أدبالتنويري

هذيان الغول على لسان كينيدي ومحاكمة القتلة

يقول الفلسطيني المثقل بأوجاع شعبه في قصة (رسالة إلى فانيا): وأن غزة ليست بلدا أو حتى مدينة أو قرية، إنما قطعة من جحيم، لا لون فيها غير الأسود.

هكذا يبدو الحال في جميع قصص الروائي الفلسطيني يسري الغول، إذ إنه يحاول تسليط الضوء على واقع المدينة التي يعيش فيها بشكل مغاير عن السائد، فهو الفنتازي المبهر، صاحب البصمة الكبيرة في المشهد الثقافي في قطاع غزة.  

ومع القصة الأولى “دير شبيغل/ المرآة”، تبدأ القصة مع الميت الذي وجد قبره مفتوحاً فقرر الهرب، يحلق في الفراغ حتى يلتقي المرأة، ثم يستعيد حكمة الجدة “الحياة… ثوان معدودات، فاحمل نفسك وهاجر إلى قلب تحبه”، لكن الرجل يضيع ما بين الموت والحلم، والموتى نيام حالمون، لديهم قصصهم التي يتداخل فيها الواقعي بالخيالي، وغالباً ما يجري ذلك لمجرد شعور الشخص بالاغتراب عن واقعه اليومي المباشر، سياسياً كان أم اجتماعاً، وتحويل ذلك الواقع إلى مادة للسخرية.

ورغم أن العمل الأدبي تشبع برائحة الموت وشبح الاغتيالات والحروب إلا أنه لا يخلو من الحديث عن الحب والمغامرات العاطفية وعبث العاشق كما جاء في قصة دير شبيغل.

يسري الغول المعروف بموسوعيته يحاول أن يصنع لنفسه مدرسة جديدة في الأدب العربي في محاولة للانقلاب على أشكال السرد والمدارس المتعارف عليها. ويحاول دمج الواقعي بالسحري بالفنتازي وصولاً إلى تشكيل البنيات السردية كما يجب لها أن تكون حسب وجهة نظره، وأظنه نجح بشكل كبير في تحقيق هدفه، إذ إن متلازمة الموت في مجموعاته السابقة: الموتى يبعثون في غزة وقبل الموت بعد الجنون وعلى موتها أغني ثم نساء الدانتيل وخمسون ليلة وليلى جعلت من هذا الكاتب صاحب مدرسة بإعادة حيوات من غيبهم الموت ليكون الموت أول القصة وليس نهايتها كما هو سائد في الأدب والحقيقة.

الغول لم يجد الجمال في مدينته التي تعج بالموت والفوضى، فاختار أن يصنع في برزخه عالماً جميلاً، مع العودة بالوراء -فلاش باك- للحديث عن الظروف التي أوصلت أبطاله للنوم في قبور تعج بالقصص؛ فغزة بلا موانئ أو مطارات بينما المعابر مغلقة، لذا لا بد من صناعة أجنحة للتحليق في الفضاء الرحب.

يقول الروائي والقاص العراقي المعروف ضياء جبيلي عن “جون كينيدي يهذي أحيانًا”، إن يسري يحاول خلق واكتشاف ميتات لشخصيات مركزية ذائعة الصيت… تستدعي تلك الشخصيات الواقعية لتوظفها في أجواء غرائبية وعوالم مختلفة وقوالب جديدة تعيد صياغة الموت على خلاف الطريقة الشائعة، إنها سرديات ما بعد الموت/الاغتيال.

ويسري، الذي يمكن لمس وجوده وحضوره اللافت كجزء من النص أحيانًا، مستفيدًا بذلك من حقه في بلوغ أقصى ما يمكن من خيال، الأمر الذي يرى فيه جبيلي أنه “يضفي على التجربة طابعًا بعيدًا عن التقليدية والقصدية، قريبا من الرمزية التي تحاول إيصال رسائل يمكن استشعارها في كل مرة ننتهي معها من قراءة قصة.

ووصف جبيلي هذا العمل بأنه “مجموعة قصصية مختلفة ورائعة”، أعاد من خلالها يسري صياغة الأحداث التاريخية الكبرى التي أدت في النهاية بالشخصيات إلى الموت بتلك الطريقة، لتكون بعد ذلك المادة التي يرسم بواسطتها الكاتب سير وأحداث مشاهد مختلفة.

يسري الغول، المخلص للقصة القصيرة، رغم أنه أصدر روايتين سابقتين: غزة 87 ومشانق العتمة التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حاول من خلال قصص جون كينيدي يهذي أحياناً أن يثبت أقدامه كأحد أهم كتاب القصة العرب، حيث استلهم عوالمه من قراءات عديدة لأدباء عالميين وعرب حاولوا الخوض في الماوراء وتخيل مشهدية الحياة بعد الموت، خصوصاً أن الأدباء المسلمون يخافون الحديث في تلك العوالم بشكل مجنون كما فعل الأخير، وحاول تجاوز كل رؤى أدباء أمريكا اللاتينية ودعاة الواقعية السحرية وغيرهم.

سبق وتنبأ غريب عسقلاني (شيخ الروائيين الفلسطينيين) بالكاتب الغول، حيث ذكر في أكثر من مقالة قبل رحيله وكذلك في أكثر من لقاء أن الغول يصعد نحو العالمية بشكل واضح، وهو مجدد حقيقي يمتاز عن أقرانه بمعرفته الموسوعية وقراءاته المتعددة للأعمال العالمية بلغاتها الأصلية، فهو المسافر وخريج الأدب الإنجليزي. إلى جانب ذلك فغريب عسقلاني وغيره من مثقفي وأدباء فلسطين يؤمنون أن ليسري الغول دور وطني وإنساني واضح، حيث يسعي إلى تعزيز هويته من خلال تأسيس تجمع قرطبة الثقافي فترة الانقسام الفلسطيني، وجمع كبار الأدباء والكتاب والإعلاميين من النخبة الفلسطينيين على طاولة واحدة للحوار وتبني ثيمة “تقبل الآخر”. كما أنه قام بتأسيس مبادرة شغف الثقافية التي جمعت الشبان -أبناء الجامعات- ليستمع لهم ويساهم في تطوير ميولهم الثقافية والأدبية ثم تنمية قدراتهم وصقل مواهبهم، كما أنه صاحب فضل كبير على كثيرين بطباعة أعمالهم وخروجها للنور، وأنا واحدة من هؤلاء، أدين بالشكر لهذا الملهم الذي قدمني لأحدى دور النشر فصدر كتابي الأول: السر يكمن في تفاصيل صغيرة.

الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول هو خريج برنامج تحالف الحضارات بالأمم المتحدة، شارك في مؤتمرات عالمية ساهمت إلى جانب القراءة الغزيرة، صقل كاتب محترف هو الألمع في جيله بالأراضي الفلسطينية، صدر له العديد من الأعمال الروائية والقصصية آخرها رواية مشانق العتمة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وترجمت أعماله إلى أكثر من سبع لغات، آخرها الهندية إلى جانب اثنين وعشرين قاصاً من أهم الأدباء الفلسطينيين منذ النكبة.

ويسري لاجئ من قرية هربيا المحتلة، مواليد مخيم الشاطئ في غزة عام 1980، نال جوائز عديدة، أبرزها جائزة فلسطين للقصة القصيرة عام 2002.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة