التنويريمكتبة التنويري

السياسة في مصر؛ المفقود في الحياة العامَّة هل هناك أمل لعودته؟


في مصر باتت الحاجة ملحَّة اليوم وليس غدا إلى تناول الشأن السياسي بصراحة، لأنه بدون ذلك فالمستقبل لمصر وفي هذا الاإطار جاء طرح الباحث المرموق في العلوم السياسية هشام جعفر في كتابه (لمن السياسة في مصر اليوم ) الصادر عن دار مرايا .
هدف هذا الكتاب أن يجدد مناهج النظر إلى السياسة الجارية في مصر الآن، لذا فهو يجادل بفصوله الأربعة بأنها باتت تُصنع من فواعل جديدة بجوار القديمة منها، وتتحدد ملامحها بخصائص جديدة ومن مادة جديدة، وتصاغ أشكالها وترسم تفاعلاتها في مجالات جديدة وبقضايا لم تكن مطروحة من قبل.

وهكذا، فإنّا في مصر – كما في العالم من حولنا – نشهد إعادة تعريف للسياسة من مداخل جديدة، أعادت تحديد خصائصها وفواعلها وخطابهاونوعية الأولويات فيها.

يري هشام جعفر أن مساحات السياسة تتقاطع بين محدّدات ثلاثة:

1. تطور هيكل الدولة ووظائفها وأدوارها المعاصرة، وبهذا فالدولة ليست كيانًا مصمتًا لا يصيبه التحول والتغير، ولا تجري بين جنباتها للصراعات والتنافسات – اجتماعية وسياسية وعلى النفوذ، ولا يصيب مؤسساته التحلل – ليس نتاج عدم اليقين الذي يسود العالم الآن، ولكن أيضًا لأن طبيعة الزمن المعاصر لا يمكن أن نتحدث فيه عن الوحدة والتماسك.

لذا ناقش في الفصلين الأول والرابع ملامح المأزق والأزمات التي تتعرض لها الدولة المصرية في الزمن المعاصر، واقترح فيهما بعضًا من التوجهات الاستراتيجية أو أبواب الخروج التي يجب أن تسلكها جمهورية ما بعد يوليو1952. ففي رأيي أن الجمهورية التي أسسها الضباط الأحرار منتصف القرن العشرين قد انتهت، ومصر تحتاج بالفعل إلى جمهورية تتأسس على عقد اجتماعي جديد يراعي تطلعات المواطنين المصريين خاصة الفئات الشابة فيه.

2. اقتصاد السوق أو الرأسمالية في مرحلتها التي تطورت إليها في الزمن المعاصر.
في مصر – كما في غيرها من البلدان – لم يعد مطروحًا الثنائيات التي حكمت القرن العشرين مثل اقتصاد مغلق في مواجهة اقتصاد مفتوح، أواشتراكية في مواجهة رأسمالية، أو قطاع عام في مواجهة قطاع خاص، وغيره مما كان مطروحًا من أسئلة في مجال الاقتصاد كما في موضوعات السياسة والثقافة. فالواقع المعاصر أكثر تعقيدًا مما كان، وقد تطلب ذلك ممارسات وتجارب تتداخل وتمتزج فيها المجالات والقضايا والقواعد التي كنا نظن أنها تتوزع على ثنائيات متناقضة مثل مرج البحرين لا يلتقيان.

الدول الرأسمالية بعد جائحة كورونا وقبلها، وبعد الأزمة الأوكرانية وقبلها، تدعم السلع والخدمات للمواطنين. ومع إعادة صياغة سلاسل التوريد تتخذسياسات حمائية، كما تظل تحافظ على دعم التدفق الحر للمعلومات والسلعوالخدمات. وفي أحيان تتدخل لضبط سياسات السوق وغيرها من سياسات وإجراءات تجعلنا نتحدث عن رأسمالية لا يحكمها السوق فقط، بل تلعب الدولة أدوارًا فيه تعيد بها ما فاته.

وفي المقابل، فإن الصين – ثاني أكبر اقتصاد في العالم – برغم الحديث عن رأسمالية الدولة، إلا أن اقتصادها يقوم على القطاع الخاص، ولا يمكن لاقتصادها أن يعزل نفسه عن الاندماج في العالم، تصديرًا واستيرادًا.

وبرغم هذه العوالم المستجدة لايزال يحكم تفكيرنا الثنائيات المتعارضة والايديولوجيات المستقرة والاستقطابات البالية …إلخ، وقد خصص هشام جعفر الفصل الثالث لرصد ومناقشة تأثير هذه التحولات على ملامح السياسة في مصراليوم.

