“جمهورية الكلب” لإبراهيم اليوسف ورحلة اكتشاف الآخر

image_pdf

صدرت عن دار خطوط وظلال الأردنية  رواية جمهورية الكلب للكاتب الكردي إبراهيم اليوسف سنة 2020 والكتاب يقع على 364 صفحة من القطع المتوسط، ويمكن النظر للرواية هنا بكونها نقطة فاصلة بينها وبين ما كتبه الكاتب مؤخراً  كرواية شارع الحرية  وشنكالنامه، فهنا استثمار مغاير للغة وانتقال متميز من مشهد لآخر، وتقلّب متقن ما بين عالم القصة والسيرة الذاتية، وهذا الخلط ما بين الفنين من سمات الرواية الحديثة والتي خرجت عن تقاليد الرواية التقليدية، وهذا ما يعتمده المغترب الوافد للبلد الجديد، نظراً لصعوبة التأقلم فإنه ينزع للماضي ويستجر أحداثاً حصلت معه منذ سنوات طويلة، وهكذا تغدو الرواية وعاء بل أرشيفاً ذاتياً للروائي نفسه، فهو ابن تجاربه وشاهد عيان أمين لحقبة معينة، فالذي نكتبه لا يمكن نسيانه  والأشياء التي لا يتم تدوينها تبقى عرضة للنسيان مع الوقت، فلا حدود فاصلة حقيقية ما بين السيرة الذاتية والرواية، حيث أنهما تتقاطعان في العديد من التفاصيل والنقاط، فلا يمكن التخلص من التراكمات النفسية والمعنوية إلا عن طريق الكتابة وبما أن الرواية الحديثة عالم واسع ورحب ويمكن أن يستوعب بدوره الكثير من الفنون السردية فإنها قادرة بمكان على أن تكون معيناً كبيراً يحتوي في طياته على العديد من الأفكار، التصورات وأثر الأشخاص في صناعة الذات ناهيك عن الجغرافيا وتبدلها عبر الزمن، حيث القاسم المشترك بين الرواية والسيرة الذاتية هو السرد بما يحمل من إرهاصات وأحلام وتداعيات، فمهما اتسعت دائرة الجدل بين النقاد حولهما، فإنهما هنا في جمهورية الكلب كأنموذج  حي ومباشر أعطيا اللغة الأسلوبية حصانة بلاغية في أن هذه اللغة استطاعت النفاذ بعيداً إلى الذهن والمخيلة والذاكرة الفردية للقارئ المتلقي لكونه طرفاً غائباً وحاضراً في آن  بمعادلة الزمن، ولعلني أنتصر لرأي مفاده أن الرواية برمتها شكل من أشكال السيرة الذاتية، فالذات هي التي تتخيل وتكتب ما تعانيه وعانته من خلال مجموع تجارب ترصد متغيرات الحياة والإنسان ورحلة المرهف لاكتشاف الحياة من زوايا عدة، إذ الكتابة رغبة في التماثل للشفاء وابتعاد عن الضغوط والمتاعب التي يبرع الآخرون في وضعها بطريقنا، وآن أن نزيلها من خلال الكشف الفني عنها عن طريق الرواية المقترنة بالفنون السردية المتنوعة والتي تتمايز عن الرواية وتتداخل بها، والأهم في لعبة السرد تلك هو تقديم المتعة الفنية للمتلقي وتحسين نظرته للعالم والآخر، عبر محاورته والتواصل معه، مما يمكننا القول أن أي إنتاج جديد للعالم بقالب فني فإن المتلقي القارئ هو الهدف والحكم الفصل لأي محاولة فنية للخلق والإبداع والتفرد واستنطاق الكائنات والأشياء، فشخوص كل حقبة هم عينة للواقع وما الرواي إلا داعٍ للناس لفهم القضايا المؤرقة للذهن والنظر إليها من زاوية فنية بحتة حيث لا يمكن فصل الفنون عن الواقع، فالإنسان يحتاج لتجميل الواقع عبر الفن وما يخلقه الفنان  أو الكاتب هو في سبيل رؤية أفضل للحياة المتمأسسة على قاعدة الجمال والعدل والحرية.

https://www.youtube.com/watch?v=f6mcZygx62o

حيث نجد أعمال المغتربين الفنية تؤثر على الذين يعيشون ضمن البلد في أنهم يسهمون في البناء حتى وهم خارج رقعهم الجغرافية، ورواية جمهورية الكلب لا تحاول فحسب مخاطبة المجتمع الجديد وإنما أيضاً تنقل للمقيم في البلد تجربة ما كان بالإمكان فهمها واستنباط العبر والمغازي منها ما لم يتم معايشتها عن قرب، فالفارق بين الجغرافيتين هو أن إنساننا المقموع لا يتمتع برفاهية الكلاب كما في المجتمعات المتمدنة، وإن ذلك لمجرد التفكير فيه يخلق نوعاً من الاستفزاز الشعوري، فبمجرد أن يقع المرء في متاهة المقارنات والثنائيات، حتى تبدأ روحه في رحلة صراع وبحث مريرتين لا يمكن الفكاك منهما بيسر.


-الذاكرة وعاء السرد:

ص40 :“ أتذكر تلك الليلة المرعبة، كانت داكنة السواد، صاح أحد العاملين لدى الآغا، ولعله العم سينو، هناك لصوص الذاكرة خبز الرواية والوقائع، الأحداث، والحوارات مادتها، فقد ظل ابراهيم اليوسف بمعرض تذكره للماضي ومحلقاً بأفقها الرحب بلا هوادة، راسماً العديد من الصور والحكايا على هيئة شريط سينمائي يمضي على هودج السرد بلا توقف”.

-الحوار الوامض وأثره في رسم المكان :

من بعض حوارات البطل مع بيانكا ص53 :

سألتني : هل تقدم لي رؤيتك الفلسفية في الحياة؟ “

” قلت لها: لا أطيق الفلسفة المركّبة، فلسفتي في الحياة بسيطة، إنني أنفر من كل ما يقبل التأويل

تتسم الحوارات بالشاعرية والعمق  وتفصح عن رغبة ما في إشادة الجسور ما بين عالمين، بيئتين عبر

إنسانين لهما تجارب نفسية حياتية متباينة”.

-العلاقة الجنسية ورسائل الجسد:

ص128 : „ ألقت نفسها على الأريكة قربي، كان قلبها يخفق، ثم دفنت وجهها المستدير في صدري،  وهي تدغدغ رقبتي، وجهي، شعري بأصابعها، أنزلت راحة يدها الساخنة على بطني، سرتي ما تحت بنطالي تحت سروالي الداخلي، توغلت أصابعها إلى عضوي الذكري، كان في سبات غريب”

هذه الرسائل تتسم بأنها أحادية، بيانكا تستدرجه للمتعة الجسدية بينما هو يخاف من الكلاب، ويتذكر ما يسترعي هذا الخوف، هذا الفزع من الكلاب مرده إلى  الماضي الذي يحاصر بطل الرواية ويدفعه للاستسلام والهروب.

-الخوف من المكان الجديد :

ص139 : „الخوف أكبر اضطراباً..!، قلتها بيني وبين نفسي وأنا أضحك، لقد كان خوفاً عظيماً، لم يحدث أن صرت في مواجهة الموت أكثر من الليلة”
حيث اللغة مشتعلة بالذعر والقلق، يكاد الكاتب يبحر خارج الواقع الجديد ويستنجد بوقائع من الماضي يستعيدها ويدثر من خلالها عظام الروح العليلة، فالخوف هو الدوامة والمتاهة التي لا ينفك عنهما الكاتب وهو يقود الشخصيات إلى مقاصلها الشاحبة والمميتة، في إشارة إلى الألم الجسدي وما يعكسه على الروح المعلولة مذ خرجت قسراً من بلاد الحنين.

*الغرابة في النفس المتكلمة :

ص270: „ إنه ضياع أول صديقة لي في هذه الغربة، إنها أول وآخر صديقة في هذا المكان، فلا يمكن أن أجد أنثى في هذه الغربة القاسية الطاحنة، تتقبلني وأنا بكل هذا البرود الذي أعاني منه، بكل هذا المزاج السيء، بكل هذه الصلافة، بعد أن كان وجود أنثى في عالمي يمنحني عنفواناً يكفي لإحداث أعظم زلزال في فضاءات قلبي وروحي ووجداني”
 إن الغرابة تسود السرد حيث اللغة اليائسة والمتألمة والباحثة عن أنيس أو عن فكرة مريحة من بين العديد من الأفكار الحائرة وتبحث في طيات النفس عن صداقة دائمة في عالم يكتظ بالمتغيرات.

*خلاصة:

يمكن فهم هذه الرواية من زاوية تلخص علاقة الإنسان بذاته، بما يحمله من وفاء للأماكن، للشخوص، للماضي ويحاول إيصال رسائل متعددة تنتصر على اختلافها لقضية الإنسان المقموع والذي يعاني من صعوبة الاندماج والتركيز مع المحيط الجديد الذي اضطر للجوء إليه

جمهورية الكلب هي الرواية الممتعة والتي تنقل المرء بلا شك لعوالم يحتاجها ليتغير من خلال ملامستها له، والفن هنا دعوة لفهم الحياة من كونها الفضاء الرحب والحقل المثير والخصب لعديد البشر المرهفين والحاملين في ذواتهم مشاعل الحركة والأمل في التغيير نحو الأفضل.

______
ريبر هبون*

جديدنا