لا تستقيم علوم التربية ولا تغدو مفاهيمها ومصطلحاتها المتداولة واضحة لدى المتلقي لها، والمشتغل بها، بدون وضوح وبيان لأهم المفاهيم المستعملة والمتداولة فيها، لأن من أهم المداخل الأساسية والأولية الموصلة إلى العلم هي “معرفة اصطلاحات أهله“.
فالمفاهيم المحددة حسب المرجع والجهة التي تتداول فيها، تيسر وتسهل التواصل والتفاهم بين الباحثين، مما يلزم الاشتغال على المعاجم الخاصة، الحاملة لأهم المفاهيم المتداولة في علوم التربية،لأن من شيم هذه العناية أن تغطي المجال المعرفي الذي ينتمي إلى التربية وعلومها.
وفي هذا السياق نقول إن التحقق من المفهوم التربوي من حيث التداول والاستعمال والاستخدام، من شأنه أن يخلق أكبر مساحة واسعة من الفهم المشترك، ومن التلقي الجامع بين الباحثين والمتدخلين في الشأن التربوي والتعليمي بصفة عامة.
وعلى هذا الاعتبار فإنَّ العناية بالقضايا التربوية والتعليمية، يستلزم أولا التحقق من المفهوم التربوي من حيث الدلالة اللغوية والمصطلحية، ومن حيث التداول والاستعمال في المعجم التربوي والتعليمي، المخصص للمفاهيم المستعملة والمتداولة في علوم التربية .
والتحقق من المفهوم التربوي بصفة عامة، يعين ويساعد على تحديد الأرضية العلمية المشتركة والجامعة بين الباحثين والمتدخلين في العلوم باختلاف تخصصاتها، وبالتحديد ما كان من قبيل التخصصات التي تنتمي إلى علوم التربية، أو التي لها علاقة مباشرة بمهن التعليم والتدريس، التي تعتني بتأهيل العنصر البشري الممارس لمهنة التربية والتعليم، عملا بهذا المبدأ المنهجي المتعارف عليه بين الدارسين، وهو “أن لكل علم لغته ومفاهيمه الخاصة به”.
إنَّ الذي يؤكد هذا الاحتضان والتقارب، ويعزز هذا التواصل واللقاء المشترك بين التربية وبين العلوم الإنسانية، هو حضور المباحث التربوية والبيداغوجية في ثنايا البحوث والدراسات التي تنتمي إلى قطب العلوم الإنسانية بفروعها المتعددة، وهو المضمون العام هو الذي نأخذه من هذا التصريح الذي جاء على لسان الدكتور محمد جسوس*[1] ” لا توجد علوم تربوية بالمعنى العام، وإنما توجد علوم إنسانية اشتغلت على المجالات والقضايا التي لها صلة مباشرة بمجال التربية”.
وتزداد الأهمية والعناية العلمية للمفاهيم والمصطلحات التي لها انتماء مباشر وصلة بقطاع التربية وبمهن التعليم والتدريس، نظرا لارتباطها المنهجي والعلمي بمجزوءات التكوين والتأهيل للعنصر البشري الممارس لمهنة التعليم، وهو ما يقتضي مزيد من العناية، والاهتمام بتحقيق المفاهيم والمصطلحات التربوية بصفة عامة .
بهده الاعتبارات المشار إليها، فقد ظهرت مجموعة من المعاجم، اختارت مقاربة المفاهيم والمصطلحات التربوية، وهي تنعت بالمعاجم المختصة والمعاجم القطاعية التي لها عناية خاصة بمجال المصطلحات التربوية والنفسية، وهذه المعاجم عديدة وكثيرة ومنها:
1-المعجم الموسوعي الجديد لعلوم التربوية لأحمد اوزي وهو منشورات مجلة علوم التربية السنة:2016.
2-المنهل في علوم التربية عبد الكريم غريب منشورات مجلة عالم التربية السنة:2006.
3-معجم علوم التربية، : مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك إعداد الفارابي عبد اللطيف وآخرون وهو من إصدار سلسلة علوم التربية للدراسة والنشر دار الخطابي للنشر المغرب 1994.