3. تغيرات المجتمع، خاصة في بعدها الثقافي/ الديني، فالجذور العميقة للسياسة تصنع في المجتمع كما ترسم ملامحها من خلال تطورات هيكل الدولة وتغيرات السوق، وهنا يشير هشام جعفر أنه لا يمكن التفكيرفي المجتمع وفق مفاهيم باتت قدرتها التفسيرية ضئيلة، من قبيل: الطبقة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، وكذا المؤسسات الدينية، والنقابات والحركات الاجتماعية، والتنظيمات السياسية أو الدينية. كل الظواهر التي عنيت بها هذه المفاهيم وقامت لدراستها تشهد تحولات، وسيولة وتشظٍ كبيرين، بالاضافة إلى ما نشأ بجوارها من فواعل ومجالات وأولويات iPhone التفاعل بين هذه المحددات الثلاثة ترسم أوضاع جيواستراتيجية مستجدة في الإقليم الذي يحيط بمصر والعالم الذي تحيا فيه -وهو ما خصصنا له الفصلين الرابع والخامس.
يتعامل البعض مع هذه العوامل باعتبارها مجالات منفصلة، وقليل من يدرك أن التطور فيها جميعا جوهره واحد؛ وهو المراوحة بين الوحدة وبين التجزيء أو التفسيخ. في الوحدة نتكلم عن السيادة المطلقة للدول والسوق الواحد الذي تصنعه الدولة القومية والخطاب الديني الصحيح الذي يتضمن فهما وتفسيرا وحيدا للنصوص الدينية. هذا هو صلب الإبداع في هذا الكتاب .
لكن وفق منطق التجزيء والتفسيخ فنحن مع سيادة ناعمة أو تلاشي للسيادة بالكلية بحكم العولمة وسلاسل التوريد، ودور أكبر للمؤسسات المالية الدولية، وأسواق متعددة لا سوق واحدة: منها ما هو مندمج بالكلية في الرأسمالية والأسواق الدولية، ومنها ما يزال تقليديا يقدم خدماته لجمهور محلي ضيق.
أما الخطابات الدينية -واستخدمها بما يفيد التعدد- فانتفت منها عبارات القول السديد والقول الصحيح ليتقدم القول المناسب الذي يتضمن التغير والتبدل والاختلاف على حسب أحوال الناس، لكن الأهم أن ما يحكمها هو النفع والعملية وفق منطق الإجابة على أسئلة الناس العملية والمباشرة -وهو ما يسود في السياسة أيضا.
ويلاحظ أن جزءا معتبرا من حالة التدين -كما في الدولة والاقتصاد- يسوده منطق الاستهلاك، وعندما تتحدث عن الاستهلاك فأنت لا تتحدث عن مواطن في علاقته بالدولة، ولكن عن مستهلك أو زبون في علاقته بجهة الاستهلاك، ويتم وفقا له تسليع الرموز الدين؛ حين يجري استهلاكها كبقية السلع المادية.
يتضافر مع هذا -بما يعمق التجزئة – أن العالم ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين لم يعد يتعامل وفق منطق الايديولوجيات الشاملة؛ ولكن قواه وموارده الآن تتوزع على ملفات أو قضايا واضحة ومحددة: حقوق الانسان، البيئة والتغير المناخي، النوع الاجتماعي، مناهضة الفساد، والعنصرية …إلخ ، وهي قضايا وإن تحولت إلى منظور متكامل إلا أن لكل منها منطقه الذاتي الذي يختلف عن القضايا الأخرى والأهم أنها انشأت ما بات يطلق عليه في أدبيات المجتمع المدني “أصحاب المصلحة” -أي الأطراف المهتمة والمتأثرة بالقضية مباشرة أو بطريق غير مباشر -وهو ما سنناقش تأثيره في إعادة رسم ملامح الفعل السياسي في مصر الآن.
الجديد في هذا الكتاب هو اهتمامه برصد الفاعلين الجدد والممارسات المستجدة، والمجالات التي أعطاها الناس العادية اهتمامهم، ولكن فصول الكتاب الستة ومقالاته الخمسين -التي كتبت على مدار العامين الماضيين- لا تغفل تأثير ذلك كله على السياسة التي كانت تصنع في المؤسسات التقليدية وبالفاعلية القدامى.
ما يقدمه الكتاب إطارا تفسيريا وتحليليا قد يساعد على الفهم لما يجري حولنا، ولكنه لا يطرح إجابات ولا توجهات محددة -ولا أظن أن أحدًا يملك ذلك الآن؛ لا الدولة بمؤسساتها ولا الأحزاب بنخبتهم ولا المجتمع المدني والقطاع الخاص بمؤسساته- لذا فما نحتاجه هو بناء منعة ذاتية وطنية تجعل من الحوار سبيلا لحل مشكلاتنا والتعامل مع تحديات الواقع .

