ركائز تجديد الخطاب الديني في ضوء التوجّهات المعرفيَّة المعاصرة

image_pdf

تحتاجُ مجتمعاتنا العَربيَّة والإسلاميَّة إلى خطابٍ إسلاميٍّ جديدٍ، وليس مجرد التَّطوير في مظهرِه القَائم على فِكرةِ الطلاءِ الخَارجيِّ، وإنما يتطلب فعل التَّجديدِ تغييرا نوعيًّا في بنيةِ الخِطابِ وأولوياتِه، وموضُوعاته، ومن ثمَّ إعادة صيَاغةِ أطروحاتِه، وتجديد وتحديث تقنيات هذا الخطاب ووسائله، والأهم من ذلك تَطويرِ قُدراتِ حَامِلي هذا الخِطَاب ومنتجيه أيضا؛ من أجل تلبيةِ احتياجات الفردِ والمجتمعِ في ظل الظروف الآنية، والإحداثيات المتسارعة الراهنة، واستجابة للتَّحديات التي تواجه المجتَمعَات العربيَّة، في سياقِ حركةِ تفاعلها مع ما يَجري حولها وفق مُعطَياتِ التَّثوير التُّكنُولُوجي من نَاحية، والتَّوجُّهَات المعرفيَّة المعاصرة من ناحيةٍ أخرى.

ولقد جَاءتْ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ بمدحِ التَّجديدِ، وبيان أهميتِه، بل إنَّ نصوصَ الشرعِ الشريفِ ـ نفسها ـ تؤكد ذلك المعنى، “فتارة يحدِّثنا الشَّرعُ الشَّريفُ عن التجديد باعتباره أمرا واجب التنفيذِ، ويحث عليه المسلمين وذلك في مقامِ الإيمان، فإنَّ الإيمانَ نفسه يبلى ويخلق ويحتاج إلى أن يجددَ في قلوبِ الموحدين، وذلك في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ” جددوا إيمانكم “، قيل يا رسول الله : وكيف نجدِّد إيماننا. قال : أكثروا من قول لا إله إلا الله “، وتارة يحدثنا الشرع عن التجديد في الدين باعتبار أنَّه نعمةٌ يمن الله بها على هذه الأمةِ الخاتمةِ “.

ولهذه الأسباب، دَعت الحَاجة إلى خطابٍ دينيٍّ بنائيٍّ وليس إنشائيا ؛ يدفع حركةَ المجتمع عبر الفرز بين قيم التحلِّي وقيم التخلِّي، ويسعى ـ هذا الخطاب الديني ـ إلى إدراك سنن التغير الحضاريِّ، بحيث يعيد للإنسانِ المسلم دوره وفاعليته وحضوره في حَركةِ المجتمعِ. وهذا الخطابُ ينبغي أن ينبعَ أولا من طبيعةِ الإسلامِ الذي ينطوي على دعوة مستدامة إلى التجديد، وهذه الدعوة تستمد مشروعيتها من الحديثِ النبويِّ الشريف الذي رواه أبو داوود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها “. ويعد هذا الحديث هو الحديث العمدة في موضوع التجديد، فلا يكاد باحثٌ أو مفكرٌ أو مجددٌ يرنو إلى قضية تجديد الفكر الديني إلا ويكون هذا الحديث مرتكزه الرئيس.

والتَّجديدُ لا يعني تغيير جوهر الدين أو أصوله، وإنما يعني إعادته إلى النَّقاءِ الذي كان عليه يوم نشأته؛ حيث الأصالة الفكرية لأركانِهِ وثوابتِه، عن طريق تجديدِ الإيمان به والالتزام بتعاليمه الصحيحة بعيدًا عما قد يعتريها من لغطٍ وشوائب، فضلا عن قدرته على استيعاب مستجدات العصر وتوجهاته المعرفية المعاصرة، وما تحمله من قضايا لم تكن معروفة من قبل، وهي بذلك بحاجة إلى بيان وتوضيح موقف الدين منها.

لذا تجدر الإشارة إلى أن المقصود بالتجديد هنا هو تجديدِ الخطاب ِوالفكر الإسلاميِّ، ويحسن التمييز بين النص الديني من ناحية، والفكر والخطاب الديني من ناحية أخرى. فالنص يتمثل في القرآن الكريم والحديث الشريف الصحيح والثابت وهما أصلان يتسمان بالثبات المطلق والأصالة، وهو نص يحمل بين طياته التجدد التلقائي، الأمر الذي يسمح له بالوفاء بالاحتياجات الطارئة والمستقبلية. أما الخطَاب الديني، فهو ما يتعلق بالفكر الذي اجتهد في استنباط أحكامه من النص الثابت، وهذا الخطاب هو أولى بالتجديد نظرًا لعوامل أعاقت تجديده وتطويره.

ووفقًا لهذا، فإن التجديدَ “لا يعني المساس بثوابت العقيدة والعبادات ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، إنما يعني إعمال العقل في المشكلات المعاصرة لاستنباط الأحكام الشرعية المناسبة، والحلول الملائمة لوضع الأمة الإسلامية على طريق النهوض الحضاري.

ويؤكد الكثير على أنه من المعضلات التي أهمت كل مهتم ومعتن بالشَّأن الديني في الآونة الأخيرة قضية تجديد الخطاب الديني، وهي بالقطع ليست حديثة الطَّرح ؛ بل هي قديمة في مضمونها ومدلولاتها، وهي بالضرورة متجددة التصاعد مع عصورِ الإسلام المختلفة، ولعل سبب هذا التصاعد المستدام مرده إلى ما يتجدد في كل زمان من نوازل متنوعة، وظهور قضايا فقهية وعقدية وفكرية، فضلا عن بزوغ قضايا جدلية على الساحة تتقاذفها الآراء بين الصحة والخطأ، وبين الرفض والقبول، ومن هذا المنطلق كانت الحاجة إلى إعادة النظر والروية في بناء المناهج والمقررات الدراسية ؛ من أجل مواجهة احتياجات المجتمع المتغير، باعتبار أن المنهج الدراسي وسيلة فاعلة في تحقيق أهداف المجتمع والوفاء باحتياجاته.

ولا شك أن قضيةَ تجديدِ الخطابِ الدينيِّ تحتل أهمية بالغة في وقتنا الراهن ؛ نتيجة لما يرتبط بهذا الخطاب من التباس، وبما يكتنف بعضه من غموضٍ قد يخرجه ـ أحيانا ـ عن جادةِ الصوابِ، من قبل فريقٍ يسعى جاهدا بأدوات فقيرة استغلال قضية تجديدِ الخطابِ الدينيِّ للعبث بأصول الدين وثوابته وأعمدته الرئيسة، وفي مقابل هذا الفريق نرى فريقا آخر يجلس على الشاطئ المقابل يرى أن أية محاولة لفتح باب التجديد هو خروج عن الإسلامِ ويجب مقاومته والتصدي له.

بينما يشير البعض إلى ظهور تيارين في ظل تصاعد الحديث عن قضية تجديد الفكر الديني؛ أحدهما يرفض الإصلاح عامة، واختار طواعية طريق العنف والتطرف والإرهاب، فقدم بذلك صورة سلبية ومسيئة عن الإسلام، والآخر تيار إصلاحي وسطي يسعى إلى تقديم خطاب ديني يؤكد على إعمال العقل، والتجديد المستدام وموافقة التغييرات المعاصرة، ويجعل من تجديد الخطاب الديني حتمية وسبيلا للتعبير عن الإسلام الصالح لكل زمان ومكان.

ولكن الواقع يؤكد أن الخطاب الديني المعاصر رغم محاولات تجديده يعاني من أزمة حقيقية ترتبط بشكل وثيق بالأزمة الحضارية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، لذلك ترجع ضرورة تجديد الخطاب الديني “إلى الحالة التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية اليوم من انتكاسة افقدتها الكثير من منهجيتها وصوابها ؛ حيث انحسر شهودها الحضاري، وعجزت عن التقويم والمراجعة ومعرفة أسباب القصور، وتوقفت عن أداء رسالتها في الشهادة على الناس والقيادة لهم “.

وهذا التجديد هو الذي يضمن الشهود الحضاري يكمن في الوعي التام والفهم القويم للإسلام وأصوله الرصينة، بعيدًا عن أباطيل المستشرقين والمغالين من المنتمين للإسلام، والمتطرفين فكريا، وتأويل الجاهلين.

وإذا كان كثيرون ينادون بحتمية تجديد الخطاب الديني، فإن هناك ثمة عوامل وأسباب تدفع بضرورة التجديد:

 1ـ الفهم الخاطئ لنصوص الكتاب والسنة، وتصدر اشباه المثقفين للفتوى، والتسرع في إصدار الأحكام الشرعية دون روية.

2 ـ ظهور خطاب ديني متشدد يعتمد التكفير منهجا له وعقيدة وسلوكًا يسعى إلى نشره، والترويج له بشتى الطرق والوسائل.

 ـ تكاثف المستجدات الاجتماعية التي صارت بحاجة إلى قول فصل لحسم النزاع بشأن هذه المستجدات والروافد الاجتماعية المعاصرة.

3 ـ عدم مراعاة ومناسبة لغة الخطاب ونوعه من حيث الاعتماد على الجوانب النقلية والعقلية للفئة التي يتم التعامل معها.

4 ـ الانشغال بالدفاع دون محاولة إنتاج فكر ديني جديد أو حتى إعادة الأفكار الأساسية للدين للظهور مرة أخرى.

5 ـ ما أصاب المؤسسة الدينية من أزمة في علاقتها بالعصر، والمعارف الحديثة ؛ حيث انغلقت على نفسها، وانشغلت بالعلوم القديمة والتقليدية وقطعت جسور التواصل مع مجتمعاتها.

7 ـ بث الثقافة الحزبية والحركية على أنها الخطاب الأمثل المعبر عن الدين الإسلامي دون سواه.

8 ـ إفراز العولمة بتغيراتها الاجتماعية والاقتصادية مجموعة من الأخلاقيات الجديدة انحازت في معظمها إلى جانب القيم والقضايا المادية الاستهلاكية بعيدًا عن القضايا الإنسانية والروحية.

9 ـ افتقاد الوعي بموقفنا الحضاري، وإسراف العقل العربي في الجمود والتقليد الأعمى للسلف والمحاكاة بغير إعمال للعقل في تأويل هذه المحاكاة.

10 ـ محاصرة الشباب المسلم بمصادر الثقافة والإعلام الغربي التي باتت تهدد عمق الشخصية المسلمة .

11 ـ القطيعة في مجال إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية وبروز فئات ونخب جديدة عملت على منافسة السلطات الدينية والرسمية، وهي تيارات فكرية بعيدة عن تعاليم الأديان السمحة.

 12 ـ تصاعد موجات الإرهاب الدامي وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، والأعمال العنيفة التي واجهها بعض الدول العربية والإسلامية.

13 ـ وجود أعداد لا يستهان بها من أهل الدين المهمومين بمصالح الأمة ومستقبلها تطالب بتجديد الخطاب الديني على نحو ينسجم مع الذائقة الثقافية، كما ينسجم مع المفاهيم والأوضاع الجديدة التي بثتها العولمة وإفرازاتها الثقافية.

ولقد تزايدت دواعي الاهتمام بضرورة تجديد الخطاب الديني في ظل شواهد يشترك فيها جميع البلاد العربية والإسلامية منها انتشار الأمية بمعناها العام، والأمية الدينية بوجه خاص، وهو ما يحول دون الاتصال بمصادر المعرفة الدينية وبالمراجع المعتمدة في التفسير وفي علوم الحديث والسيرة والفقه، وهو ما يجعل الخطاب الديني المصدر الأساسي إن لم يكن المصدر الوحيد للمعرفة الدينية، ويستحيل بذلك مسئولا عن تحديد وتوصيف معالم التدين، ورسم صورة المتدينين لدى المجتمع. والآخر تعاظم موجة التدين احتجاجًا على النزعات المادية التي آل إليها شأن الحضارات المعاصرة، وما صاحبها من تراجع في نوع العلاقات الإنسانية السائدة.

جهود الدولة في تجديد الخطاب الديني :

ولأهمية وضرورة تجديد الخطاب الديني المعاصر،فقد تعددت صور المحاولات الرسمية للمساهمة في تجديد الخطاب الديني وتطويره، فجاءت وثيقة الأزهر الشريف في الحادي والعشرين من يونيو عام 2011م لتؤكد على ثمة مبادئ رئيسة في تجديد الخطاب الديني منها الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والطفل والمرأة، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية واعتبار المواطنة مناط المسئولية في المجتمع، كما أكدت وثيقة الأزهر على ترسيخ قيم حب الوطن والوحدة الوطنية والدفاع عن الأرض وتأكيد العزة الوطنية، وإعادة بناء المسلم المعاصر ليكون إنسانًا حضاريا فاعلا في مجتمعه ومنتجًا ؛ يفهم حقيقة الإسلام ومهمته وهي عبادة الله وتعمير الأرض، كما ركزت الوثيقة على نبذ العنف،وتأكيد قيمة الحوار وترسيخ أدب الاختلاف في الرأي بحيث يتم التمسك بالطرق السلمية في التغيير، والتحول من فكرة تفجير الجسد إلى تفجير طاقات العقل.

كما سعت الدولة المصرية إلى المشاركة بصورة رسمية في محاولات التجديد، وكان دليل هذا الاهتمام هو صدور قرار السيد رئيس الجمهورية بالقانون رقم ( 51 ) لسنة 2014م بتنظيم ممارسة الخطاب الديني في المساجد وما في حكمها، وينص هذا القانون على بحث ودراسة كل ما يتصل بالبحوث والدراسات الإسلامية، والعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي وتحليتها في جوهرها الأصلي الخالص، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفي كل بيئة. كما نص القانون على ضرورة تتبع كل ما ينشر عن الإسلام والتراث الإسلامي من بحوث ودراسات في الداخل والخارج والانتفاع بما فيها من رأي صحيح أو مواجهتها بالتصحيح والرد، وكذلك بحث ودراسة كل ما يستجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بالعقيدة أو غيرها، وبيان الرأي الشرعي فيها ( رئاسة الجمهورية، 2014 : 64 -66 ).

وفي نفس الصدد، استجابت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية المصرية لدعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن تجديد الخطاب الديني المعاصر ؛ فقدمت بالتنسيق مع المثقفين ورموز السياسة والفكر وعلماء الدين وثيقة وطنية لتجديد الخطاب الديني في مايو 2015م، جاء في نصها ” تجديد الفكر الديني يعني تجريده مما علق به من أوهام أو خرافات أو فهم غير صحيح ينافي مقاصد الإسلام وسماحته وإنسانيته وعقلانيته ومصالحه المرعية ومآلاته المعتبرة، بما يلائم حياة الناس ويحقق المصلحة الوطنية، ولا يمس الأصول الاعتقادية أو الشرعية أو القيم الأخلاقية الراسخة “.

وأكدت الوثيقة على ضرورة أن يتجه الخطاب الديني المعاصر إلى الأخذ بالتوجهات المعرفية مثل إعمال العقل، وتنمية الإبداع، وتعزيز المشتركات الإنسانية، وترسيخ المعاني الوطنية وإشاعة روح التسامح والمودة بين أبناء الوطن جميعًا، واحترام حق التعددية الاعتقادية والفكرية، فضلا عن تأكيد الوثيقة على ضرورة بناء مناهج التربية الدينية الإسلامية على معايير ومؤشرات تعزز الفهم الصحيح للدين، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وضرورة الإلمام الجيد بالثابت والمتغير وتطبيقه على الواقع المتغير ( وزارة الأوقاف،2015).

كما عقد الأزهر الشريف عِدَّة جلسات برئاسة فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر جمعت هيئة كبار العلماء مع نخبة من الكُتَّاب،  تم فيها جمع الأفكار التي طرحها المشاركون، وصياغتها، لإصدار وثيقة الأزهر لتجديد الخطاب الديني والتي صدرت في 26 يونيو 2016 م، حيث دعت هذه الوثيقة إلى رفع راية الاجتهاد ووجوب إعلان انتهاء عصر التكفير وبداية عصر التفكير،  وضرورة احترام الاختلاف في الرأي، وتضمنت الوثيقة تحديد مفهوم التجديد باعتباره سنة الله التي فطر الناس عليها، إذ استخلف الإنسان في الأرض وحمله رسالة عمرانها وصنع الحضارة فيها، كما ورد في محكم الآيات: «هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» وكما أكدت السنة النبوية الشريفة فى الإشارة إلى من يبعثهم الله على رأس كل مائة عام لتجديد الدين، وكما تقتضى طبيعة الحياة التي تناقض العقم والجمود والموات.

ونصت وثيقة الأزهر الشريف لتجديد الخطاب الديني على ما يلي :  ” لأن التجديد لا يتم بالطفرة التي تقفز على الواقع ولا بالقطيعة التى تنفصم عن الماضي فإنه يجب الاعتداد بما انتهى إليه فكر كبار المجددين في الإسلام، خاصة في العصر الحديث، ابتداءً من الرائد الشيخ رفاعة الطهطاوي وامتصاصه الحكيم لصدمة الحداثة، إلى الإمام محمد عبده الذى أبرز عالمية الإسلام وسبقه إلى أعظم القيم المعاصرة والشيوخ الكبار مصطفى وعلى عبدالرازق وعباس محمود العقاد وطه حسين والشيخ شلتوت وغيرهم من أعلام الدين والفكر والثقافة والنهضة حتى اليوم واعتبار ما أسفر عنه هذا التراث البناء القريب خطوات صائبة في التطور والتحديث، بما تهدف إليه من ترسيخ العقائد الثابتة، وتطوير التشريعات المتغيرة، واستحداث التوجهات الملائمة لروح العصر وتحولات الزمن، وتغليب المصالح العليا للأمة طبقاً للأولويات التى تفرض نفسها، تحقيقاً لمقاصد الشريعة ومسايرة لحركة الحياة، وتبعاً لمناطق التراكم المعرفي فإنه يجب اعتبار اجتهادات العصور السابقة فيما بعد عصر الأئمة الأول غير ملزمة للفكر الحديث، فهي قاصرة على ظروفها وضروراتها، ولكل عصر أطره المعرفية التى يفهم النصوص ويؤولها ويجتهد في تطبيقها طبقاً لمقتضيات تحقيق صالح الأمة وخيرها”.

أولا ـ تَجدِيدُ الخِطَابِ الدِّينِيِّ :

يعد الخطاب الديني المعاصر من أخطر القضايا وأهمها التي تثار في الحياة الراهنة للمسلمين، وترجع تلك الأهمية والخطورة إلى شيوع الأمية الدينية في أواسط المسلمين، فضلا عن الغزو الثقافي الغربي والحملات الإعلامية الشرسة التي تواجه الإسلام والمجتمعات الإسلامية.

والخطاب أحد مصدري ” خاطب ـ يخاطب خطابا ومخاطبة، وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهمه” ( الرازي، 1975 : 271)، وهو يعني أيضا ” اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه” ( الآمدي، د.ت : 136). ويقصد بالخطاب في المعجم الوسيط ( 2004، 243 ) أنه ” الكلام والخطاب المفتوح، خطاب يوجه إلى بعض أولي الأمر علانية، والخطبة الكلام المنثور، يخاطب به متكلم في جمع من الناس لإقناعهم، والخطيب المتحدث عن القوم “.

أما الخطاب في اللغة الإنجليزية Discourse ، فيأتي بمعنيين ؛ أولهما التعبير عن الأفكار بالكلام في صورة رسالة، أو محاضرة عن مبحث معين، أما الثاني فيعني المنطوق أو المكتوب في الخطاب أو تلك المطارحات اللغوية ( Oxford,2000:376).

 أما الخطاب الديني فيعرفه ( الرازي، 1997 : 107 ) بأنه ” الحكم الشرعي وهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع”، بينما يعرفه ( محمود، 2000 : 169 ) بأنه ” لون من ألوان القول يحشد به الخطيب من الأسباب ما يمكنه من التأثير على سامعيه، وجذبهم بما يسوق من الحجج والبراهين المقنعة “.  في حين أن أن المقصود بالخطاب الديني هو ” البناء من الأفكار والمعتقدات التي تتسم بأهميتها الاجتماعية التي تنبع من ارتباطها بدين ما ومن ثم تأثيرها في تكوين تصور متلقي الخطاب من المؤمنين بهذا الدين عن العالم الذي يعيشون فيه وتحديد كيفية تصرفهم إزاء هذا العالم “.

ويقصد بالخطاب الديني  ” فهم الفقيه للإسلام، والصيغة المعينة التي يعبر بها على فهمه الأول، وهو نص شرعي أو ما في حكم النص، وفهم بشري لمعاني النص الشرعي ولهذا فلا يمتنع أن يتجدد الفهم ويتغير و ” خطاب الدعاة والوعاظ والخطباء والمفتين والباحثين، حيث يقدم إلى الجمهور على أنه الوصف السليم والفهم الصحيح للإسلام في عقيدته ونظامه الأخلاقي وآدابه وشريعته “.

1 ـ مَفْهُومُ التَّجدِيدِ :

ـ التجديد اصطلاحا :التجديد يعني الإضافة إلى الشئ القديم، وهو بذلك لا يعني إلغاء القديم إلغاءً مطلقا، بل يمكن وفق هذا المعنى تحسينه وتطويره وتجويده بأن يضاف إليه ما يحقق أهدافه، وبذلك يصبح التجديد منافيا لفكرة الإزالة التي تعني تشويه الفكرة القديمة تشويها تاما ومحو آثارها، ويمثل مفهوم التجديد الوحدة الرئيسة لأي نظامٍ معرفي، والتي من شأنها التعبير عن موقف قضية أو ظاهرة مستحدثة، وينشأ التجديد نتيجةً لثمة دوافع منها رغبة الفرد النفسية في الابتكار والإبداع، وإعمال العقل، ومواجهة التحديات الراهنة، ومعالجة ظروف المجتمع المحلي والبيئة الخارجية . يمثل مفهوم التجديد أحد المفاهيم التي تتردد بكثرة في الفكر المعاصر العربي والإسلامي، إضافةً إلى الفكر الحديث والفكر الغربي، وذلك منذ قرنين من الزمان وتحديداً بعد بروز العديد من المفاهيم كمفهوم الإصلاح والنهضة والثورة والتغيير، وتظهر العديد من تلك المفاهيم وتختفي وفقاً للظروف الاجتماعيّة والتيارات الفكريّة السائدة، إضافةً إلى أنظمة الحكم السياسي في المجتمعات والصراعات الدائرة.

والتجديد في الخطاب الديني يعد ضرورة تحتمها طبيعة وكنه الدين الإسلامي، وتفرضها السمات والخصائص التي امتاز بها هذا الدين السماوي، وهذا يؤكد على أن تجديد الخطاب الديني لا يجيز الانفصال التام عن التراث الإسلامي، أو التنكر المطلق لاجتهادات المسلمين الأوائل، ويؤكد هذا المعنى ( أمامة، 2008 : 130)  بأنه ليس كل قديم سيئا، كما ليس كل جديد حسنًا، فكم من قديم نلفع كل النفع، وكم من جديد لا خير فيه. ولا شك أن قضية تجيدي الخطاب الديني اليوم تمثل أحد المحاور الفكرية والحضارية الأكثر أهمية، والتي تستقطب كثيرا من جهود رجال الفكر والبحث العلمي، وتؤلف فيها المئات من الكتب والرسائل الأكاديمية، وتعقد من أجلها المؤتمرات والندوات.

ويرى فضيلة الإمام الأكبر (الطيب، 2015 : 20 ) أن التجديد الذي ننتظره ينبغي أن يسير في خطين متوازيين ؛ الأول خط ينطلق فيه من القرآن والسنة أولا، ثم مما يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث بعد ذلك، وليس المطلوب خطابا شموليا لا تتعد فيه الآراء ولا وجهات النظر، والثاني خط موازٍ ننفتح فيه على الآخرين ؛ بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها في تشكيل إطار ثقافي عام يتصالح فيه الإسلاميون مع الليبراليين، ويبحثون فيه معا عن صيغة وسطى للتغلب على المرض المزمن الذي يستنزف طاقة أي تجديد واعد. 

وفي ضوء التعريفات المختلفة لمفهوم الخطاب الديني، يمكن رصد أبرز الملامح الرئيسة في هذا الخطاب حيث يمتاز بالأصالة، وتمتد جذوره بدءا من ظهور الوحي وحتى واقعنا الراهن، كما أنه خطاب يهتم بالعلم ويدعو إلى التقدم والرقي، ويتطلع إلى اليوم الذي تعود فيه الأمة الإسلامية إلى ريادتها السابقة، فضلا عن أن مجمل التعريفات العربية السابقة لمفهوم الخطاب الديني ترى الخطاب الإسلامي لا يهتم بالأمة الإسلامية بحسب، بل هو خطاب موجه للإنسانية عموما.

2 ـ مَفْهُومُ تَجْدِيدِ الخِطَابِ الدِّينِيِّ :

ـ تجديد الخطاب الديني يعني عملية تقويم وتصويب واستمرارية التقويم لما يستجد من قضايا ووقائع يمكن فهمها في ضوء ثوابت الدين نفسه.

ـ التجديد في الخطاب الديني يقصد به أيضا إصدار أحكام بشأن القضايا المعاصرة وفق معايير منضبطة وثابتة بقيم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ـ تجديد الخطاب الديني يعمل على إعادة العمل بالإسلام الصحيح وتطبيقه وفق الفهم السليم والصحيح للإسلام.

ـ يعتبر الغرض الأبرز من تجديد الخطاب الديني هو تحقيق الإفهام للإسلام الصحيح وتغيير سلوك المسلم وتعديل أنماطه المعرفية وفق ضوابط الدين الإسلامي. 

ـ التجديد في الخطاب الديني يعني العودة إلى المنابع والأصول عودة كاملة وصافية بهدف تحقيق فهم صحيح لها ومعالجة قضايا ومشكلات الواقع في ضوئها.

ـ عملية التجديد تشترط أن يكون الخطاب الديني مراعيا للزمان والمكان، فالداعية الحق هو الذي يتناسب خطابه مجال زمانه ومكانه.

ـ يعتبر فهم المرحلة وفقه الواقع أصل معتبر في عملية تجديد الخطاب الديني، وهو أمر يؤيده القرآن الكريم.

ـ تجديد الخطاب الديني عملية متكاملة تستهدف أمرين أساسيين ؛ الدفاع عن الإسلام ضد محاولات تشويهه، والنهوض بالإنسانية من خلال التمسك بثوابت وركائز الدين الرئيسة.

3 ـ أسْبَابُ تَجْدِيدِ الخِطَابِ الدِّينِيِّ :

جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني عبر التاريخ نظرا للشعور بالحاجة المستدامة إلى تجديد تطوري يضمن فهم الإسلام وقواعده، ولقد وضح ( أمين الخولي ) أن التجديد في الخطاب الديني بدأ مبكرا منذ القرن الثالث الهجري، ولا شك أن تدافع أسباب تجديد الخطاب الديني في كل زمان مفاده تحقيق استمرار حيوية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، ومسايرته للتقدم الإنساني المتصل.

وهناك مجموعة من الأسباب والعوامل الملحة دعت إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني؛ منها ما يتصل بواقع العالم الإسلامي، ومنها ما يتصل بالأنظمة التعليمية في الوطن العربي، ومنها ما أفرزته المشكلات العالمية والتي تلقي بظلالها على العالم الإسلامي، وهناك حاجة دائمة وملحة ومستمرة لتجديد الخطاب الديني لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، فالتطور الحضاري وتغير الأزمنة بالضرورة يجلبان معهما تساؤلات متنوعة وتحديات جديدة، ولا شك أن أي خطاب ثقافي ينشد الاستمرارية والبقاء لابد له من مواكبة تغيرات الواقع وروافده المتجددة، وذلك بالإجابة عن هذه التساؤلات، والقدرة على استيعاب المستجدات الاجتماعية.

جملة من الأسباب والعوامل التي تجعل من تجديد الخطاب الديني الراهن ضرورة حتمية وحاجة ملحة :

ـ جنوح الخطاب الديني ـ في بعض الأحيان ـ إلى التجريح الشخصي أو الطائفي أو المذهبي، فيضعف أثره ويقوى ضرره، فيستحيل بذلك معول هدم لا أداة بناء للمجتمعات الإسلامية.

ـ تضييق مساحة المباح، وتوسيع دوائر التحريم والمحظورات، فضلا عن وجود جماعات وطوائف غير رسمية احتكرت التحليل والتحريم.

ـ انتشار ثقافة التغيير الناتجة عن سرعة إيقاع الروافد الثقافية المادية، والتي تمثلت في تقلص المسافات الشاسعة، وتقلص قيمة الأشياء، وظهور ما يعرف بالعلاقات الوقتية، على حساب العلاقات الدائمة.

ـ ما أفرزته ثورة التكنولوجيا والرقميات المعاصرة من نتائج تمثل بعضها في زعزعة استقرار الأسرة والضعف التدريجي لسلطتها على الأبناء، مما أشاع كثيرا من الانحلال الأخلاقي وتفشي العنف والجريمة. الاتجاه المبالغ فيه نحو العلمانية بسبب ظروف التقدم العلمي وقدرة العقل على الاكتشاف والإبداع ؛ مما جعل دعاة العلمانية ينظرون إلى الدين على أنه شئ من التراث الماضوي البعيد عن الواقع.

ـ   ما ألصق بالدين الإسلامي من عادات غير صحيحة وهي خرافات بعيدة تماما عن جوهر الإسلام وصحيحه.

ـ رسوخ العقل العربي تحت قيود الوهم والخرافات التي تحول بينه وين الإبداع والتجديد، وتوقف عقل الأمة الإسلامية عن الإضافة.

ـ قلة الثقافة الدينية، والفقر اللغوي مما ينعكس بالسلب على الخطاب الديني، والحط من قدره لدى السامعين والقارئين.

ـ شيوع الفهم الخاطئ لنصوص الكتاب والسنة لدى العامة، وتصدُّر أشباه المثقفين غير المتخصصين  للفتوى، والتسرع في إصدار الأحكام الشرعية دون تعمق أو وعي بفقه الواقع.

ـ كثرة الوقائع والأحداث التي تحتاج رؤية إسلامية واضحة المعالم.

ـ التحريض على الفكر الإسلامي ومصادره، واتهام الدين الإسلامي بالرجعية والجمود وعدم مسايرته لمستحدثات المجتمع.

ـ تعرض الهوية الإسلامية لمحاولات المسخ والمحو الممنهجة من قبل الدراسات الاستشراقية التي تروج لضعف الحضارة الإسلامية الراهنة. 

4 ـ أبْعَادُ الخِطَابِ الدِّينِيِّ المُعَاصِر :

أ ـ التقعيد والتأصيل : ويعني الالتزام بمصادر الفكر الإسلامي ومنهجه بهدف عدم الإخلال بالقواعد والأصول الدينية المتفق عليها.وهذا يشير إلى ضرورة الانطلاق من التصور الإسلامي الصحيح، بحيث يكون الخطاب الديني شارحا لقضاياه الكبرى ومرسخا لها، ومن مثل ذلك : العقيدة الصحيحة، والعبادة الموافقة للسنة.

ب ـ الواقعية : وتعني الواقعية مراعاة واقع الأمة وقضاياها المعاصرة والسعي لتحقيق مصالح المجتمع ومطامحه، مع عدم الافتتان بالقضايا التي لا تمس الواقع المعاش. لذلك فإن الفتوى مرهونة ومشروطة بالزمان والمكان وحالة الأشخاص المقدمة لهم الفتوى.

ت ـ العناية بالمصطلح الإسلامي : ويشير هذا الضابط إلى ضرورة أن يبنى التجديد وفق المصطلحات والمفاهيم الإسلامية الرصينة، فإن محاولة الاجتهاد في ضبط المصطلح تعود بالنفع على تكوين خطاب ديني متجدد من ناحية، ويتمتع بالرسوخ واليقين من ناحية أخرى.

ث ـ التأكيد على الثوابت : ينبغي أن يرتكز الخطاب الديني المعاصر على ثوابت العقيدة دون التخلي عن مبادئ الإسلام الصحيحة.

ج ـ تحديد الهدف بدقة : بمعنى أن ينصب التجديد على الخطاب الديني وليس على الإسلام نفسه.

ح ـ مراعاة أدب الاختلاف : وتعني أن الإرغام على رأي واحد في الدعوة خطأ كبير، مع توجيه العناية إلى المجادلة بالتي هي أحسن، يقول تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( سورة النحل، 125).

خ ـ مراعاة فقهِ الأولويات : أي البدء بأهم الأمور في الدين عند بداية دعوة الآخرين، والاهتمام بمبدأ التدرج في الدعوة، والحرص على تعليم المسلمين الفرائض قبل النوافل، والحلال قبل الحرام، والحرام قبل المكروه.

يمكن تحديد أبعاد تجديد الخطاب الديني في ضوء ما أسفرت عنه وثيقة الأزهر الشريف لتجديد الخطاب الديني في يونيو ( 2011م )، ووثيقة تجديد الخطاب الديني الصادرة عن وزارة الأوقاف المصرية في ( 2015 )، وكذلك القانون رقم ( 51 ) لسنة 2015 الصادر عن السيد رئيس الجمهورية، على النحو الآتي:

أ ـ اقتصاد الدعوة في الغيبيات : وذلك من أجل إراحة العقل من الدخول في تفاصيل قد تؤدي إلى كثير من الغموض والالتباس، والاكتفاء بالإجمال في معرفة الغيبيات للإيمان بها، مع النهي عن التفكير في دقائق ما يطلب الإيمان به.وهذا يتطلب من الخطاب الديني أن يعمق الإيمان بالغيب وبالآخرة. ويتضمن هذا البعد أيضا عدم تورط الإسلام في فرضيات العلم النسبية، بمعنى عدم إقحام النص القرآني لتفسير نشأة الحياة على الأرض كما يصفها العلماء وظهور الإنسان الأول وما مر به من أدوار.

ب ـ الاجتهاد وفق الأصول : بمعنى جعل الاجتهاد العقلي أساسا للحياة الإسلامية وفق ضوابط النص القرآني والسنة النبوية ؛ بحيث يكون هذا الاجتهاد سيلا للوفاء بجديد حاجات الحياة نفسها. ولابد وأن يرتكز الخطاب على السند الشرعي والأدلة الوجوبية من القرآن والسنة. والإسلام حين أقر مبدأ الاجتهاد فإن ذلك جاء انطلاقا من حقيقة مفادها أن الحياة متجددة ومتطورة باستمرار،.

ت ـ شمول الرؤية المعرفية في التناول : بمعنى أن الخطاب الديني يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية مختلفة : أخلاقية، وسياسية، واقتصادية، وجمالية.

ث ـ التنمية المستدامة: ينبغي أن يتضمن الخطاب الديني قوة هائلة إيجابية تشحذ طاقات الفرد للبناء والإعمار والإنتاج، والإخلاص في العمل وتنمية المجتمع.وهذا البعد يؤكد عالمية الإسلام وشمولية دعوته وخالدية شريعته وتكفلها بإيجاد حلول شرعية لكل ما هو جديد.

ج ـ نبذ العنف والغلو في التكفير : من أبرز أبعاد تجديد الخطاب الديني المعاصر نبذ العنف وتأكيد قيمة الحوار وترسيخ أدب الاختلاف في الرأي، بحيث يتم التمسك بالطرائق السلمية في التغيير، والتحول من فكرة تفجير الجسد إلى تفجير طاقات العقل، مع نبذ فكرة الغلو في تكفير الفرد والمجتمع.

خ ـ التوازن والوسطية : ويقصد به التوازن في المزج بين العلم والفكر والعاطفة عند تناول القضايا المعاصرة، والتوازن في تناول حاجات المجتمع وفق أولويات تلك الحاجات، فضلا عن التوازن على مستوى اللغة المستخدمة في الخطاب الديني..

د ـ منهج عرض الخطاب : بحيث ينبغي أن تتوافر في الخطاب الديني المعاصر مجموعة من السمات التي تجعله يحقق أكبر عدد ممكن من أهدافه في فهم الإسلام الصحيح ومنها :

ـ التنظيم والترتيب المنطقي في عرض الأفكار.

ـ الاقتصاد في التعبير منعا للملل أو الغموض والإبهام في الفهم.

ـ الفصل بين القول وحجته.

ـ الربط بين الأسباب والمقدمات والنتائج.

ـ التركيز على المصطلح وضبطه.

ذ ـ تأكيد مقاصد الشريعة الإسلامية : يقصد بالمقاصد الشرعية المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها . ويعني التركيز على أهداف الشريعة الإسلامية وما تحققه للفرد والمجتمع من نفع وحياة كريمة، ورفض الوقوف على ظاهر النصوص وحرفيتها. وهذا يقتضي من الخطابِ الدينيِّ تفعيل فقه مقاصد الشريعة الكلية في فهم النصوص، والعناية بسياقات النصوص والفهم الدقيق للغة العربية. وما من فعل أمر به الله ـ عز وجل ـ أو أذن به إلا وكان فيه النفع والفائدة والخير وتحقيق المصلحة، ومن ذلك التعليل في إرسال الرسلِ، يقول تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ( سورة النساء، 165 ).

ـ التَّوَجُّهَاتُ المَعرِفِيَّةُ المُعَاصرَةُ :

يقصد بالتوجهات المعرفية المعاصرة مجموعة الأفكار والمعتقدات في موضوع معين والتي تتسم بالثبات النسبي، وتنسجم مع متطلبات وإحداثيات العصر، وهي التوجهات اللازم تضمينها  في المقررات الجامعية  وتشمل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية والثقافية المعاصرة. ومصطلح التوجهات المعرفية المعاصرة من المصطلحات المثيرة للجدل فيما يسمى بعلم المستقبليات الذي استأثر بالاهتمام مع انعطافة لنهايات القرن العشرين ؛ استجابة لما تثيره من مشكلات وقضايا تفرز أسئلة تبحث عن إجابات شافية ووافية لها.

1 ـ التوجه المدني / المواطنة : ويهتم هذا التوجه بالتربية من أجل المواطنة، وهي قضية مهمة مطروحة منذ سنوات وآن للتربية أن تهتم بتكريس ثقافتها وتعزيز المفاهيم المتضمنة فيها، ويستهدف هذا التوجه إرساء قيم المواطنة وتعميقها لدى أفراد المجتمع، وتمثل المواطنة نمطا معينا للعلاقات بين الأفراد في المجتمع، ومن ثم ينبغي على التربية أن تعالج ضمن مقرراتها هذا التوجه وما يترتب عليه من حقوق وواجبات، لاسيما وأن التربية المعاصرة تستهدف التأكيد على الهوية الوطنية لدى الأفراد في إطار ثقافي واجتماعي وسياسي.

2 ـ التَّوَجُّهُ العَالَمِيُّ : يشير التوجه العالمي إلى كل ما يدور حول دول العالم الأخرى غير الدولة الأم من موضوعات وقضايا، ويسعى هذا التوجه إلى أن يفهم الشعوب بعضها البعض؛ من أجل شراكة فاعلة ونشر المحبة والتعاون والألفة والتسامح بين شعوب العالم.     

3 ـ التَّوجُّهُ الاجتِمَاعيُّ : يشير علماء الاجتماع إلى حقيقة مفادها أن الميلاد البيولوجي للفرد ليس أمرا حاسما في وجوده، لكن يظل العامل القاطع هو ميلاده الاجتماعي الذي يتحقق عن طريق الزواج وتكوين الأسرة ( أورنيستن Ornstein، 1981 ). لذلك تعد التربية الأسرية من أبرز العوامل وأهمها في تكوين شخصية المتعلم. ويشمل التوجه الاجتماعي العديد من القضايا والمشكلات التي ينبغي للمتعلم الوعي بها وإدراكها مثل الزواج العرفي وزواج المتعة والعلاقات خارج سياق الزواج الشرعي، وجميع ما سبق مشكلات تعصف بالمجتمع الإسلامي، وواجب التربية الاجتماعية أن ترمي إلى إحداث أكبر قدر ممكن من التغيير والتهذيب والتعديل في سلوك المتعلمين وإبراز خطورة هذه الظواهر الطارئة على المجتمع المسلم.

4 ـ التَّوجه الاقتصادي الاستهلاكي : من أبرز ظواهر النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرة العولمة، و” أم القضايا في عصرنا، لما تثيره من أسئلة، وتوظفه من برامج اقتصادية، وتحرره من مخططات استهلاكية سابقة، وتبرره من سياسات، وبما أننا كعرب معنيون شئنا أم أبينا، بالتحديات والمخاطر التي تنذر بها، وبالنظر إلى حلولها لدينا على أنقاض الأحلام والمشروعات الكبرى “.

5 ـ التَّوَجُّهُ الصِّحِّيُّ  البيئي:  للصحة أهمية كبيرة في حياة الإنسان، وهي إحدى مقومات الحياة السعيدة للفرد والمجتمع على السواء،  ولكي يتجنب المرء المشكلات والأزمات الصحية عليه أن يكتسب مجموعة من المعارف والحقائق الصحية العامة التي ترتبط بصحته وتجعله أكثر اندماجًا مع مجتمعه بصورة فاعلة.

6 ـ التَّوجُّه العِلْمِيُّ : يعتبر التوجه العلمي التكنولوجي من أبرز التوجهات المعرفية المعاصرة نظرا لأهمية العلم وتطبيقات التكنولوجيا في حياتنا، وأصبحت الحاجة اليوم ملحة للتعامل مع المستجدات العلمية والتقنية.

7 ـ التَّوَجُّهُ الفِكْرِي الثَّقَافِيُّ : لقد أفرزت العولمة أنماطا متباينة من الثقافة، ومن الخطابات الثقافية المتعددة والمتنوعة، ولاشك أن البعد الثقافي من أكثر أبعاد ظاهرة العولمة وضوحًا بالنظر إلى فرص انتشاره، لاسيما فيما يتعلق بتقنيات الاتصال وقلة خضوعه للتنظيم والرقابة. ويمكن اعتبار الثقافة المنظومة المتكاملة التي تتمثل  في طريقة الحياة في المجتمع، وهي بذلك مجموعة مختلفة من أنماط السلوك التفكير من أجل تحقيق التوافق مع المجتمع، وتدخل في ذلك المعارف والمهارات والاتجاهات والتوقعات التي يكتسبها أفراد المجتمع ويتناقلونها.
____

*الدُّكتُور بَلِيغ حَمْدِي إسْمَاعِيل/  أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية/ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

جديدنا