في عصر غلبت عليه الرّكاكة، وشحّ فيه النّص الفكريّ حول مجريات الحياة الماديّة والاجتماعية، والّتي يعكسها النّصّ المكتوب، كونه الوسيلة الأهم والأسرع الّتي يمكن من خلاله الإبحار في عالم الواجد والوجود والكون برمّته. نقف أمام كتاب فلسفي للكاتب المفكّر الكرديّ ريبر هبون، بعنوان ” الحبّ وجود والوجود معرفة”.
يهدف مؤلف الكتاب إلى توسيع دائرة المعرفة والعلم في أوساط المثقّفين المعرفيّين الأحرار في العالم، من خلال حراك اجتماعيّ معرفيّ يركّز على محاربة التّجهيل، والسّعي إلى ترميم الذّات الإنسانية المحبَطة المستغلَّة اقتصاديّا وثقافيّا واجتماعيّا، من قبل السّلطات القمعيّة الّتي تبدأ بالبيت، ثمّ العائلة الموسّعة، ثمّ السّلطة المحليّة المسيطرة ثم السّلطات الأخرى في الدّولة.
وقد وضع الذات الإنسانيّة العالميّة والشّرق أوسطية خاصّة تحت المجهر، مبيّناً أورامه المتفشّية داخل هذا الجسد المريض؛ ليكون هذا الكتاب مرجعاً للحقائق الّتي يعيشها العالم في عصر الظلم، والقسوة والاستبداد، ليكون للعالم بمثابة رسالة تدعو إلى التّحرّر الفكري والعقائدي، والانتفاض على هذا الواقع الأليم.
يكفي أن تقف على عتبة الكتاب “العنوان”؛ لتعرف أنّك أمام طرح لأفكار فلسفيّة وجوديّة ما زالت تشغل بال الإنسان منذ أن وجد على كوكب الأرض. منذ أن أكل تفّاحة المعرفة، وفرّق بين الخير والشّرّ. عندها انفتحت عيناه على الحقيقة، ورأى نفسه عارياً بتفاصيله الجسديّة والفكريّة، وكلّ هذا من فعل الأفعى الّتي طغت حوّاء، وبدورها الأخيرة أغرت آدم ليأكل من التّفاح. هنا تجسّدت بداية المعاناة الّتي تعكس مقولة سارتر والتّي أوردها كاتبنا في كتابه: “الجحيم هم الآخرون”! لولا تدخّل الأفعى الخبيثة لبقي العالم في حالة عمًى عن طبائع الشّرّ، ولعاش آدم وحوّاء في نعيم مستديم.
هذه الأسطورة -حتّى لو اعتبرت خياليّة – فإنّها تجسّد عالمنا المادّيّ القائم على علّتين ذكرهما الكاتب: “التّنافس والغيرة”[i]، ولهذين السّببين قتل قابيل أخاه هابيل، بسبب غيرته منه لأنّه يستزوّج من إقليما الأكثر جمالاً من لبودا عروسه.
ما زال العالم والّذي يحصى عمره بالملايين، مبنيّ على هذين المبدأين، وهما أساس كلّ الحروب الوجوديّة حتّى يومنا هذا. فالدّول الكبيرة تسعى إلى السّيطرة على الموارد والثّروات الطّبيعيّة، وتتنافس فيما بينها على اختراع أسلحة أشدّ فتكاً ممّا عرفوه، لتحقيق غايات استعماريّة سلطويّة على حساب الشّعب المسكين. فتتآلف القوى الجبّارة فيما بينها، ويضع قادتها خططاً جهنّميّة تعمل على تفكيك الشّعب وإضعاف عزيمته، باستخدام الوسائل الإعلامية الحديثة، الّتي يعجز العقل البشريّ عن استيعاب وتحليل ما يطرح فيها لكثرتها، ولتعدّد مآربها؛ ممّا أدّى إلى نشوء حالة من البلبلة والإحباط في كلّ أنحاء العالم، وفي شرقنا خاصّة، فهو عرضة للتفكّك والتّشّتّت والاستعمار المعنوي من قبل الدول المتنازعة على ثرواته الطّبيعيّة وعلى ومواقعه الاستراتيجيّة، وقد عالج الكتاب هذه المواضيع بتعمق ومهنيّة ووضوح مع الإتيان بالشّواهد والبراهين.