- Vocabulaire de l’éducation Gaston Mialaret Collection:
- dictionnaire actuel de leducationR:legendre:PARIS-2005
- التربية والعلوم الإنسانيَّة
من العادة التي ترسخت بين المشتغلين بالتربية والدارسين لتاريخها، أنهم اختاروا هذا العرف العلمي والأكاديمي، وهو تقسيم التربية إلى عهدين متقابلين العهد القديم والعهد الجديد، واختاروا أن يؤرخوا لهذا الانتقال من العهد القديم إلى العهد الجديد بصدور كتاب ج -ج -روسوrousseau:G-G: الذي حمل عنوان :إميل أو حول التربية “Emile ou sur l’éducation”[2] وهذا الكتاب الذي كتبه روسوrousseau سنة:1762، شكل نقلة نوعية، وطفرة معرفية في الممارسات التربوية، بحيث انتقلت هذه الممارسة من الخطاب النظري الفلسفي إلى الخطاب العلمي التطبيقي الإجرائي، من حيث اعتماد المرجعية العلمية ، والإجرائية في المقاربات البيداغوجية، أي الدعوة إلى التمركز حول المتعلم، وخدمة هذا المتعلم في بناء تعلماته بصفة عامة.[3]
وانطلاقا من هذه الإشارات، نقول إن التربية الكلاسيكية هي تربية تتمركز حول المعلم- pédagogique centrée sur l’enseignant -، فهي تعتبر المتعلم هو المصدر،والمنبع في المعرفة، بالمقابل تعتبر المتعلم هو متلقي ومستهلك لهذه المعرفة فقط، أما التربية الجديدة فهي العكس تدعو إلى التمركز حول المتعلم- pédagogique centrée sur L apprenant – [4].
ما يعني أن وجهة التربية الجديدة يتوجه عنايتها إلى الطريقة التي بها يشيد المتعلم تعلماته، علما أن المتعلم هو المحورالاساسي في العملية التعليمية في التربية الجديدة، أما المعلم فهو الراشد والمساعد والمعين للمتعلم في بماء التعلمات.
فالتربية في الحقبة الكلاسيكية انصب اهتمامها وتوجهت عنايتها واشتغالها إلى ما له صلة مباشرة بتكوين النبلاء والخاصة من الأمراء ورجال الدين والعلماء والقضاة والأطباء، لكن في عصر الأنوار، وعلى إثر هذه التحولات العميقة التي طرأت في المجتمع، تغير الأمر، إذ عمل علماء التربية على نقد الطابع النخبوي للتربية بالتوجه نحو تعميم التربية، وتوسيع فضاءات التعليم حتى يغطي هذا التعليم جميع فئات المجتمع..[5].
إن عصر الأنوار الذي مرت منه أوروبا، وهو العصر الذي يحتل مكانا خاصا في تاريخ أوربا، فقد اهتم مفكروه بالتربية والتعليم وتعميم المعرفة وتحقيق الفرص لجميع المتعلمين بدون استثناء، منطلقهم هذا الاعتبار العلمي أن إصلاح العالم وتغييره من مقدماته الأساسية تغيير الذهنيات والعقليات والأفكار، وهذا لا يتيسر إلا بطريق التربية طريق التربية والتعليم.
وأن أكبر منعطف عرفته علوم التربية، كان هو تقاربها وتداخلها وتواصلها مع العلوم الإنسانية، واستثماراتها لبحوث ونتائج هذه العلوم الإنسانية، وهذا يعود أن المعرفة العلمية الدقيقة بمعطيات الواقع، وبجميع مكوناته ودعائمه وأسسه، وتداعياته، هي الكفيلة بفهم هذا الواقع في تحولاته البنيوية المركبة له، بقسميها الداخلي والخارجي، وهذا الفهم من شأنه أن يعمل على تجلية متطلبات، وحاجيات المجتمع المادية والروحية، وتقديم الحلول للاكراهات والصعوبات التي يعيشها المتعلم، ولو بشكل نسبي،مما يعين ويساعد على معرفة البعد الوظيفي للعملية التعليمية والتربوية في جميع أبعادها ومستوياتها، وبالتحديد في المجتمع الذي تتواجد فيه .
فهذا العلم … وفي هذا فإنّ المعنى يتشكّل داخل عقل المتعلّم نتيجة لتفاعل حواسّه مع العالم الخارجيّ أو البيئة الخارجيّة”(محمود زيتون، 2015م، ص42)، وإذا كان كذلك وجب فعلم النفس يمنحنا القدرة على مراعاة إمكانات المتعلم العقليّة والمعرفيّة من أجل تزويده بآليّات تفكير الصحيحة التي تتناسب مع إمكانياته في مختلف المواقف الحياتيّة التي يتعرّض لها، ويمر بها.
بحيث انخرطت العلوم الإنسانية جميعها وبشكل مشترك في تطور البحث في علوم التربية، ومنها بالأخص:علم النفس وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا –علم الثقافة- والاقتصاد واللسانيات التطبيقية –واللسانيات التعليمية وعلم اللغويات المعاصر.
ومن أبرز هذه العلوم قرابة بالتربية، علم النفس المدرسي الذي عادة ما يتم اختزال موضوعه العام في توجيه المباحث المتعلقة بعلم النفس لمعالجة المشكلات المدرسية والتعليمية،وتقديم الحلول لهده المشكلات، وعلم فهويهتم بدراسة علاقة الفرد بالمجتمع، و بالعلاقات التواصلية والتفاعلية في المؤسسات التربوية وهي الجهة المعروفة بالجماعات المدرسية.
ومن أبرز الثورات المعرفية التي كان لها من التأثير الفاعل في العملية التعليمية في جميع أطرافها وعناصرها، الثورة التكنلوجية التي أثرت على المعارف والعلوم التي لها قرابة بالتربية،فالثورة الرقمية التي شهدها العالم اليوم حولت الممارسات التربوية، وجعلت المعدات الالكترونية والبرامج والشبكات التكنلوجبية تحكم سيرورة العملية التعليمة في جميع امتداداتها وبجميع أطرافها .
فالتربية الجديدة تساعد المتعلم على تحصيل المعرفة، معرفة تراعى فيها متطلّبات الفرد الآنيّة، وتساعده على الاندماج والمشاركة في تطوير مجتمعه والمساهمة في تقدّمه مساهمة علميّة، مما يتحتّم على المتدخلين في التربية، تبَنّي أهمّ الاستراتيجيّات التّعليميّة العالميّة التي تجعل من المتعلّم مركز اهتماماتها ومحلّ بحثها، من أجل أن تحقّق التربية الأهداف المنتظرة منها .
[1] – محمد جسوس محمد جسوس باحث مغربي معاصر وأستاذ السسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط المغرب له مؤلفات عديد في علم الاجتماع، وفي قضايا التربية والتعليم والديداكتيك منها :المسالة التربوية في المغرب.اشرف على عدد كبير من الرسائل الأطروحات في علم الاجتماع بكل من كلية الآداب بالرباط وفاس بالمغرب. وللتعريف بجهود الدكتور
محمد جسوس في علم الاجتماع ، قد نظمت شعبة علم الاجتماع ندوة وطنية في موضوع:السوسيولوجيا المغربية: الواقع والآفاق يومي 24/25 أبريل 2014 برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة القاضي عياض بمدينة مراكش المغرب، وكانت هذه الندوة مخصصة لتكريم للأستاذ محمد جسوس أستاذ ومتابعة أعماله في الاجتماع المغربي.
[2] -ترجم مرات عديدة منها ترجمة عادل زعيتر الصادرة عن مؤسسة هنداوي السنة:2019-من اقدمالترجمات ١٣ روسو، جان جاك، اميل، ترجمة نظمي لوقا، الناشر الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٥٨
- [3] –Rousseau et l’éducation : apports et tensions: Stéphane Martineau et
- Alexandre A. J. Buysse-Un article de la revue Phronesis -Volume 5, Numéro 2, 2016, p. 14–22
[4] L’éducation et le rôle des enseignants à l’horizon 2020. Philippe MeirieuMérieu :p202. UNESCO 2020.
.
[5] -Histoire de l’éducation:-R :gal :78.