تداخلية العلوم عند طه عبد الرحمن
تداخل العلوم والمعارف في التراث الإسلامي: قراءة في فكر طه عبد الرحمن

يعد الدكتور طه عبد الرحمن من أبرز الباحثين المعاصرين اشتغالا على التداخلية القائمة بين العلوم في التراث العربي الإسلامي ،فهو يقول بصريح العبارة في كتابه :” تجديد المنهج في تقويم التراث:” ولقد نحونا في تقويم التراث منحى غير مسبوق ،ولا مألوف ،ولا معهود ،فهو غير مسبوق، لأننا نقول بالنظرة التكاملية .وحيث يقول غيرنا بالنظرة التفاضلية، وهو غير مألوف، لأننا توسلنا فيه بأدوات مأصولة ،وحيث توسل غيرنا بأدوات منقولة…”.
والتداخلية باعتبارها مفهوما إجرائيا ، ومنهجا ميسرا لتفكيك بنيات التراث العربي الإسلامي عند الدكتور طه عبد الرحمن،تعني في مضمونها العام وتدل في مجملها ” بأن المعرفة الإسلامية تتداخل أنساقها ،تداخلا كاملا ،فالفقه كان موصولا يعلم الكلام ، وعلم الكلام كان موصولا بالفلسفة الإسلامية ،..فقد حصل في التراث الإسلامي تداخلا قويا بين المعارف إلى حد أن بعض العلماء جمع بين الفقه والفلسفة”.
والذي لاحظه الدكتور طه عبد الرحمان هو ما لاحظه كثير من الباحثين ، والدارسين والمتابعين ، و المشتغلين بالتراث العربي الإسلامي ،حيث أكدوا أن المعرفة الإسلامية كانت في أصلها معرفة متداخلة ، ومتكاملة ،اتجهت إلى تأمين وتحصين النص من الاختراق ، من خلال المحافظة على المسالك والطرق الموصلة إلى المعنى في النص.
بحيث كان الفقه موصولا بعلم الكلام ،وعلم الكلام كان موصولا بالفلسفة ،والفلسفة موصولة بأصول الفقه ،وعلم النحو موصولا بعلم المنطق، وهو ما يدل بشكل صريح “أنه قد حصل في التراث العربي الإسلامي، تداخلا قويا بين جميع المعارف، والعلوم…” ..
و لتأصيل هذه التداخلية القائمة بين العلوم في التراث العربي الإسلام ،خص الدكتور طه عبد الرحمان جزءا من بحوثه ودراساته ومداخلاته ، لبيان حقيقة هذه التداخلية مبينا اثارها ،و كاشفا عن امتداداتها في العلوم الاسلامية.
وقد قسم الدكتور طه عبد الرحمن التداخل القائم بين العلوم إلى قسمين أساسيين :
-التداخل الداخلي ،وهو التداخل الذي يحصل بين العلوم التراثية الأصلية بعضها مع بعض، دون الأخذ بالعلوم المنقولة أو الدخيلة على الحضارة العربية الإسلامية ،أعني العلوم غير الماصولة الوافدة والمتسربة من حضارات اخرى…
-التداخل الخارجي يحصل ين العلوم التراثية الأصلية والعلوم الدخيلة الوافدة من حضارات أخرى، مثل ما حصل للمنطق مع غيره من العلوم الإسلامية خاصة ،اذ تداخل علم أصول الفقه مع المنطق ،بحيث امتزجت مباحث علم المنطق مع علم أصول الفقه مع علماء الأصول المتأخرين،ولا سيما الامام الغزالي ت505ه في المشرق ، والإمام ابن حزم في الأندلس….
وكان من اثار هذا الاعتراف المبدئي بهذه التداخلية القائمة في العلوم الإسلامية من لدن الباحثين والدارسين للعلوم الاسلامية ، بأن تمت مصادرة الأطروحات ،و رفض التوجهات والرؤى النظرية، والاختيارات الفلسفية التي تتجه الى مناصرة الموقف القائل باستقلالية العلوم التراثية من حيث الموضوع والمنهج، وانفصالها من حيث القضايا والاشكالات، العامة ،وحتى من حيث المرجع المؤسس ،أو من حيث المصطلحات والمفاهيم المشكلة لبنائها ووحداتها ، وأنساقها.
والعناية بالتداخلية ،هي في الأصل عناية بالمنهج، والآليات المنتجة للمضامين والمحتويات التراثية أكثر من عنايتها بجهة الآليات المشكلة لتلك المضامين.
أثر تداخلية العلوم الاسلامية
تداخل العلوم الإسلامية في وحداتها ومكوناتها ،كانت لها نتائج وتداعيات كثيرة على البنية المشكلة لموضوع هذه العلوم منها:
انتقال المفاهيم والمصطلحات
بهذا الاعتبار المنهجي الذي ينص أن لا علم بدون فهم ،ولا فهم بدون ضبط المصطلح ، فإن الوضوح والبيان في المصطلح أو المفهوم المتداول من شأنه أن يخلق أكبر مساحة واسعة من الفهم المشترك ، ومن التواصل الجامع بين الباحثين والمتدخلين في العلوم بشكل إجمالي .
والضرر الذي يلحق العلوم عادة ما يكون من عدم الضبط للمفاهيم ووعد التحقق من المصطلحات المتداولة في ذلك العلم ، وقديما قال ابن حزم في سياق حديثه عن الضرر الذي يلحق العلوم ،”فلا شيء أصعب وأشد من ايقاع الأسماء على غير مسمياتها “.
ومن نتائج تداخل العلوم في التراث العربي الإسلامي ،هو انتقال كثير من المفاهيم من حقولها المعرفية الأصلية التي نشأت فيها في الأول ،إلى حقول معرفية وعلمية أخرى مستقبلة لها ووافدة عليها ،مثل مفاهيم علماء الأصول التي كانت متداولة ومستعملة بينهم، فقد انتقلت هذه المفاهيم إلى علماء اللغة ،وأخذت في الاستعمال الثاني معنى خاصا ،ودلالة مغايرة تختلف عن الاستعمال التي كانت عليه في الأصل الأول ، ومن هذه المفاهيم : الحرف ،الجملة القياس ، والعلة ، والنسخ ،والاستحسان ، والاستعمال ،والوضع والحمل .
وهذا يدل بشكل صريح أن تحديد المفاهيم في أصلها الأول أو في المعنى الثاني الذي اكتسبته في رحلتها إليه ،كان من التقاليد الراسخة ،ومن الأعراف المعهودة في مجال البحث العلمي في التراث العربي الإسلامي ،لأن تحديد المفاهيم هو في الأصل تحديد للأرضية العلمية المشتركة بين الباحثين والمشتغلين والمتدخلين في أي علم من العلوم ،وفي أي تخصص من التخصصات .
والمفاهيم في الاستعمال الجديد عادة ما تأخذ مفهوما مغايرا ،ودلالة خاصة جديدة تختلف جزئيا عن الاستعمال الأول.
فهذا التوجه في رحلة المفاهيم ،واكتسابها لمفاهيم جديدة ، على غير ما كانت عليه في حقولها المعرفية الأصلية ،التي نشأت في أحضانها ، ينبغي للباحث استحضاره ، والوقوف عنده،وعدم اهماله في البحث العلمي ،في أية مقاربة أو مدارسة علمية أو بحثية ، وفي أي حقل معرفي في التراث العربي الإسلامي، خاصة ما تعلق بالحقل اللغوي و البياني الذي استثمرت واستعملت فيه تلك المفاهيم، لأن الحقل اللغوي و البياني كان من أكثر التخصصات التي جسدت مبدأ هجرة المفاهيم ورحلتها بين العلوم .
من هنا نقول إن انتقال المفاهيم والمصطلحات من حقولها المعرفية الأصلية إلى حقول معرفية أخرى مستقبلة لها،هي من الأساسيات والمميزات والمواصفات التي طبعت علوم التراث العربي الإسلامي ،و من ثم لا ينبغي التنكر، أو التغاضي ، أو التقليل من أثر هذا العبور والانتقال ، خاصة للباحثين والمشتغلين بالدراسات المصطلحية تأصيلا ، وتوصيفا ،وتنظيرا، وجردا وتحديد وتتبعا.
الموسوعية في الكتابة والتأليف
ومن تداعيات هذه التداخلية الحاضرة بين العلوم الاسلامية ،هو حضور الموسوعية في التأليف والتصنيف والكتابة ،بحيث صنفت الموسوعات ،ووضعت المصنفات الضخمة، والكتب الكبيرة في مختلف العلوم ، بحيث كان العالم الواحد يشتغل بأكثر من علم ، ويصنف ويؤلف في أكثر من تخصص،والموسوعية كانت طابع الكتابة عند علماء الاسلام.
وكثير هم العلماء الذين اتصفوا بطابع الموسوعية في تاريخ الإسلام.
الموسوعات المصطلحية:
من نتائج هذه التداخلية بين العلوم الاسلامية هو ظهور عدة مصنفات ومؤلفات تعتني بالمصطلح في مختلف العلوم والفنون ،تحديدا وتصنيفا وتوصيفا وترتيبا وجمعا وبيانا وتدوينا ،ومن هذه المؤلفات الرائدة في هذا الباب :كتاب التعريفات للجرجاني ، والكليات للكفوي ،وكتاب اصطلاحات الفنون للتهاوني ، وشرح الحدود النحوية لجمال الدين الفاكهي ، وطلبة الطلبة في الفقه الاسلامي لنجم الدين النسفي، وكتاب الحدود في علم أصول الفقه لأبي الوليد الباجي ،وكتاب الحدود الفقهية في الفقه المالكي لابن عرفة الورغمي،وكتاب الحدود والمواضعات لابن فورك ،وغيرها من المصنفات الكثيرة، وهي مصنفات و مؤلفات تدل على مدى الحرص الشديد في العناية بالمصطلحات والمفاهيم ، وتجسد أيضا العناية التي لقيها علم المصطلح في التراث العربي الإسلامي عامة ، و في مختلف العلوم ، والفنون خاصة.
كما أن مقدمات المؤلفات الفقهية، والكتب الكلامية، و المصنفات الأصولية، جاءت حاملة لمقدمات ونصوص ، تخص علم المصطلح تحديدا وتوصيفا وبيانا ، فلا يكاد يخلو كتاب أو مصنف من هذه الكتب إلا وتجده حاملا لمقدمة في المصطلح والمفاهيم الأكثر تداولا واستعمالا في ذلك العلم….
ومن الموسوعات المصطلحية التي ظهرت في العلوم الاسلامية كتب المعاجم القرآنية التي اشتغلت بالكلمة و اللفظة القرآنية في أصلها المعجمي والاستعمالي ..
وحضور المسالة المصطلحية في التراث العربي الإسلامي مؤشر واضح على مدى حضور المنهج في العلوم الاسلامية ،من حيث هو آليات ضابطة ،وقواعد راسخة وأصول مساعدة في اكتساب وتحصيل المعرفة ،لأن المنهج هو السبيل المرشد في تحصيل المعرفة بصفة عامة.
نمو علوم في احضان علوم أخرى:
ومما يثير الباحث ،وهو يستحضر ويتابع أثار هذا التداخل أن كثيرا من العلوم نضجت وتطورت في أحضان علوم أخرى، خاصة العلوم التي يجمعها وحدة الموضوع ، والمنهج، فعلم البلاغة وعلم اللغة، وعلم التصريف ،وعلم الصوتيات من العلوم التي نضجت ونمت وتطورت في أحضان كتب التفسير،خاصة ما كان من الكتب الأمهات، وهو ما تؤكده مدونات ومصنفات المفسرين ، فعلم النحو الذي نشأ أساسا لقصد فهم القرآن ، فهو حاضر بقوة في مصادر التفسير.
ومن ثم فإن علم التفسير من العلوم الجامعة لعدد من العلوم البيانية ، من لغة وبلاغة، وتصريف، وعلم القراءات ،وعلم الدلالة، وعلم أصول الفقه…بحيث اجتمع في هذا العلم-علم التفسير- ما تفرق في غيره من العلوم .
وهذا التصريح الذي قتال به عدد من المفسرين ومنهم ابن عطية الغرناطي ت554 ه في تفسيره المحرر الوجيز” عندما قال : إن كتاب الله لا يفسر إلا بتجميع جميع العلوم فيه”.
ومن الدراسات:كتب الاصول
– التصور اللغوي عند الأصوليين للسيد عبد الغفار مكتبات عكاظ-ط-1- السنة:1418ه.
– الخطاب الشرعي وطرق استثماره للدكتور إدريس حمادي المركز الثقافي العربي السنة :1994.
– البحث الدلالي عند الأصوليين حبلص محمد يوسف، مكتبة عام الكتب، مصر 1991.
– الدلالة وتفسير النص أحمد الكبيسي: مجلة كلية الشريعة العراقية ع 6، سنة 1986.
– دلالة الألفاظ عند الأصوليين لمحمود توفيق: مطبعة الأمانة مصر السنة: 1987.
من قضايا اللفظ والمعنى بين اللغويين والبلاغيين. لمليكة حفان، موقع ديوان العرب على الشبكة العنكبوتية..
– مفهوم المعنى دراسة تحليلية، د. عزمي إسلام حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، الحولية السادسة، الرسالة الحادية والثلاثون 1405، هـ 1985، م.س، ص.29.
محمد بنعمر
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