إن طرح هشام جعفر الأهم والأكثر فاعلية هو طرحه للحاجة لعقد اجتماعي جديد والعقد الاجتماعي هو إطار العلاقات بين الدولة والمجتمع حيث يعترف المواطنون بحق الدولة في الحكم مع التزامات معينة تقع على عاتقها في المقابل.

يبيّن العقد الاجتماعي الجزء الغاطس من أي نظام سياسي من جهة الفئات الاجتماعية التي تسانده نتيجة إعادة تخصيص الموارد لصالحها وبما يخلق الشرعية التي تحتاج إلى قاعدة اجتماعية واسعة بما يكفي لتكون مستدامة. ولتحقيق الشرعية يحتاج الحكام إلى التحالف مع طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، فالدولة متأصلة في مجموعة ملموسة من الروابط الاجتماعية التي تربطها بالمجتمع وتوفر قنوات مؤسسية للتفاوض على الأهداف والسياسات.

وفق هذا المنظور، فقد مر النظام التعليمي المصري بمراحل ثلاث. الأولى: مرحلة ما بعد 1952 مباشرة وفيها تم إصلاح «الوصول» الذي اتخذ شكل التوسع في النظم التعليمية على جميع المستويات. وكان العامل الدافع هو خلق موارد تعليمية جديدة بما في ذلك المباني والمدرسين والمواد التعليمية، وكان عامل الجذب هو التوظيف العام للخريجين حتى من المدارس الثانوية. كانت هذه الموجة مدفوعة بكل من الوفرة السياسية المرتبطة بالاستقلال والوفرة النسبية للموارد. ولم يُنظر إلى الوصول إلى التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي في المقام الأول على أنه وسيلة لبناء رأس المال البشري والمجتمع المدني القوي في مواجهة سلطة الحكم، بل كان يُنظر إليه على أنه وسيلة لضمان الإذعان أو سبيل للمقايضة السياسية بتوفير الفرص الاقتصادية والمزايا الاجتماعية (الحراك الاجتماعي) مقابل التنازل عن الحرية السياسية.

بات التحول كما يذكر هشام جعفر المقيد بعد هزيمة 67 عن هذه الصيغة محتمًا لنقص الموارد التي يمكن تخصيصها للخدمات العامة وفي مقدمتها التعليم، مع حدوث تحول في الاقتصاد في الثمانينيات من القطاع العام للخاص الذي يجب أن يستوعب العمالة، إلا أن هذه التحولات لم تأخذ مداها نتيجة وجود عدد من الكوابح الاجتماعية التي منعت النظام من التمادي أو الوصول إلى آخر هذه الصيغة. وفي هذا الإطار يمكن فهم التحدي الذي مثلته ثورة يناير 2011 لهذه الصيغة والتي كان من أسبابها الاحتجاج على تدهور الخدمات العامة وفي مقدمتها التعليم.

في هذه المرحلة الثانية حدث تحول -وإن كان على استحياء- في مقصد التعليم من خلق بيروقراطية وطبقة وسطى تدعم النظام إلى عمالة يتم توظيفها في القطاع الخاص الذي اتسع بالتدريج منذ تسعينيات القرن الماضي.

تجتاح المنطقة الآن- ومنها مصر- موجة ثالثة من التغيير التعليمي، مدفوعة في المقام الأول باليأس المتزايد، أو ما يُمكن وصفه أيضًا بالواقعية الأكبر للأنظمة القائمة في ظل ضغوط الميزانية المتزايدة الناتجة عن تراجع أسعار المحروقات منذ عام 2014، والضغوط الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة التي فرضها ذلك على جميع البلدان العربية، والتي تفاقمت أوضاعها الاقتصادية بسبب جائحة كورونا، فتسعى معظم الأنظمة إلى الحد من الإنفاق على التعليم، وتوجيهه نحو تسريع التحول في تركيزه بعيدًا عن تدريب موظفي الخدمة المدنية المحتملين.

وفق هذا التحول، فإن السلطات المصرية اليوم تسعى لإصابة ثلاثة طيور بحجر واحد: إداري وآخر سياسي وثالث تنموي. إنها تريد إنتاج كوادر إدارية تكنوقراطية تابعة ومخلصة لمؤسسات الدولة لتولي الوظائف الإدارية التي تؤديها تقليديًا البيروقراطية الأكثر استقلالية، كما أنها تريد من تلك الكوادر أن تتولى وظائف الوسيط السياسي بين المواطنين وأجهزة الدولة لفرض حكمها وإضفاء الشرعية عليها (مؤتمرات الشباب وتنسيقيتهم الحزبية)، وثالثًا تأمل أن تساهم هذه الكوادر المتخرجة حديثًا في الظهور الموعود لاقتصاد المعرفة الذي هو رطانة أكثر منه حقيقة (التوسع في إنشاء الجامعات الخاصة).


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة