التنويريمنوعات

كرة القدم أفيون للشعوب أم باعثة على النهضة؟

كرة القدم كما يعلم الجميع لعبة ساحرة ومثيرة ومسلية، وهي اللعبة الأكثر شعبية في العالم، لا تحتاج إلى تعقيدات كثيرة لممارستها، لذلك تعتبر اللعبة الأكثر شعبية لدى الطبقات الفقيرة والهشة، بالنظر إلى بساطة متطلباتها التي تتجلى في وجود فريقين، وكرة وأرضية سواء كانت أرضية معشوشبة أو غير ذلك، ولذلك قلما تجد فردا في مختلف أنحاء العالم لم يسبق له ممارستها والاستمتاع بسحر مداعبتها.

 وبالعودة إلى المونديال العالمي الأخير الذي أقيم بدولة قطر، فقد لاحظ جل المتتبعين  لأطوار نهائياته حجم المتابعة الجماهيرية للمقابلات الكروية بين مختلف دول العالم،  سواء داخل الملاعب أو خارجها، أو عبر القنوات الفضائية والشاشات العملاقة التي نصبت في مختلف المدن والقرى في جل مناطق المعمور، مباريات مثيرة شاهدتها مختلف الشعوب والقبائل والطوائف العرقية والدينية.

 ولا شك أن الجميع لاحظ كيف أن الشعوب أظهرت هوسا منقطع النظير بهذه الرياضة العالمية المحبوبة من طرف مختلف الأعمار والأجناس، إناثا وذكورا، شيبا وشبابا أطفالا ونساء،  هوس كبير  لم يستطع أي نشاط آخر أن يحدث تأثيرا مثيلا له، سواء كان نشاطا رياضيا أو سياسيا أو اقتصاديا… لدى شعوب المعمور قاطبة،  مما يثبت على أن سحر كرة القدم، لا يعادله سحر إطلاقا، هذا العرس الكروي العالمي  الذي سخرت له الإمكانيات والملايير من الدولارات لإنجاحه،  ومن أجل تسويق  صورة حضارية  عن الدولة المستضيفة له، كدولة متحضرة ومتقدمة، بدلا من الصورة النمطية التي التصقت  بالعرب والمسلمين كشعوب متخلفة وإرهابية معادية لقيم الحداثة بحسب زعم الغربيين. 

لذلك نجحت قطر بفضل سياساتها، وما سخرته من إمكانيات، نجحت  في تغيير تلك الصورة النمطية عن العرب والمسلمين، وأظهرت جمالية ورعة  التراث العربي الإسلامي في ثوب جذاب، وأظهرت أيضا قيم وأخلاق الإنسان العربي. خاصة في حفل الافتتاح، وكذلك من الناحية التنظيمية التي رافقت المونديال من بدايته إلى نهايته، ثم أكمل جمالية المشهد العربي الإسلامي في المونديال القطري.

المنتخب الوطني المغربي بفضل إنجازاته التاريخية والبطولية التي أسهمت في تغيير النظرة عن الكرة المغربية والعربية عامة والإفريقية خاصة، أضف إلى ذلك  حجم القيم المغربية الإسلامية الأصيلة التي تم تمريرها في مختلف قنوات العالم والمنابر الإعلامية الدولية،  من سجود لله وشكر له على هذا التوفيق والنجاح، وعناية بالوالدين وبرهم  خاصة  إبراز دور الأم  ومكانتها في الثقافة العربية الإسلامية المغربية،  وكذلك تواضع اللاعبين المغاربة وبساطة مظهرهم، دون وضع مساحيق أو أوشام مثيرة، حفاظا على قيم الثقافية الإسلامية الأصيلة، ثم أيضا تشبث قطر بقيمها ومبادئها الإسلامية، حينما رفضت تحويل المونديال العالمي إلى ترويج لمرض الشذوذ الجنسي الغربي والانحلال الأخلاقي وشرب المحرمات على ملاعبها، كل ذلك أسهم في خلق أجواء احتفالية جميلة استبشرت بها مختلف شعوب الأرض المحبة للسلام والخير والتواقة للتعايش والتسامح.

لكن السؤال الذي يتوجب علينا طرحه هنا وربطه بالعنوان هو كالتالي:  هل وصل الشغف بكرة القدم إلى درجة ما يكمن أن نسميه -كرة القدم أفيون الشعوب – ؟  قياسا على عبارة الدين أفيون الشعوب كما قال بذلك أحد الفلاسفة في سياق غربي معين،  هل أصبحت كرة القدم افيونا تجعل من  الشعوب خاصة الشعوب المقهورة و المستضعفة مسلوبة الإرادة امام سحر كرة القدم؟  بحيث  باتت تلهيها عن مشاكلها الحقيقية التي تعاني منها أصلا في واقعها المأزوم،  ألهذه الدرجة قادرة هي على جعلنا ننسى  مشاكل بحجم البطالة وارتفاع الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل خطير وارتفاع نسبة الامية والجهل، والجريمة، ثم التراجع الخطير  من قبل الدولة عما تراكم في مجال حقوق الإنسان،  بالإضافة إلى مشاكل أخرى يعرفها المجتمع المغربي والدولي لا سبيل لسردها هنا.

هذا الذي ذكرته يصب في خانة  النظرة السلبية التشاؤمية  التي تقرن كرة القدم بافيون الشعوب أو مخدر الشعوب المستضعفة  وحتى القوية منها،  لأنها تسلب عقول الناس، وتتركهم مشدوهين دون التفكير في المشاكل الحقيقية والعويصة التي تلازم الناس  بصفة عامة  والفقراء منهم بصفة خاصة.

لكن ماذا عن النظرة  الإيجابية المتفائلة  التي تقرن الشغف بكرة القدم باعتبارها تدخل  البهجة والفرح والسرور على الشعوب،  محركة للجماهير من أجل التغيير والتقدم والتطور وموقظة للوعي والضمير، من حيث أنها تغدي الوعي الجمعي وتوقظ فيه نار الشعور الوطني والحماسة،  وتعزز الروح الجماعية لكل مكونات الشعب، وتفجر طاقته الكامنة والقدرات المبثوثة في الأفراد والجماعات، لينهضوا  وينبعثوا  من رمادهم  كحال طائر الفينيكس الذي ينبعث  بعد موته وضموره،  ففرحة الشعب بالانتصارات الكروية تجدد الدماء،  وتضخ في شرايين الشعوب المنتصرة في اللعبة الكروية  الطاقة الإيجابية التي تعين على النهوض واليقظة، والانسلاخ من ماضي الهزيمة، ماضي الانكسارات والإحباطات، ماضي اليأس والفقر والتخلف وكل أنواع المكبلات، والانطلاق  نحو مستقبل واعد،  يعد بالكثير من الطموح والتفاول، وتجعل كل فرد في جميع الميادين نشيطا وسعيدا مقبلا على عمله بفرح وروح معنوية عالية.

من هنا نخلص ونؤكد على أن كرة القدم وسيلة لايقاظ الوعي،  وخلق الدفع المعنوي لمختلف الفاعلين في مختلف المجالات، لأجل السير قدما نحو تحقيق معدلات نمو  قوية ومرتفعة، وتحقيق التنمية المنشودة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.  لكن كيف يمكن أن  يتم ذلك ؟ كيف يمكن للانتصارات في مباريات كرة القدم المونديالية ان تصبح باعثة على النهضة؟  لقد ذكرت من ذلك الشيء الكثير فيما يخص مسألة يقظة الوعي وخلق الدفع المعنوي، لكن يمكن ايضا ان يتم ذلك عبر خلق جو تنافسي، بين اهل مختلف القطاعات، بحيث ان جل الفاعلين سواء اقتصادين أو سياسين أو اجتماعين يمكن ان يخلق ذلك بينهم جو تنافسي ايجابي وحفز على العطاء، ويعزز الروح الجماعية لديهم  كما حال باقي الفاعلين في كرة القدم، مصدقا لقوله تعالى (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) صدق الله العظيم، هذه ليست وجهة نظر حالمة طوباوية، بقدر ما هي وجهة نظر واقعية قابلة للتحقق.
______

بقلم محمد بن خالي بن عيسى


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة