القراءة التي تم تصديرها إلى نقدنا العربي الأصيل من خلال محاولات هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر في نظريتهما الموسومة بالتلقي الجمالي .
والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي خير مثال وأنموذج للتأكيد على افتراضية صعوبة اقتناص آليات وتقنيات النقد الأدبي لتفاصيل الصورة البلاغية في النص الصوفي، وخصوصا الديوان الأشهر في تاريخ الشعر العربي ” ترجمان الأشواق ” الذي لايزال طرحا إشكاليا في التلقي، وفي هذا الديوان نسج ( ابن عربي ) قصائد رمزية على طرائق الصوفيين الذين يتغزلون فيها بإنسان، وهم لا يقصدون من وراء ذلك سوى الإشارة إلى معانٍ سامية، وخوفاً من سوء الفهم والإدراك لصنيع ابن عربي في ترجمان أشواقه لجأ إلى وضع شرح للديوان خشية أن يتبادر إلى ذهن العامة فهم خاطئ لا يتناسب وجلال القصائد الصوفية الماتعة .
( 4 ) ولاشك أن مدلولات خطاب الصوفي بما يتضمنه من صور بلاغية عصية على التأويل إفراطا في رمزيتها ترفض بالضرورة الرؤية الخارجية للناقد أو المتلقي، لاسيما وأن الخطاب الصوفي تحكمه أحوال ومقامات ليست من طبائع مهارات النقد الأدبي المتداولة، كما أن الصورة البلاغية في النص الصوفي تخضع فقط لحالات الفيض الداخل للمتصوف، وبالقطع من بالغ الصعوبة لدى محترفي النقد إيجاد آلية علمية للتفريق بين الحال أو المقام أو حتى توصيفهما .
وهذا الملمح البلاغي الأقرب للفلسفة نجده بوضوح في النصوص الشعرية لدى المتصوفة لاسيما وهم يفرقون بين أحوال المحبة والوجد والعشق الإلهي، وجميع تلك الأحوال هي من علامات القرب التي تعني الانقطاع عن كل شئ سوى الله عز وجل، وربما قد لا يفطن البعض إلى أن بعض نظم أهل التصوف كان إجابة لأسئلة وُجهت إليهم حول هذه الأحوال، فسُئل أبو بكر الشبلي مرة : هل يقنع المحب بشئ من محبوبه دون مشاهدته، فأنشد يقول :
“والله لو أنك توجتني …. بتاج كسرى ملك المشرقي
ولو بأموال الورى جدت لي …. أموال من باد ومن قد بقي
وقلت لي لا نلتقي ساعة …. اخترت يا مولاي أن نلتقي”
ويمكن في هذا المقام الإشارة إلى واقعة تاريخية تتعلق بحال والمقام، وهي حينما وجد شهاب الدين السهروردي لغطاً واسعاً بين المريدين في فهم أوجه الفرق بين الحال والمقام شرع إلى تبسيط الفروق بينهما، موضحاً اختلاف الشيوخ وأقطاب الصوفية في التلميح بهما وصعوبة التفريق بينهما لتشابهما في النفس، وكان من أوائل الذين أدركوا وجود ضوابط ومحكات حاكمة للتفرقة بين الثنائيات لاسيما التي تتعلق بالتصوف، وشدد على وجود ضابط يفرق بينهما، ويشير إلى ذلك بقوله : ” فالحال سمي حالاً لتحوله، والمقام مقاماً لثبوته واستقراره، وقد يكون الشئ بعينه حالاً ثم يصير مقاماً، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس ثم تعود ثم تزول، فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب عليه حال المحاسبة، وتنقهر النفس وتنضبط وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه ” .
وتكمن بلاغة الصورة في النص الصوفي في محاولة المتصوف نفسه إثبات شخصيته التي هي بالضرورة تتماهي في أكوان غير مرئية، والتي تتعالى عن كافة الضغوط المجتمعية أو بالأحرى هي في حالة اعتزال للتنافس الاجتماعي صوب مكاسب دنيوية مادية، وهذا الإثبات عرج إليه المستشرقون الإسبان وهم يتناولون النصوص الصوفية بالدرس والتحليل وانفضوا إلى إقرار مصطلح النرجسية الشخصية أو الحضرة الشخصية، وخير مثال لهذه الصورة البلاغية الحسين بن منصور الحلاج بقوله :
” لبيك، لبيك، يا سري ونجوائي لبيك لبيك، يا قصدي ومعنائي
أدعوك، بل أنت تدعوني إليك فهل ناديت إياك أم ناديت إيائي
يا عين عين وجودي يا مدى هممي يا منطقي وعباراتي وإيمائي”
وحينما حاول نقاد الأدب في استخراج ملامح الرؤية الشعرية لدى المتصوفة وجدوا أن يبحثون عن براهين لفرضيات معدة مسبقا، فوجد هؤلاء أنه من العبث التوغل في إشارات لفظية لمكونات لغوية تمثل النص الذي يظل غائبا وبعيدا عن التأويل المباشر، بل حاول بعض النقاد فهم النص الصوفي وتحليل بلاغة الصورة الشعرية وفق مذهب لغوي شديد المعاصرة هو ما عُرف بأيديولوجيا اللغة، وأشار كل من خضر الأغا في كتابه ” ما بعد الكتابة نقد أيديولوجيا اللغة ” ( 2008) ، وعبد القادر فيدوح في دراسته الموسومة بـ ” سمت النص الصوفي ” (2018) إلى أن المقصود بأيديولوجية اللغة هو مذهب اللغة لا اللغة نفسها استطاع عبر صياغته المتماسكة أن يجعل العالم قاطرة تجرها أحصنة اللغة، فتحول النص، وتاليا العالم إلى بحيرة من الوحدات الصغرى والكبرى، وتحول الخطاب حول اللغة إلى أن يكون هو اللغة نفسها.
لكن رغم جهد النقاد وعلماء اللغة في التكريس لهذا المذهب اللغوي، إلا أن حالات السمو الصوفي جعلت بلاغة الصورة لدى الصوفيين بمنأى عن هذا الامتلاك النقدي، وظل الصراع لدى الناقد قائما بين الرؤيا وتأويل الإشارات اللغوية في الخطاب الصوفي قائما دون جدوى الوصول إلى مرافئ اليقين، وعلى سبيل المثال رغم اجتهادات النقاد في تأويل نصوص النفري الاستثنائية في تاريخ التصوف الإسلامي إلا أن تلك الاجتهادات ـ في ظني ـ باتت خائبة دون الوصول إلى يقين نقدي يمكن إيراده للمتلقي أو القارئ، ولعل السبب في ذلك هو تحولات المعرفة داخل النص وتطورها، فبرغم أن النص الصوفي يبدو تراثيا بحكم موقعه الزمني، إلا أن المعاصرة والجدة والحداثة من أبرز سماته مما يجعل تداخلا بين موقفي الاتصال التراثي والمعاصر وهذا التداخل يشكل صعوبة لدى الناقد وهو يتناول نصا صوفيا بالغ الترميز . ولعل سمة التداخل هذه امتزجت فيها البلاغة التخييلية بالغاية التواصلية التداولية وهو الملمح الأكثر بروزا في المواقف والمخاطبات لاسيما المواقف التي تمثل مشهدا افتراضيا.
وتبلغ ذروة بلاغة السمو الصوفي في الصورة اللغوية بكتاب النفري ” المواقف والمخاطبات ” الذي استطاع اختزال المشاهد والمواقف الإنسانية في أقوال وحكم، وهي بالقطعية تشاكل الضوء المضغوط المكثف الذي يستدعي نوعا خاصا من المراقبة دون غمض العين عنه . ومن أجمل التوصيف لمشاهدات النفري ومخاطباته الذهنية ما ذكره سكاتولين بأنه ” كان صوفيا عميقا، بل عبقريا، مما يجعلنا نعتبره من أعمق المفكرين في الإسلام “، ولاشك أن القارئ للمواقف والمخاطبات يقف على ثمة حقائق بعينها يمكن رصدها الآن في ملامح، مثل المصالحة الرائعة مع ذاكرتي القلب والعقل معًا، ومحاولته البديعة في كسر الصمت الصوفي الطويل الذي لازم كثيرا من الصوفية، يقول النفري:
” أوقفني وقال لي أنت ثابت ومثبت فلا تنظر إلى ثبتك فمن نظرك إليك أتيت وقال لي أنظر إلى مثبتي ومثبتك تسلم لأنك تراني وتراك وإذا كنت في شيء غلبت.
وقال لي متى رأيت نفسك ثبتاً أو ثابتاً ولم ترني في الرؤية مثبتاً حجبت وجهي وأسفر لك وجهك فانظر إلى ماذا بدا لك وماذا توارى عنك” .
______
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل/ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس التربية الإسلامية (م)/كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.