اليزابيث الثانية: تحيَّة في يوم وداعها

image_pdf

مجَّدت الحضارة الانسانيَّة الرمز وحفلت به في ترقيها الصاعد، من زمن الخرافة المظلم عبر الطوطم والتابو ليكون معنىً معاصراً لدولة حديثة، فالملكيَّة الرمزيَّة مثل العلم والنشيد الوطني هي رمز معنوي جليل لاجتماع الشعب ووحدته، إذا انبسطت البلاد وكان وطناً شاسعاً أهدى اليها تطور أنظمة الحكم الفيدراليَّة، النظام الاتحادي الذي يوزع السلطة والثروة  ولكنه نصحها بالنظام الرئاسي الذى يجمع السلطان لدى رئيس هو من وجه مهم رمز وحدة البلاد. فإذ ضاعت عائلة ونزور زمناً من البريطانيين جدّوا في السعي حتى عثروا عليها ونصَّبوهم ملوكاً لبريطانيا التي هي مملكة متَّحدة من ممالك كانت قويَّة باطشةً في التاريخ ولكنَّه ترقّي الإنسان نحو الحريَّة والسلام، طريق الروح وسبيلها الحتمي، لتكون رمزاً يوحدهم قبل أن تكون ملكاً يبطش بهم.

 لسبب ما التقى قدر السودانيين بالبريطانيين، كان متاحاً لحملة نابليون أن تنداح جنوباً قليلاً وتأخذ جزءاً كبيراً من السودان الشمالى وقد بلغت بالفعل الشلال السادس، أو كان يمكن لحملة فشودا أن تنزلق شمالاً فتبلغ وسط السودان ويغدو السودان جوهرةً في تاج الفرانكفونيَّة، ولكن جاءنا البريطانيون بغير تدبير كبير حركته حادثات التاريخ واحنه، لكن دفعه الحق جاء من منطق  العلاقات الدوليَّة يومئذ فالقوي ينداح ويأخذ الضعفاء دون شفقة، وهو منطق قديم قبل فتوحات المسلمين وحتى الظاهرة الاستعماريَّة في القرن الثامن عشر، صحيح أن المسلمين لم يأخذوا ذهب الهند إلى لندن ولكن أثرت المدينة بالفتوحات وثمرات أراضي السواد، رغم اجتهاد خليفة ذو حس تاريخي لا يضاهى، فقد طفق ابن الخطاب يجادلهم في أراضي السواد وهي أخصب أراضى العراق أنها ليست لهذا القرن من المسلمين ولكن لهم ولأجيالهم القادمة وأنهم ما أوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ولكن البيزنطيين هربوا وتركوها لجيوش المسلمين. لم يعجب منطق الخليفة قبائل  اليمن حديثة عهد بالإسلام طويلة العهد بمنطق الغنيمة وظلت تلاحقه حتى قتل فنالوها من الخليفة التالى. كما انه صحيح أن الظاهرة الاستعماريَّة جاءت في ذروة الفتح العلمى ولكن فتوحات الروح لما تبلغ عهد تحريم الرق والشرعة الدوليَّة لحقوق الإنسان والعهد الدولى للحقوق والحريات، لم يصب الاستعمار وغلوائه المثقفين السودانيين الأوائل الذين عاصروه وورثوه بالفصام، كان نظرهم عميقاً إلى جذر التاريخ ومتجاوزاً إلى ما بعد فظائع الاستعمار، فامتدَّ بنظرة  الشاعر الفذ محمد المهدي المجذوب لا تحجبه نيران الحرب الكونيَّة في أن يراها طارئ من خبل القديم ولا تصم سمعه أصوات هيروشيما وأن تجلي الروح الانسانيَّة لن يوقفه جنوح ديكتاتور مثل هتلر وموسوليني وسلالتهم من المستبدين الصغار فكتب تحت ضوء نار المجاذيب : أيكون الخير في الشر انطوى

والقوى خرجت من ذرة هى ملئ بالعدم

أتراها تهزم الحرب وتنجو بالسلم

وتعود الأرض حباً وسلاماً

سوف ترعاه الأمم

عندما اندلعت ثورة أكتوبر السودانيَّة المجيدة وانتصرت في بضع أسابيع كانت الملكة اليزابيث الثانية قد شرعت في زيارتها الأولى لأفريقيا بعد عقد من توليها العرش، كانت في أثيوبيا الجارة القريبة تنعم بضيافة الامبراطور وقد بلغت النذر والنصائح أن السودان في ثورة وفوضى وعليها أن تلغى الزيارة دون تردد، فكيف تدخل الملكة إلى بلد أطاح بجنرال هو قائد الجيش ولما يخرج من صدمة الانتقال، ولكن أولئك السودانين لم يكونوا مثل هؤلاء سرعان ما جمعوا أنفاسهم ورتبوا أمرهم وأكدوا أن كل شيء على ما يرام لزيارة الملكة، كانوا في زمان شاعري جمره عنده ذوق كما يقول عاطف خيري، ولا ريب أن الملكة استعادت قصصاً من فرادة السودانين واختلافهم ظل أصدقاء السودان من البريطانيين يرددونها  ووجدت من يعينها على إعادة النظر في تلك النذر والنصائح وأن السودانيين إذا قالوا صدقوا فقرَّرت الملكة أن تطرح كل ذلك جانباً وأن تأتي إلى السودان.

  استقبل الملكة واحد من عباقرة الزمان ومن علماء السودان الأفذاذ الموسوعيين الدكتور التيجاني الماحي رئيس مجلس السيادة عندما كانت السيادة كذلك رمزاً بالغ الدلالة يتولاها الكبار، وعندما ضاقت جنبات المطار وامتلأت الشوارع بالسودانيين لاستقبال المونارك الذي كان يستعمرهم قبل بضع سنيين، بدى الحس الجماعي كله وكأنه أكبر من حادثات الزمان وأوسع من القرن العشرين، وبدت الخرطوم أكثر سلاماً وأقل ثورةً، وعندما احتفى بالملكة مجلس وزراء الحكومة الانتقاليَّة على سطح باخرة نيليَّة تمخر عباب النيل، وتوزَّعت كاسات الشاي بذات التقاليد الانجليزيَّة يطوف عليهم رصفاء الفندق الكبير بجلاليبهم الواسعة وحركتهم المنضبطة، طفق أصحاب الحقائب يعرفون أنفسهم وقد ضجت الملكة بالضحك عندما قدم لها وزير الصناعة الأستاذ أحمد سليمان المحامي نفسه بفكاهته النادرة : أحمد سليمان ممثل الحزب الشيوعي لجلالتكم)، قال مرافقو الملكة لأحمد سليمان لم نر الملكة أبداً تضحك في محفل عام بهذه الطريقة.

 البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز وقد فتحوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم، تلك كانت سفن مصطفى سعيد في موسم الهجرة ولكن الباخرة النيليَّة التي حملت الملكة في ضيافة حكومة أكتوبر الانتقاليَّة كانت غير تلك فقد تبدل الزمان والمكان وأضحى السودان بلداً حراً يحكمه أحرار، لم تكن المعارضة الوطنيَّة يومئذ تلجأ إلى السلاح كما حدث لاحقاً في تسعة عشر بلداً أفريقيا بعد أن نالت استقلالها من المستعمر وصارت الحكومات الوطنيَّة المستبدة كأنها الاستعمار وأضحت المعارضة كأنها حركات تحرير، وكما حدث في السودان بعد عقد ونيف من حفل النيل البهيج دخلت الجبهة الوطنيَّة الخرطوم في يوليو ١٩٧٦، غزتها بلغة اعلام النظام المستبد يومئذٍ وخلع على الذين يسمون أنفسهم مقاتلو الحريَّة لقب مرتزقة، تبدلت النسب وظلت النسبيَّة تسود تهدهد روح اينشتاين في برزخها وقليل من المتحمسين يمكن الثقة بهم كما يقول نابليون. بل إن صاحب الموسم نفسه في رحلته الطيبة الصالحة لم يلق موقفاً صعباً كمل لقيه ساعة تقدم غالب العرب العاملين بهيئة الإذاعة البريطانيَّة باستقالاتهم احتجاجاً على العدوان الثلاثى على مصر، لكن الطيب فكر وقدر وقرَّر البقاء ينافح عتاة المحررين والإداريين بالصرح الاستعمار العتيد الذى يفاخر به البريطانيون كأعظم إنجازاتهم هيئة الاذاعة البريطانيَّة، صمم الطيب صالح ومعه ثلة ألا يغادروا موقف الحياد والمهنيَّة في محتوى الخبر والتحليل وفى صياغته، بدلاً من المغاضبة والمغادرة،  الصمود والمجادلة والمفاعلة أسلحة ووسائل لا يقدر عليها إلا أولو العزم، ورغم أن الحكومة صاحبة الإذاعة هي أحد أضلاع المثلث وفي حالة حرب ظلت تزدرد جمر المهنيَّة والموضوعيَّة ولا تقوى على اتخاذ إجراء تؤذى من حدوها بمبادئها وفلسفتها في خدمة الجمهور بالصدقيَّة دون المبالغة أو الدعاية. موقف قريب مما ظل يزاوله مفكرٌ مناضل آخر هو الدكتور إدوارد سعيد، فما أيسر اللاءات الثلاثة أو الاربعة في أيّما موقف وما أصعب المدافعة لا سيما الفكريَّة، كان سهلاً أن يقطع مع الكيان المغتصب كما أدمن المزاودة كثيرون في القضيَّة الأصعب في التاريخ المعاصر بدلاً من محاورتهم ومواجهتهم بالحقائق، وفي لحظة صعبة ظل إدوارد سعيد يجابه القيادة الفلسطينيَّة ويواجه الصهاينة، يعمل آلة فكره الناجزة في تحليل الاحتلال ولا يترك حتى موهبته الموسيقيَّة الفذّة دون معركة شعبه، لم ينكر المحرقة ولكنه عزف موسيقى فاغنر مع اوركسترا فرانكفورت وأحرج الإسرائيليين بالغاء الحفل بحجة واهية تتهافت أمام العالم الحر  هي أن هتلر كان يسمع موسيقاه.