السّلاسل في صورة الغلاف، تمثيل سيميائي للقيد الّذي يكبّل يدي الإنسان، ويمنعه من الارتقاء والتّحليق في عالمه الحرّ؛ لتكون ذاته كما أراد لها أن تكون: مبدعة، خلّاقة حرّة وطليقة كعصفور في الفضاء. وإلى جانب القيود، ترفرف عصافير الحرّيّة منطلقة نحو السّماء لتكوّن صورة برادوكسيّة، تجمع بين الشّيء ونقيضه، بين الحرّيّة والقيد، بين الانطلاق والجمود. والمعرفيون هم أولئك المنطلقون المحلّقون في سماء المحبّة أوّلا، ثمّ في سماء المعرفة والتّجديد، هم الفارّون الرّافضون للقيد، السائرون حسب مذهب “لا يغيّر الله ما بقوم؛ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم”. والثّورة ضدّ السّيطرة الفكرية والجغرافية طريق وعرة مليئة بالمخاطر. فالسّياسية القمعيّة تكبح جماح هؤلاء المتنوّرين لأنّهم الصّخور والحجارة الّتي تعرقل صيرورة سيطرتهم على الشّعوب الضّعيفة المستغلَّة.
لقد سبر مؤلّف هذا الكتاب الفريد، البعيد عن النمطية الفكرية، أغوار النّفس البشريّة ليستكشف هذا العالم الزاخر بالتناقضات، فعالج موضوع الألم مقابل السّعادة، الفرح مقابل الحزن والشّقاء، التّبعيّة مقابل الاستقلاليّة، الدّيمقراطيّة مقابل القمع، الحبّ مقابل الكره والموت مقابل الحياة.
وقد استوقفنا الكاتب في محطّات عرضٍ لآراء فلسفيّة كوّنها وعيه وإدراكه كمعرفيّ متخصّص في البحث والتّنقيب والتّفتيش والتّشكيك في مسلّمات الحياة السّياسيّة والاجتماعية والفرديّة. التّشكيك جعله يرى المتلازمات السّياسيّة والرّوحانيّة والاجتماعيّة من وجهة نظر أخرى غير الّتي تظهر للعيان، فألقى عليها ظلال فكره ورؤيته الثّاقبة ليكشف لنا الحقائق المتّسخة بالتّعتيم الإعلاميّ المقصود، والمبرمج والمخطّط له من قبل الاستعماريّين، وجرّد لنا الحقيقة المطلقة في ظلّ هذا التّعتيم المتعمّد للقادة، والسّاسة ذوي مصالح الهيمنة والاستغلال والتّفرّد العرقي والاجتماعي، مستعينا بأفكار فلاسفة ومفكّرين وضعوا بصمتهم في هذا العالم الماديّ والرّوحاني؛ ليأتي بالعلم الثّالث المستنبط ذهنيّا، أو من خلال التّجربة؛ من أجل إيجاد حيّز نفسيّ واجتماعي يعيش فيه الإنسان على سجيّته منطلقا بروحه ليكون كما خلقه الله بوعي المبدع الفنّان والمفكّر، ليعيش في عالم تسوده الديمقراطيّة والمحبة والتّقبّل. تشبه المدينة الّتي صوّرها فكر ووعي افلاطون في كتابه “جمهوريّة افلاطون”.
لقد نسب الكاتب جميع المعضلات البشريّة عامّة، وفي الشّرق الأوسط خاصّة، إلى سيطرة السّلطة الأبويّة والعقائديّة الدّينيّة والفكريّة، والسّيطرة المادّيّة المنفعيّة على شرقنا المريض؛ بسبب خضوع الفرد للقائد في العائلة الصّغيرة، (السّلطة الأبويّة) ليتغلغل سمّ الانقياد والخنوع والخضوع في نفس أفراد العائلة فينعدم الحوار والنّقاش ولا يعطى الفرد حيّزا ليطوّر نفسه كإنسان له كيان، وله شخصيّة مختلفة عن الآخرين، وهذا يبدا بالزّوجة وينتهي بالأولاد. ثمّ يتفشّى هذا السّم في المجتمع الواسع، فيخضعون لأساليب القمع والتّشتيت المستعملة ضدّهم من قبل القادة تحت نظريّة “فرّق تسد”، بأسلوب قذر وشاذّ وبشعار غير أخلاقيّ أنّ “الغاية تبرر الوسيلة”؛ هذا من أجل دبّ الخوف والرّعب في المجتمع الشّرق أوسطي وإضعافه، وتشتيته وقتل روح الفرد فيه؛ ليصبح مغتربا في أرضه وبين أهله. جلّ اهتمامه كسب لقمة العيش أوّلا ثمّ المتعة الجسديّة الّتي هي المتنفّس الوحيد لديه، مستمدّا قناعته ومواقفه من نصوص فقهيّة دينيّة تتناول في الغالب موضوع الشّهوات الحيوانيّة في العلاقة بين الرّجل والمرأة، والّتي من المفروض أن تقوم في الأساس على مبدأ قدسيّة هذا الرّباط الأسريّ، وتكوين عائلة تسودها المحبة والدّعم والتّشجيع بين أفرادها؛ من أجل تحقيق الذّات والوصول إلى درجات الكمال المعرفيّة في جو من الرّضا والمحبة. والتّعميم في هذا الطّرح يقلّل من مصداقيّتة؛ لأنّ الأمور مختلفة بين مذهب وآخر، بين فئة وأخرى.
لو أردت الغوص في عالم هذا الكتاب الساحر سنين طوال؛ لما استطعت أن توفيه حقه ولما استطعت الوقوف على معالمه المعرفيّة كلها، لزخامة المشهد، ودقّة التّصوير وعظمة الفحوى؛ فاكتفيت بالوقوف على بعض محطّات أرعشت خافقي وحرّكت فكري كونها قضية اجتماعية أوّلاً. منها ص 258، حين يتطرّق الكاتب إلى المعرفيّات الإناث اللّواتي لهنّ دور هام في تحرير الأسرة من عبوديّة السّلطة الذّكوريّة، وعدم الخضوع للرّجل واستبدال النّظام السّلطوي بنظام ينصف بين الطّرفين، ويحوّل هذه المؤسسة إلى مكان تسوده “روح المشاركة”، فهذا بلا شكّ سيغيّر وجه المجتمع إزاء السّلطة الخارجيّة، حين تقف لها الأسرة في المرصاد رافضة عبوديّة السّلطة المهيمنة عليها.
والسّؤال الّذي يطرح نفسه: هل يمكن للمرأة النّهوض لوحدها في مقاومة السّلطة الذّكوريّة الأسريّة المهيمنة؛ أم أنّ الأمر يتطلّب تغيير عقليّة الرّجل أوّلا! والجواب عند المرأة المعرفيّة في كلّ مكان في هذا الشّرق؛ فديناميكيّة العلاقة بينهما تختلف من بيئة لبيئة ومن مجتمع لآخر، فقد لا تملك المرأة الأساليب والجرأة الكافية لخوض حربٍ كهذه.
لقد كنت وما زلت بعيدة كلّ البعد عن الفضائيّات وأخبارها، الّتي تخدم في الغالب مصالح تآلفات حزبيّة سياسيّة، تهدف إلى التأثير على الرأي العام بإلباسه مفاهيم مستمدّة من خطط قمعيّة. وأنا بدوري أكره عالم السّياسة لأنّه مليء بالكذب والنّفاق. وأدع الأمور إلى مدبّرها ربّ السّماء، هو يرى كلّ شيء ويعي كلّ شيء ولن نرى إلّا ما يشاء رب العالمين!
هذا البعد جعلني أنظر إلى الوجود نظرة تأمّليّة، باحثة عن نفسي من خلال المحيطين بي والّذين أعتبرهم مرآتي الّتي أسقط عليهم ما بداخلي لتعكس لي كنه ذاتي الحقيقيّة، فأعمل على إصلاح ذاتي الّتي تظهر نتائجها فيمن حولي، وشعاري هو: “إبدأ بنفسك”.
لم أقف في الكتاب على أيّ اختلاف جوهريّ بين الماضي والحاضر. الحروب كانت منذ آلاف السّنين وما زالت مرتكزة على المطامع وحبّ السّيطرة، ما تغيّر هو الوسائل وأساليب القتال فقط. ويبقى السّؤال: هل هناك أمل في انتهاء الحروب وحلول السّلام والطّمأنينة بين الشّعوب في القرية الصّغيرة الكبيرة؟ أم أنّ الكرة الأرضية وما عليها يعيشون في دورات حياتية متكرّرة كدورة المياه في الطّبيعة؟! ثبت لنا أنّ الشّعوب والحضارات تنمو، وتزدهر لتصل إلى درجات عالية من التّطوّر الثّقافي، الاقتصادي، العمراني، الاجتماعي والسّياسي وعند وصولها إلى القمّة تخبو، لتأتي حضارة أخرى تمحوها وتحلّ مكانها وتعيش على أنقاضها، وتأخذ بالنّمو تدريجيّا حتّى تصل للقمّة، ثمّ تنتهي هي كما انتهت الّتي قبلها. فالحضارة فعل ديناميّ متحرّك يدور كدوران الكرة الأرضيّة، مسيّرة من الخالق الواجد، فوضع فيها قوانين عادلة كي يعيش الأنسان بسلام ومحبّة مع أخيه الإنسان، والإخلال بهذه القوانين الكونيّة تعيد الإنسان إلى نفس الامتحان ونفس التّجربة حتّى يطهّر نفسه من شوائب الأنانيّة والعنف والتسلّط والكبرياء وكلّ ما يسيء إلى الآخرين. وإلّا فإنّ الكارما ستفعل فعلها وتعيد للخاطئ أضعاف ما زرعه.
وها نحن نرى غضب الطّبيعة على الإنسان الّذي لم يتعلّم من أخطائه، ولم يتعلّم من تجارب غيره، فبقي عنيدا جبّارا لئيما؛ لهذا سيبقى في هذا المكان المنخفض حتّى يقرّر التّغيير، والتّغيير يبدأ بنا بكلّ فرد في هذه القرية الصّغيرة، ببثّ المحبّة والسّلام الدّاخلي للنّفس، ثمّ للعالم أجمع. فلا بدّ لليل أن ينقشع!
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.