في جلسةٍ بين الكاتبة والقارئ يدور حوار، ويتبادلان الأفكار في مجموعة من الموضوعات والرؤى الحياتيَّة، حيث لا يشعر القارئ بالغربة بين الصفحات، فكأنَّما هو في زيارة يشرب العصير الليمون بالنعناع، ويستمع إلى خبرات الكاتبة ونصائحها وما ترويه عن الحياة، وأمور تشغله.
وعن الطبيعة وغرائبها ورسائلها حديث كبير يدور في إطار شيِّق وماتع حيث تستعمل الكاتبة عبارات مثل دعني أخبرك عن، هل تعلم، اشرب العصير وتعال معي لنكتشف، تبحر داخل نفسك والقارئ لا تأتيه الحكمة مباشرة بل يستقيها من العبارات عن اقتناع تام، بعدما يتدرَّج العرض في أسلوب الكاتبة عن طريق طرح الأسئلة، وعرض الاقتباسات، وقصّ الحكايات.
الفصل الأول من الكتاب يهدف إلى تبسيط معلومات علميَّة من خلال اسلوب أدبي، ثم تتبلور الحكمة الحياتيَّة بالأخير والتي لا تبتعد عن المعلومة ذاتها، تأتي الحكمة الحياتيَّة فتلمس روح القارئ ووجدانه وإنسانيته وتلتقي مع المعرفة العلميَّة فيتصافحان في مزيجٍ بين العلم والأدب لم يسبق له مثيل.
فمثلا تحدَّثت الكاتبة عن وجود أوزون بشري، وقد أرادت أن تتحدَّث عن طباع البشر الأنانيَّة والخيِّرة، فدار حوار خيالي بين الأوزون والأكسجين، يقول الأول للثاني: أنا خير منك، أنا أرتفع بعيدًا عنك، وأفوقك بذرة. من خلال الحوار تضع المعلومة العلميَّة ثم تتبلور الحكمة الحياتيَّة، وهي أن لكل منا دوره المهم في حياة الناس، ولا غنى لبعضنا البعض عن الآخر، علينا فقط أن نمتن ونقدِّر دور الآخر ولا بأس في ذلك. كل هذا في سياق أدبي انسيابي رشيق.
ووضعت لنا الكاتبة معلومات عن الإلكترون، والقطب الشمالي، والأعين، والأحصنة، والقارة الواحدة الأولى بانجايا قبل انفصالها لقارات، والبحر الهائل، تثس في حديثها عن الصلابة والإصرار فتمتلك الأرض الصلابة ويمتلك البحر الإصرار، ويدور بينهما حوار تتحدَّى الأرض البحر، بأنَّه لايستطيع تفريقها، حتى وإن تقسَّمت إلى قارات مستهينة بدور الإصرار
لديه قائلة وماذا يفعل بنا البحر الهائل إنه مجرد سائل
لكنه ينجح وتأتي الحكمة وتقول إصرار يا صلابة لا غنى للمرء عن كلينا
وتأتي الحكمة من الكاتبة حين تقول وفي الحياة كم من أناس ناجحون يمتلكون القوة والصلابة، لكنهم يفتقرون إلى الإصرار، وهذا الناجح لا يملك من أمره أن يكون مقداما فما تراه إلا قد ضل سبيل النجاح، أو على الأقل هو على طريقه ثابت لا يتحرك. فتلك المعادلة التي نتاجها التقدُّم والاستمرار، لا تتحقَّق إلا بإضافة القوة مع الإصرار وكم للطبيعة من أسرار.
وتحدَّثت الكاتبة في موضوع آخر عن العناصر، وأنَّ لكل عنصر طيف خطي يميّزه عن الآخر، وكذلك لكل منا أيضا ما يميّزه وعلينا فقط أن نكتشف هذا التميُّز داخلنا ونعمل على إظهاره.
تحدَّثت عن الطبيعة في القارة القطبيَّة الشماليَّة في حديثٍ ماتع، حيث كتبت تقول عندما كنا هناك كانت أنوفنا تتوهج بضوء أزرق خيال،ي ونسمع لأنفاسنا أجراس ذات رنين وطقطقة ونتلفظ في هواء الزفير أقواس قزح مصغرة وملونة، ونرى السماء في حلة زمرديَّة خضراء، عندما مالت الشمس إلى المغيب بعد غياب ستة أشهر من السطوع،
ثم تفسر لنا كيفيَّة ذلك، وتضع المعلومة ثم تأتي بأطروحتها، والخلاصة أنك عندما ترى العجب عليك أن تبحث عن التفسير ولا تمل أبدا من البحث والاستكشاف.
أمَّا الفصلان الثاني والثالث أو كما أسمتهما الكاتبة الرشفة الثانيَة والرشفة الثالثة، يتغير ويتجلى فيهما أسلوب الكاتبة الذي تميزت به والذي يهدف إلى إعلاء الأخلاق والارتقاء بالنفس البشريَّة وتعزيز القيمة الدينيَّة، فهناك اتجاه واضح إلى النبل والرقي في الموضوعات، فتحدثت عن العزيمة كيف تزداد، ويفر المرء إلى الله بخفة، وتحدثت عن الزهد وكيفيَّة التحلِّي به مع التمتع بما أنعم الله علينا من نعم، وعن الصبر متى يكون مستحبًّا ومتى يكون مكروهًا، ووضعت لنا حلولا لمشكلاتنا وتنوَّعت المواضيع أيضا فبعض العناويين كالآتي:-
-السعادة في قبضة يدك.
-أنواع الناس.
-خلطبيطة بالشغف.
-يا بني فانظر ماذا ترى.
-وبعض اللين قوة.
-نعناع الجنينة.
-كيف تعود الكتابة ويعود وعاء السمن؛ وهذا الأخير موجه إلى الأدباء وتناولت فيه الكاتبة مشكلة الفتور الكتابي التي يمر بها الكاتب أحيانا، أمَّا قصة وعاء السمن فعليك أن تقرأ الكتاب لتعرفها.
وممَّا كتبت في هذا الموضوع: عندما نكتب ونستشهد بأقوال الأولين، نقول يقول فلان كذا وكذا، وقد نظن أننا نحن من نثري كتاباتنا بأقوالهم، لكننا في الحقيقة نضيف إلى أقوالهم حيوات أخرى، فيستمر فلان يقول حتى وهو ميت، وكأنَّما حوار كبير يدور معه، وفي كل مرَّة ومع كل كاتب يولد من رحم أفكارهم فكرا جديدا، وهكذا نستطيع أن نقول إنَّ الكلمات ليس فقط تعيش، بل تلد أيضا ولها ذريَّة.
هكذا دارت الرؤى الحياتيَّة من الكاتبة في موضوعات متنوّعة، وهي تتحدَّث إلى القارئ، طالبة منه أن يشرب العصير الليمون بالنعناع اللذين لا يبتعدان عن السياق في الموضوعات، وستعرف كيف ذلك عندما تقرأ الكتاب، لكنني سأخبرك شيئا عندما وضعت الكاتبة عنوان ليمون بالنعناع، أرادت أن تشير إلى اللذة مع الإفادة، وهذا تماما ما يشعر به القارئ عندما يقرأ هذا الكتاب النافع غير الممل.
بالأمس وضع الكاتب أحمد خالد توفيق رحمه الله عنوانا لكتابه “شاي بالنعناع” تناول فيه مقالات من حياته من خلالها يعتدل مزاج القارئ، وهكذا لِقارئ ليمون بالنعناع ارتواءة يستشعرها مع الكلمات.
وبالنهاية تصل الكاتبة بالزائر(القارئ) إلى حديقة المكان ونبتة النعناع وظل أشجار الموز والليمون عليها وقت الغروب في مقالها الأخير نعناع الجنينة لتضع لنا ابتسامة مع كلمات أغنية نعناع الجنينه لمحمد منير التي تناولتها الكاتبة بشكل فكاهي لتضع لنا حكمة مهمّة بالأخير كما هو المعتاد.
كتبت: كنَّا نستمع إلى كلمات الأغنية الغريبة لكن لا تهمنا غرابتها فنحن نستمتع باللحن والطرب، رغم قول الشاعر نعمات أم صبعين رطب والباقي بلح أمهات، ثم تمضي الكلمات، ويقول سقطت بالحليب ما بينت له عكارة،
وها قد أصبحت نعمات خشافا باللبن، لكن لايهم فهي أغنية جميلة ونحن نستعذب اللحن وتظل الكاتبة تعرض كلمات الأغنية، ممَّا يدفعنا إلى الضحك والابتسام إلى أن تنتهي بالحكمة من الموضوع قائلة: وفي الحياة هناك من يعجبك كلامه وكلامه مقنع جدا، يأخذك لدرجة من الانسجام مع ما يقول، فتؤكِّد أنَّه على حق، ثمَّ ما أن تجلس وتتأمَّل جوانب الحديث تراه غير صائب، لكن الذي حدث هو أنَّه أثَّر عليك بطريقته وهيئته وترتيب حروفه وانفعال الآخرين به من حولك، فقد أتقن اللحن، كل هذا يؤثِّر فيك فتصدّقه، ولمثل هؤلاء أقول: انتبه، فالنعناع لا يمسك في الحيطان، حقيقة إنَّ حالنا مع الأغنية كان أبسط في وجود ويكيبيديا، فاتَّضح لنا أنها لم تكن حيطان، إنما هي حيضان شجر الموز، ممَّا يجعلنا نتمنَّى، أن لو كان لنا مثل ويكيبيديا لتكشف لنا حقيقة الأشخاص بالنهاية.
إنَّ كتاب ليمون بالنعناع هو كتاب لذيذ، طباعة فاخرة مرفق بالصور التوضيحيَّة من إصدارات دار الإسكندريَّة للنشر والتوزيع، للكاتبة د.عفاف فتح الله الحباك.
_____
*دكتور خالد عزب.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.