بعد صدور مولوده الأدبي الأول “ما تخبئه لنا الحياة”، والذي هو عمل روائي، يفاجئ الأديب المغربي الواعد سفيان الروكي قراءه بمجموعته القصصية “حطام الذاكرة”، الصادرة عن دار القرويين للنشر بمدينة القنيطرة المغربية، متغلبا على التردد في النشر، ومصرا على اقتحام عالم الكتابة من بابه الواسع، مؤمنا بمؤهلاته السردية وقدراته الأدبية.
لا نملك كقراء سوى أن نبارك له هذه الجرأة الأدبية، وهذا الانتقال السلس من جنس الرواية إلى جنس القصة القصيرة. ونحن نحسب، بعد قراءتنا ل”حطام الذاكرة” واستمتاعنا بنصوصها القصصية، أن هذا الانتقال كان موفقا بفضل ما أبان عنه القاص من إمكانيات محترمة في وصف الأحداث والمشاهد، وسبر أفكار ووجدان الشخصيات، اعتمادا على الترميز والمجاز وكثافة اللفظ وعمق الرؤية.
كما تميزت الكتابة القصصية في “حطام الذاكرة” بالجمع بين السرد والحكي من جهة، والمونولوج الفكري المرتبط بالأحداث من جهة أخرى؛ حيث نجدها تقرن السرد الحكائي بالتأمل في قضايا وجودية كالموت والحياة والحب والانتحار والعبث والبؤس والاكتئاب وما إلى ذلك.
لقد أنصت القاص بصدق إلى دقات قلب الأحداث، وعبر عنها بحس أدبي متفرد، مما منح لعمله القصصي الجمالية والواقعية. وقد بعث برسالة في هذا الشأن، حينما حاول التوضيح في قصة “مزاح ثقيل” إلى أنه حينما يبتعد الشخص عن الواقع الحقيقي الذي يعيشه الناس، ويتوهم حيوات من نسج خياله، أو يفتقد إلى الموهبة الأدبية، فإن النتيجة هي أن كتابته لعمل أدبي وروائي تظل حلما مؤجلا أو شبه مستحيل.
لا يخفى على قارئ المجموعة القصصية “حطام الذاكرة” للقاص سفيان الروكي، انشغالها بتيمة الموت الذي شكل ذلك الخيط الناظم الذي يربط بين كل مجريات الأحداث المؤثثة للقصص التي يحتويها الكتاب بين دفتيه. وقد تمت مقاربة فعل الموت بأسلوب سردي وأدبي شيق، وانطلاقا من زوايا متعددة ومتباينة، تمتح من عمق التجربة الحياتية ومن ملابسات الواقع المعيش مقومات الرؤية ومعالم النظر.
فنحن نجد أن موضوع “الموت”، وما يخلفه من أحاسيس الخوف والكآبة واليأس والعبث وفقدان المعنى، موضوعا دسما يتخذه الأديب سفيان كمادة للاشتغال في مجموعته القصصية “حطام الذاكرة”؛ ففي التوطئة التي كتبها سفيان الروكي لمجموعته القصصية يعترف أن «”حطام الذاكرة”؟ هي في الحقيقة نسيج غير مكتمل لقصة الموت، الموت الغير معلن، الذي اخترت أن أجعل منه مادة دسمة أبتهل منها بدايات ونهايات تتلون تفاصيلها، وتختلف صورها وأمكنتها وأزمنتها وشخوصها كذلك، لتعلن عن شتات ذكريات تنتشر في كل أرجاء الكون، كالنجوم التائهة بين ثنايا الظلام المطلق».
وإذا كان الموت قد شكل موضوعا أساسيا للاشتغال في “حطام الذاكرة“، فما هي مختلف الدلالات التي يتخذها الموت في هذا العمل القصصي؟ وكيف يتمظهر الموت ويتم تصوره من خلال الأحداث والمواقف التي تؤثث المسار السردي والتأملي داخل القصص التي تحتوي عليها هذه المجموعة؟ وما هي العلاقات التي تربط مفهوم الموت بباقي المفاهيم الأخرى المتجاورة أو المتحاورة معه، كالحياة والحب والأمل واليأس والبؤس والفقر والمرض، والعبث والغرابة واللامعنى والتيه والكآبة وانسداد الأفق، والحرية والاختيار والقضاء والقدر.. وغيرها من المفاهيم التي لا يكتسب مفهوم الموت معانيه ودلالاته إلا في علاقاته بها؟
يصبح الموت في قصة “في المنتصف“، وهي القصة الأولى في المجموعة، اختيارا مادام “أنقى من الحياة في كثير من الأشياء”، فهو بمثابة الملاذ الأخير عند انسداد الأفق أو بلوغ المرئ ذروة اليأس، كما حصل مع ألبيرتو وصديقه وليد حينما قررا إضرام النار في نفسيهما، في ذلك الكوخ الريفي الهادئ.
لو كان الناس هم الذين يجعلون الحياة مرعبة، لكان هناك بعض الأمل في العيش فيها عن طريق محاولة إصلاح أحوالهم ما أمكن ذلك. لكن حينما يعتبر وليد في القصة الأولى من هذه المجموعة القصصية أن “الحياة مرعبة حتى من دون وجود البشر”، فإن النزوع إلى الموت يصبح في هذه الحالة أمرا حتميا، وتغدو الرغبة في الحياة ميؤوسا منها. وإذا كان اليأس هو ما أفضى بألبرتو ووليد إلى الانتحار، فإن اليأس ناتج عن مرارة اليتم وموت حنان ودفئ الوالدين من جهة، وقسوة العيش وبطش الحياة من جهة أخرى.
يغدو الموت في القصة الثانية “جريمة لم ترتكب” نتيجة حتمية للظلم والعدوان الصادر عن المجتمع والمؤسسات، مما يجعله كابوسا يلاحق الشخص حتى في منامه، كما يتبين مع قصة ذلك الغريب الذي لم ترحمه الشرطة، وظلت تلاحقه في حلمه ويقظته.ومثلما يرتبط الموت بالإرادة والاختيار حينا، وربما هو اختيار مفروض، فإنه يكون في أحايين كثيرة نتاجا حتميا لبنيات تحتية منغرسة في المعيش البشري، أو نتاجا لإملاءات فوقية صادرة عن القضاء والقدر.
قد يصبح الموت في القصة الرابعة “لعنة” ذلك القادم من الأشباح أو الأرواح الشريرة، كتعبير عن اللبس والغموض الذي يكتنف فعل الموت أحيانا، بحيث يصعب تعليله بشكل منطقي ومعقول، فتتم نسبته إلى علل ميتافيزيقية يتعذر على العقل البشري إدراك كنهها. ولعل ذلك هو حال تلك الأسرة التي راحت ضحية الصندوق الأسود الذي لم يستطع أحد فك لغزه، وظل سرا قابعا في متاهات تلك الكنيسة المهجورة.
في القصة الخامسة “خيانة مشروعة” يرتبط الموت المعنوي وليس المادي، موت الروح وليس موت الجسد، باختفاء الحب ورحيله دون سابق إنذار؛ فقد اختفى الحبيب من حياة الفتاة بشكل مفاجئ وغير متوقع، مما خلف لديها المرارة والحزن الذي جعل حياتها مفعمة بالآهات والعذابات والانكسارات، خصوصا وقد تزامن هذا مع موت الحب العائلي الصادر عن الوالدين؛ حيث كانت العائلة بالنسبة للفتاة مصدر بؤس، حيث أن الأب لم يعانقها أبدا، ولم يكن يسأل عنها ويمنحها الحنان الأبوي الذي كانت في حاجة إليه، بل كان يتصل بها ليطلب المال فقط. أما الأم فقد أسست أسرة جديدة، واختارت طريقا آخر، وأهملت أحوال ابنتها.
كما قد ينتج الموت عن حوادث خارجة عن إرادة الإنسان، مثلما تجسد في أحداث القصة السادسة “ارتطام على حافة الوجود“، حينما ارتطم القطار الذي كان متجها إلى طنجة وانقلب، مخلفا وراءه أشلاء من الجرحى والموتى. وقد يرتبط الموت أيضا بحالة التشاؤم التي تغلف النفس ما دام أن الراوي يعتبر أن «طبيعة الحياة تفرض هذا الكم الهائل من التشاؤم». (ص.74)، والذي يحصل كنتيجة لانسداد الأفق وانتهاء الرغبة في الإقبال على الحياة، فتسيطر على المرئ تلك الرغبة في الرحيل هربا من الحياة التي تطارده من كل جانب!
فقد كان بطل قصة “ارتطام على حافة الوجود” هاربا من الحياة، يبحث عن الرسالة الصحيحة التي تنقله من الوجود إلى العدم. لكن، للأسف، انقلاب القطار لم يأتيه سوى بالرسالة الخاطئة؛ فقد أدى إلى موت آخرين بينما هو لم يمت، بل وجد نفسه في إحدى مستشفيات طنجة يتلقى العلاج الذي لا يعني بالنسبة إليه أي شيء. وحيث أن الموت الذي كان يبحث عنه لم يتحقق في حادثة القطار، فقد قرر أن ينجزه بنفسه، حيث ألقى بها في قعر البحر المنسي، لعله يجد هناك ما لم يجده هنا!
يقترن الموت في أحداث القصة السابعة “عودة إلى نقطة الصفر” بحالة اليأس واللاجدوى وفقدان المعنى، ويرافق المرء في حلمه ويقظته. وإذا لم يتعلق هذا الموت بإعدام الجسد بالضرورة، فإنه يصبح إعداما لحلم الروح وإقبارا لتوقان الفكر والوجدان، حيث أقدم بطل هذه القصة على إعدام حلمه الروائي، ودفنه في قعر البحر المنسي، ليعود إلى نقطة البدء في حركة سيزيفية تكرس لدى الذات شعورا بالعبث واللامعنى.
وحيث أن الراوي مسكونا بهموم شخوصه وراصدا لآهاتها ومعاناتها، فإنه يصور لنا في القصة الثامنة “الرحلة الأخيرة” كيف أن “الموت والحياة سيان” حينما يتعلق الأمر بلقمة العيش، والتي أدت بهؤلاء البؤساء إلى الموت من طرف عصابات إرهابية تحترف الموت وتعدم الحياة.
فضلا عما في قصص “حطام الذاكرة” لسفيان الروكي من جمالية فنية وإمتاع أدبي، فإنها لا تخلو أيضا من تأمل فكري وبعد تساؤلي فلسفي، مقدم في قالب سردي قصصي، ينصب حول العديد من القضايا الوجودية والقيمية والوجدانية والميتافيزيقية.. وتؤثث تلك التأملات والتساؤلات أماكن عدة داخل المجموعة القصصية، ليتم تتويجها في آخر المجموعة ب “رسائل فلسفية” أنطلوجية حول أصل الكون ولعبة القدر وإشكالية الحرية والاختيار، ومسألة الصدفة والحتمية. فقد تلقى ألبرتو بطل القصة الأخيرة في المجموعة ثلاث رسائل فلسفية مجهولة لم يعرف مرسلها؛ الرسالة الأولى احتوت فقط على العبارة التالية: “في البداية لم يكن هنالك شيء، وفجأة انبعث كل شيء”. وبين أنها تعالج إشكالية أنطلوجية تتعلق بخلق العالم. أما الرسالة الثانية فقد اشتملت على العبارة التالية: “اللعبة الأكثر عبقرية، هي تلك التي لعبها مؤلف قصة الكون!”، وهي تعالج إشكالية المعنى في هذا الوجود. في حين تضمنت الرسالة الثالثة السؤال التالي: هل يمكن أن يكون للصدفة دور في قصة الانبعاث؟ وهو سؤال يطرح إشكالا يتعلق بقصة الخلق والسببية والغائية المتعلقة بالكون والحياة.
أكيد سيجد القارئ نفسه في المجموعة القصصية “حطام الذاكرة” أمام منعرجات سردية وفضاءات دلالية منسوجة بأدوات أدبية، قادرة على إمتاعه ومؤانسته من جهة، وقادرة على دعوته إلى التأمل والتساؤل من جهة أخرى. ولعل هذا ما يطمح إليه القاص ويتوخاه.
__________
بقلم: محمد الشبة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.