التوجيه المدرسي ومستجدَّات الذكاء الاصطناعي

image_pdf

تتواتر التطويرات التكنولوجيَّة والرقميَّة وتتكثّف بشكل سريع جدّا تسربت معه تطبيقاتها إلى جميع الميادين التقنيَّة منها والعلميَّة والطبيَّة والإداريَّة والماليَّة والإنسانيَّة أيضا، وبلغت درجة من التعقيد والتدقيق أصبحت معها تحاكي العمليات العليا للذهن البشري مثل التفكير والحوار والاستشراف وقراءة الأفكار ولم تعد تكتفي بالنطق والترديد فقط. فأصبحت بذلك أكثر قربا من الإنسان وألطف التقاء به لكن أخطر أيضا على عمله وأنشطته المهنيَّة خاصة منذ ارتقاء تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأخيرة إلى مستويات مذهلة جدّا، مع روبوتات التشات بوت chatbot أو روبوتات المحادثة القادرة على التفاعل المباشر مع البشر بالحوار وبالإجابة على الأسئلة وأشهرها روبوت شات جي بي تي chatGPT الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط العلميَّة والإجتماعيَّة منذ تصنيعه في أواخر سنة 2022. وأصبح استعماله خطيرا على عديد الأنشطة والمهن بما فيها المهن الاستشاريَّة كالتوجيه والإرشاد مثلا، التي أصبح استبدال الأشخاص فيها بالروبوت ممكنا، فتسبَّب بذلك وبما يتيحه أيضا من إمكانيَّات للغش والتحيّل في ” زوبعة كونيَّة غير مسبوقة “(1)، ممّا أدَّى إلى إبداء عديد الحكومات والمؤسسات الرسميَّة مواقف محترزة منه وأُطلقت ضدّه حملات المطالبة بإيقاف استعماله وبضبط قواعد توظيفه السليم. فهل تكون لهذا الروبوت تأثيرات على التوجيه المدرسي تؤكّد مخاطره عليه أو ترسم منافذ استفادته منه؟ وما هي سبل التعامل الأفضل معه والاستغلال الأجدى لما يتيحه من فرص لتطوير أنشطة هذا التوجيه؟

ارتقت النسخ الجديدة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى مستويات عليا ومتقدمة جدّا من الآداء جعلتها قادرة على المحادثة مع مستخدميها بشكل تفاعلي مباشر وهو ما اختصّت به روبوتات الحوار وخاصة منها روبوت شات جي بي تي chatGPT الذي بلغ حاليا نسخته الرابعة. فهو قادر على الحوار ” بأكثر من 95 لغة من ضمنها اللغة العربيَّة، وله قدرة على الردّ على الأسئلة الموجهة إليه، بما في ذلك القراءة والتلخيص وحل المسائل الرياضيَّة وإنشاء مناهج لدورة تدريبيَّة ما، وشرح المفاهيم المجرّدة وإنشاء الأكواد البرمجيَّة وكتابة أنواع مختلفة من المقالات والتقارير، بالإضافة إلى أنه يقوم بكتابة مقالات دراسيَّة، وينتجها بأسلوب مقنع وبلغة نابضة بالحياة ومماثلة لتلك التي يكتبها البشر.

إن ما يميّز شات جي بي تي chatGPT أنه يعطي الباحث الإجابة على سؤاله بشكل مختصر وواف وحل المسائل الرياضيَّة والفيزيائيَّة المعقدة وغيرها من العلوم بثواني وبدقة عالية “(2). وهو يستجيب لكل ما يطلب منه ويؤدّي كل الوظائف بإتقان. وهذا يفرض تحدّيات كبيرة على عديد المؤسَّسات خاصة منها التعليميَّة حيث يستعمل التلاميذ هذا الروبوت للغش والاحتيال والمؤسسات التشغيليَّة، حيث يقوم بتعويض العمال والتسبب في بطالتهم، إذ أنه صار قادرا على آداء مهامهم باتقان كبير، بما في ذلك الأعمال الفكريَّة والذهنيَّة كالإستشارات والإرشاد وليس المهام الآنيَّة المعتمدة على ترديد مجموعة من الحركات المبرمجة. ومن هذا المنفذ يمكن أن تكون مهام مستشاري التوجيه ومختصيه وأساتذته مستهدفة حسبما يراه البعض. والمشكل هنا على وجه الدقة ليس في الذكاء الاصطناعي، فالتوجيه المدرسي يستعمله بعديد تطبيقاته الرقميَّة من زمان، لكن المشكل في المستجدات التي ظهرت أخيرا مع روبوتات الحوار منذ شهر نوفمبر 2022.

فالتوجيه المدرسي في جانبه التفاعلي المباشر، وليس التقني الآلي، مبني بالأساس على الحوار والاستشارة، يطمح من خلالهما إلى أن يصبح تربية على التوجيه عمادها التربية على المشروع والتربية على الاختيار وعلى اتخاذ القرار بما يجعله معتمدا للحوار بشكل رئيسي.  أما في جانبه التقني فهو سلسلة من الأنشطة ومن الأدوار التي تؤديها أطراف متعددة منها الإداريون كالإعلام بالمواعيد وإعداد البيانات وتجهيز الملفات، ومنها التربويون كتقديم الوثائق التي سيقع اعتمادها وتوضيح محتواها وكيفيَّة التعامل معها والاستفادة منها في تدقيق الاختيارات وكذلك التعريف بمواقع وبمواعيد تنزيلها وكيفيَّة سحبها أو تعميرها عن بعد عبر تطبيقات ألكترونيَّة معتمدة رسميا أو أخرى منزّلة على الشبكات الإجتماعيَّة للدعم والمساعدة. وهنالك الطرف الآخر المتمثّل في سلك مستشاري التوجيه الذين تكون تدخلاتهم نوعيَّة أكثر يملؤها التفاعل المباشر مع التلاميذ في لقاءات جماعيَّة وفرديَّة حول بناء المشروع الشخصي اعتمادا على ما يتوفر من محددات ذاتيَّة وموضوعيَّة كتقييم القدرات والإمكانيات والاهتمامات والميول، وحول تمشيات اتخاذ القرار وحسم الموقف بواقعيَّة وباقتناع بعيدا عن الطوباويَّة والتردّد المعطل لاستشراف الآفاق البناءة لهذا الإختيار ولهذا المشروع، أي هم أكثر المشتغلين على التربية على التوجيه ذاتها.

ولئن تبدو أدوار الأطراف المذكورة في المقامين الأول والثاني ثابتة ودائمة، فإن دور المستشار حسب بعض المتابعين صار قابلا لأن يختزل في تطبيقة ذكيَّة تنزّل على هاتف تلميذ أو على حاسوبه ينتقيها من الأنترنيت من ضمن تطبيقات عديدة تُقترح عليه أو تُسوّق له. فهل في ذلك خطر على وظيفة المستشار أم فرصة لتطويرها وفتح آفاق جديدة أمامه تزيد من إشعاعه ومن شموليَّة تدخلاته؟

يجزم البعض أنه ” لن تكون للتوجيه مكانة استراتيجيَّة مستقبلا ضمن هياكل الدعم المدرسي لتغيّر حاجيات الناشئة ولاشتغال الفضاء المدرسي بطريقة وبأهداف مغايرة لما نعرفه اليوم “(3). إضافة إلى أنّ اعتماد الذكاء الاصطناعي يتنزّل ضمن دائرة كبرى من الوقائع التي مسّت المدرسة ووظائفها وأنشطتها في العمق كما مسّت العمليَّة التربويَّة التي تدور داخلها برمّتها وليس التوجيه المدرسي فقط. إذ أصبح التكوين مركزا على غرس الكفايات لدى التلاميذ وعلى تطوير مهاراتهم فيها حسب مقاييس تستجيب لسوق الشغل المتحول باستمرار والذي يحبّذ اكتساب المهارات وامتلاك القدرة على الإنجاز وعلى مواكبة مسار الإنتاج المتواتر أكثر من التدرج في المستويات وتحصيل الشهائد التقليديَّة . ولم تعد المعرفة العامة والشموليَّة هدفا، ولا كذلك تنمية المعلومات وتحصيل تكوين عام متكامل. فالمعلومات صارت لها خزائنها الذكيَّة الملأى والمحفوظة بإحكام. والمطلوب هو التعلّم، أي اكتسابها ذاتيا على مدى الأيام وتحصيل القدرة على الاستفادة القصوى من مختلف البيئات المعرفيَّة وليس التعليم المرتكز على ضخّ المعلومات وتلقينها للتلميذ بشكل عمودي. وهذا حوّل مركزة العمليَّة التربويَّة من المعلّم إلى التلميذ المستفيد. وغيّر الاهتمام الشغلي من ضرورة الإحاطة بسلسلة الإنتاج المتواترة بكليتها إلى مهمّة محددة يؤدّيها العامل وتحتاج منه إلى مهارات مدقّقة ومحدّدة لا يستدعي اكتسابها مسارا دراسيا كاملا وسلسلة درجات يستغرق المرور بها السنوات الطويلة. بهذا تغيّرت علاقة الشغل بالمعرفة أو علاقة التكوين بالتشغيل وانحسر كمّ المعرفة الذي يحتاجه المتلقي ممّا سيؤثر على حضوره بالمؤسسة مدّة وكثافة وحجما، ويؤثر بالتالي على الزمن المدرسي من جهة، وعلى الفضاءات التربويَّة وعلى الأدوات المدرسيَّة ونوعيتها من أخرى، إذ ستتبوّأ فيها الأدوات الذكيَّة المكانة الأولى. والأكثر من ذلك والأعمق أن هذا التأثير سيلحق أيضا بتمثل التلميذ لذاته ولإمكانياته ولقدراته على المواكبة ولمساره الدراسي ومساره المهني المستقبلي. لكن حتى إن كان الإرشاد متاحا له في التطبيقات الذكيَّة وفي المنافذ الألكترونيَّة، فهل سيغنيه ذلك عن حاجته إلى مستشار التوجيه وعن ضرورة التواصل معه للاسترشاد ولتقييم عديد المسارات والمشاغل؟

لا تبدو لنا الموافقة على هذه التساؤلات أكيدة، فهل أن مجرد اكتشاف جديد في الذكاء الإصطناعي يجعلنا نستغني عن خطة وظيفيَّة تربويَّة متأصِّلة؟ ذلك لم يحدث سابقا رغم الكم الهائل من الاكتشافات التكنولوجيَّة والرقميَّة التي جاءت إلى الميدان التربوي، فالوظائف تطوّرت وتفرعت وأصبح كم المعرفة الذي تحوز عليه كبيرا ولكنها لم تلغ. وهل أن إجابة الروبوت الصوتيَّة أو المكتوبة عن سؤال المستفسر ترتقي إلى مستوى الحوار وتستوفي أركانه حتى تأخذ مكان الحوار البشري؟ هل في هذه الإجابة وعي وقصديَّة وتفاعل يجعلها تنضح بالمشاعر والحميميَّة أم مجرّد ردّ آلي جاف على استجواب يفتقد روح الحوار ومهجته؟ نفرِّق عادة بين الاتّصال والتواصل ونجعل التغذية الراجعة مقياس التمييز بينهما ودليل الارتقاء من الاتجاه الواحد الأصم إلى الذهاب التفاعلي في الاتجاهين وإعطاء شحنة للقاء. أفلا يجب أن نفرّق هنا أيضا بين الاستفسار الآلي الموجّه للروبوت كفعل ميكانيكي أحادي والحوار كآليَّة تفاعليَّة بنفس المقياس أيضا، أي مقياس التغذية الراجعة وما تختزله من التفاعل التعاطفي البشري؟ وهل أن الروبوت يقوم بكل ما يقوم به المستشار فعلا وبنفس التوهج الإنساني الداعم للتواصل والمولد للأفكار بشكل تواتري متبادل؟

الروبوت آلة تستجيب لفعل ميكانيكي وفق ما شُحنت به من آراء وأفكار وتوليدها للحوار محكوم بهذا الشحن دون أن يرتقي فعلها الآلي إلى فعل إنساني مستوفي الأركان كفعل  المستشار الذي يحاور وليس يجيب فقط، أي يتبادل الدور مع المسترشد ويتولى هو السؤال ويعكس اتجاه الفعل الكلامي المستفسر. ثم هو يتابع ردود الفعل والتفاعل مع الفكرة أو الإجابة ويقرأ ما ارتسم من ذلك على ملامح الوجه وعلى بريق العينين وتلوّن البشرة وطلاقة الصوت وتموّجات النبرة. فللوجه لغته أيضا ومن خلالها يبني المستشار مواقف وردود أفعال وتغذية راجعة تدفع الحوار وتعيد إطلاقه في اتجاه مكامن أخرى ومسارب إضافيَّة من شأنها أن تميط اللثام عن دوافع السلوك وأسبابه وتنير ظلال القول وضمنياته، فهل يقدر الروبوت على ذلك حتى نجزم بأنه صار يلعب الدور العملي للمستشار. ” ممَّا لا شكّ فيه أننا أمام طفرة علميَّة في عالم التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي… تتيح للطلاب تحسين تفكيرهم وإعطائهم الفرصة والمساحة للتفكير بشكل إبداعي والذي سيكون بالتأكيد مثمرا على المدى الطويل “(4). أما أن تعوّض هذه التقنية المستشار كليا فهذا ما لا مبرر لمجرد التفكير فيه حاليا وحتى إن ” أثبتت أنها توفر الكثير من الإمكانات وخاصة في المجال التعليمي ولكنها تحتاج إلى التنظيم كغيرها من التقنيات حين اختراعها “(5) وتحويلها إلى فرصة للاستفادة الفعليَّة. أما فوضى الكفايات وتداخلات المهارات وتقاطعاتها مع الإمكانيات والميول ومسالك الدراسة والتشغيل فمازالت وستظلّ محتاجة إلى حوارات عميقة وتبادل للأفكار وسبر لأغوار النفس وكشف مراكز إهتمامها. فهي ليست تطبيقات خوارزميَّة تنزّل بحاسوب يديرها ميكانيكيا بل لا يقدر عليها إلى حدّ الآن إلا المستشارون الفعليون وتخرج عن كفاءة التطبيقات الذهنيَّة واشتغال الروبوتات التي لا تستحضر تنوّع مهن المستقبل ومختلف المسالك المؤدية إليها، ولا تحلل الشخصيَّة باهتماماتها وميولها لتقدم توصيات ومقترحات دقيقة لها كما لا تربط العلاقة بين المسترشد والمهنيين للحديث عن مسارهم وتعرّجاته واشتراطات النجاح فيه، لذلك فإنّ زمن تجاوز المستشار لم يحن بعد، وقد لن يطرح ذلك أبدا في المدى القريب خاصة وقد اتضح أن ” تشات مازال يقترف العديد من الأخطاء وحتى البدائيَّة منها لأنه لم يسبق أن تمّ تدريبه عليها كفايَة بما يفرض ضرورة التحرّي والحذر فيما يقدمه من معلومات ومقترحات ونصوص “(6)  بل أحيانا قد تكون ” إجابته جديرة بأن يسند لها صفر لو أتاها تلميذ في فرض كتابي “(7). والتشابه المؤكد الآن بين ما ينتجه تشات جي بي تي وما ينتجه البشر حسب الاختبارات الدقيقة التي أجريت عليه هو في الشكل أكثر منه في المضمون أي في الصياغة وفي القيمة اللغويَّة لهذا الخطاب الذي يصوغه بلا أخطاء موحشة أمّا المضمون فيجب الحذر منه كثيرا “، ممَّا دفع بمؤسّسيه ومطوّريه أنفسهم إلى المطالبة بتعليق استخدامه لفترة 6 أشهر على الأقل أمام كمّ الإزعاجات والإرباكات المسجّلة وهو ما زال في خطواته الأولى “(8). ويبقى الروبوت في كل الحالات آلة يصنعها الإنسان ويدرّبها بنفسه ويشحنها بمعلوماته وبمحتوى هو من يوجده ومن يتحكم فيه وفي كمّه وفي نوعيته. ولم يخسر الإنسان إلى حدّ الآن أي من تعاملاته مع الآلة وظل يديرها دائما وفق حاجياته ووفق مقامه في الطبيعة.    
_________

الهوامش :

1 – منصف الخميري، جربت لكم هذا الغول التكنولوجي الزاحف ” تشات جيب ي تي، ج1، مجلة جلنار الألكترونيَّة، 03 أفريل 2023  https://www.inforum-jollanar.tn/

2 – أ. سامر جابر، الذكاء الإصطناعي في التعليم تهديد أو فرصة chatGPT نموذجا ص 2. نشر مركز الأبحاث والدراسات التربويَّة  https://esrc.org.lb/article.php?id=4507&cid=253&catidval=248  

3 – خالد الشابي، التوجيه المدرسي: من الأنشطة التربويَّة التي تهدد تطبيقات الذكاء الإصطناعي وجودها، جريدة الصحافة يوم الثلاثاء 16 / 05 / 2023 ص 8.

4 – أ. سامر جابر، مرجع مذكور سابقا ص 3.

5 – نفس المرجع السابق .

6 – منصف الخميري، مرجع مذكور سابقا.

7 – نفس المرجع السابق .

8 –  منصف الخميري، جربت لكم هذا الغول التكنولوجي الزاحف ” تشات جيب ي تي، ج2، مجلة جلنار الألكترونيَّة، 10 أفريل 2023   .https://www.inforum-jollanar.tn/%D8%AC% 

__________

*محمد رحومة العزّي/ قابس في 21 / 05 / 2023 .

جديدنا