زارت الملكة الخرطوم في أكتوبر 1964 رغم أن أول قرارات الحكومة الوطنيَّة هو رفض الانضمام إلى مجموعة دول الكومنولث التى ضمت مستعمرات بريطانيا السابقة ولم تزل، ورغم أرتال من المبعوثين ظلت تحج الى المملكة وتعود بالتخصص والشهادات والألقاب بفضل المنح الدراسيَّة، فقد حرم السودان من ثمرات أخرى كثيرة خاصةً في التعليم، وظل السودانيون يرتادون دولاً كانت أختنا في الاستعمار ويلقون في نيروبى باركليز وسنجر وباتا وموبيل أويل وشل وتخنقهم عبرة الحنين إلى تلك الأيام تلك الأيام تحلى جيد الخرطوم تلك الأسماء وقد أضحى عاطلاً.

 لا ريب أن كثيرين كابدوا ذلك الموقف الذي وصفه الصديق العزيز جعفر فضل في نعيه المؤثر للملكة الراحلة ساعة تأدية قسم الولاء لنيل جنسيَّة بلد آخر رغم أنهم لا يلزمونك بالتخلي عن جنسيَّة الوطن الأم الذي لا ينفك يشعرك بنداء عميق لا يدانيه نداء، نداء مسقط الرأس، ورغم أن كثيرين لم يغادروا بلادهم طوعاً ولكن (طردونا وعبرنا النهر للضفة الأخرى فإذا نحن على الدرب صعاليك وأبناء سبيل) كما يقول صلاح احمد إبراهيم الشاعر الفذ الذي ظللنا نهرع إليه كلما تعنت سوداني في رفض الجنسيَّة الفرنسيَّة وقد استحقها بالزواج وجلب العنت لزوجته وأطفاله، كان الشاعر يقنع بمنطق بسيط ومباشر، أن هذه الجنسيَّة التى تنالها ستنفع أول ما تنفع السودان، رغم أن صلاح نفسه ظل ممسكاً بنداء الميلاد إمساك يحى الكتاب وقد جرده نظام النميرى من جوازه السودانى ولا يتقدم لنيل الجنسيَّة الفرنسيَّة كآخر علامة في رفض الاستبداد، وكذلك ظل الطيب صالح ممسكاً بجوازه السوداني لا يشرك به كجمر الغضا، ولكن قريباً ستعود أجيال من السودانيين ممَّن نالوا تلك الوثائق بسقوط الرأس لا بالتجنس يشدها ذلك النداء كما شدّ آباءهم وأمهاتهم وهم أكثر عالميَّة وعلماً وأكثر وطنيَّة أيضاً، وستنقشع عقدة المستعمر وتنسحب من شروط تولي الوظيفة فصمة حملة الجنسيات الاجنبيَّة وستعود الأرض حباً وسلاماً سوف ترعاه الأمم.

جديدنا