هناك عالم ما قبل ظهور وباء “كوفيد 19” وسيكون هناك عالم ما بعده، وكأن الحدث الذي نعيشه قد أحدث قطيعة في أساليب عيشنا وطرق حكمنا وعادات استهلاكنا وممارساتنا في العلاقات العادية.
على المستوى الدولي فقد سلط الضوء الكاشف عن احتدام الصراع بين الولايات المتحدة والصين، وتمارس الصين في هذا المجال دبلوماسية القناع (diplomatie du masque) أما على المستوى الاقتصادي فقد وجه للنموذج التنموي السائد.نقدا عميقا تناول المضون والنتائج، وبالجملة فإن الأزمة صدمت المتشائمين والمتفائلين على السواء…فقوت من هواجس الخوف ودفعت إلى الركون للعزلة والانطواء والخشية من الآخر، وفي نفس الوقت غذت التطلعات إلى الأفضل وشجعت الحلول المبتكرة.
الى أين إذن يسير العالم في ضوء عتمة هذه الأزمة؟ وكيف نتحاشى أن يتحول عالمنا إلى عالم للوحوش الضارية؟
مع بداية الألفية الثالثة وقبل حادثة 11 من شتنبر (2001) المروعة، فقد كانت الولايات المتحدة تركز جهودها نحو المنافسة بين القوى العظمى. كانت روسيا قد بدأت تتعافى من آثار انهيار الاتحاد السوفياتي، وتقلد سدة الحكم فيها “فلادمير بوتين “، أما الصين فقد حققت نموا ضخما وتطورا متسارعا في جميع القطاعات، لدرجة أن الإدارة الأمريكية في عهد “كلينتون” سعت إلى أن تجعل منها شريكا مسؤولا.
لقد انصرم عقدان على الشروع في صراع المنافسة الكبرى بين القوى العظمى في الحلبة العالمية.
كان التنافس هو الطابع الإستراتيجي الأول الذي ميز الصراع الذي نشب بين القوى العظمى في بداية الألفية الثالثة ، ثم أصبح الصراع أكثر شراسة نتيجة تدهور العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وأيضا روسيا.
وخلال العقدين المنصرمين، عرفت علاقة الصين بالعالم تغييرا جذريا، وفقا للقواعد التقليدية لقياس القوى العظمى لقد انتقلت الصين إلى طور جديد بحيث أصبح إشعاعها العالمي يتجلى في قدرتها على الاستثمار والحيازة في الخارج.
ويندرج في هذا الإطار انجازها لشبكة البنية التحتية للنقل عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا (طريق الحرير الجديد)، كما أن لديها قدرة كبيرة على توقع المخاطر العسكرية خارج حدودها، وذلك من خلال بناء أسطول يجوب أعالي البحار، انطلاقا من قاعدة جيبوتي.
وطموح الصين لا يتوسل بفرض الإيديولوجية الماركسية بل بإعادة تشكيل النظام الدولي تمهيدا للهيمنة عليه، لذلك فهي تعمل في المؤسسات الدولية على فرض معاييرها.
في سنة 2001 كان ينظر إلى الصين بأنها تريد فقط الهيمنة على آسيا. أما في سنة 2021 فكان ينظر إليها بأنها في أفق 2049، السنة التي ستخلد فيها الذكرى المئوية للثورة الصينية التي قادها ماو سيستونغ،فإنها تهدف إلى السيطرة على العالم.
إن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين ستهيمن على المسرح الدولي خلال النصف الأول من القرن الحالي.
في مواجهة هذا التحدي تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتهيئة نفسها وذلك بحشد إمكانياتها وتقوية حلفائها في اسيا. وتسعى بهذا الصدد لتوطيد تعاونها مع الهند واليابان وأستراليا ضمن مجموعة “الكويد “quad »” وقد أضيفت إليها مجموعة “لوكسL Aukus”التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا و تم إنشاؤها سنة 2021 .
وهكذا تم التخطيط لحلف من القوى البحرية في المحيط الهندي والمحيط المتجمد الشمالي
Lindopacifique) لاحتواء الصين.
لقد صرح”هنري كسنجر” وهو من دعاة الانفراج مع الصين بأن العالم أصبح على شفا حرب باردة جديدة « une nouvelle guerre froide » ورغم محدودية المقارنة بين الدولتين فلا بد من الإشارة بأنه لا وجود لكتلة أمريكية في مواجهة الصين، كما لا توجد كتلة صينية تشكلت لمواجهة الولايات المتحدة فالصين لم تعقد تحالفات دفاعية وتفضل دولا تدين لها بالولاء والتبعية الاقتصادية.
من الصعب على الولايات المتحدة أن تجر الهند إلى الدخول معها في صراعها مع الصين كما تجد صعوبة بالغة في أن تجعل من الحلف الأطلسي حلفا معاديا للصين، لأن الدائرة التي يحميها الحلف محدودة بأوروبا والمحيط الأطلسي الشمالي.
إن ميثاق الحلف الأطلسي يقوم على نقطتين أساسيتين : الدفاع عن أوروبا في حرب متوقعة، ثم خلق وسائل من شأنها أن تعطي للبلاد الأوروبية جو الاستقرار.
فالحلف لم يحقق إلا في دائرة ضيقة الوسائل العسكرية والسياسية والإقتصادية التي أملها فيه مؤسسوه، وغاية الحلف تحقيق توازن دفاع جماعي يضمن الاستقرار. ولا بد من التأكيد بأن هناك اعتماد متبادل بين الولايات المتحدة والصين خاصة في المجال الاقتصادي والمالي.
إلا أن هذا الملمح لا يشير إلا إلى جانب من الحقيقة، أما الحقيقة كاملة فتتمحور في تحدي شامل “سياسي” واقتصادي وتكنولوجي وعسكري، بمعنى أننا أمام منافسة توظف الأمن الدولي الذي مسرحه العالم كله، وتجري هذه المواجهة برا وبحرا في ميدانين مهيمن “الفضاء الرقمي” “والفضاء الخارجي” ويحتفظ البلدان بمصالح مشتركة سواء تعلق الأمر بتأمين تدفق التجارة البحرية أو تدبير الأزمة الكورية الشمالية.
إن الحرب الباردة الجديدة تم الإعلان عنها في خطاب نائب “الرئيس الأمريكي “مايك بنس Mike pence” سنة 2008، ولكن يمكن تحديد تاريخ انطلاقها بحدث صعود “كسي جيبغ Xi jiping” إلى سدة الحكم في الصين سنة 2012 حيث صرح في العديد من المناسبات بأن معركة كبرى قد بدأت تمهيدا لانتصار الاشتراكية .
ماهو موقع روسيا وأوروبا من الصراع الأمريكي الصيني؟ إن اختيارهم الاستراتيجي هو الذي سيحدد في المستقبل التحول الذي سيطرأ على ميزان القوى بين الصين والولايات المتحدة.
إن روسيا رغم إنها تشارك الصين في الرؤية العدائية للغرب ومساندة النظم المستبدة، إلا أنها لم تبرم حلفا عسكريا مع الصين ولا توجد لها نية صريحة لإنشاء حلف بين البلدين.
إن ما تخشاه الولايات المتحدة هو توطد العلاقة الاوراسية التي قد تشكل تحديا كبيرا لها défi eurasiatique
أما الاتحاد الاوروبي فيعتبر الصين منافسا، إلا أنه حريص على التعاون معها ، وفي نفس الوقت يتوجس من التمدد الاقتصادي والثقافي للصين وما تقوم به من نشاط مكثف في مجال التجسس والسطو على التكنولوجيا.
وإذا ما استطلعنا ما سيحدث خلال الثلاثين السنة المقبلة من تغييرات متوقعة على التوازنات بين القوى العظمى، فسنخلص إلى أن ميزان القوة العسكرية والاقتصادية سيكون الضامن الاساسي للاستقرار العالمي، وبالتالي فإن عوامل كثيرة سوف تتحكم في سياسية الدول وتدعوها إلى التحرز وعدم الانجرار إلى الصدام، وأول هذه العوامل الردع النووي والثاني الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصاد .
إن تجدد التوتر على الساحة الدولية بين القوى المتنافسة يعتبر مؤشرا على احتمال نشوب نزاع حاسم للدفع بعملية الحض على الظهور التدريجي لنظام عالمي يحقق المصلحة المشتركة بحيث لا يضيع صوت أمة من الأمم ولا تنسى فيه مصالح الضعفاء .
إن نظرة إلى توازن القوى على الصعيد العالمي في المجالات الاقتصادية والعسكرية والديمغرافية وتماسك المؤسسات السياسية واستعداد السكان للانخراط في دعوات التعبئة؛ كل هذه العوامل مجتمعة ترجح الصين كقوة عظمى يحسب لها الحساب في الصراع الجاري للسيطرة على العالم، والولايات المتحدة في هذه المواجهة مازالت تمتلك اوراق التفوق والريادة.
فلا مثيل للقوة الأمريكية من حيث مداها العسكري على الصعيد العالمي، والاقتصاد الامريكي يعتبر أقوى اقتصاد على الساحة العالمية، أضف إلى ذلك التأثير الهائل للتكنولوجيا الامريكية والإشعاع الثقافي الذي الذي لا مثيل له من حيث الجاذبية العالمية للثقافة، وقد وفرت كل هذه العناصر للولايات المتحدة نفوذا سياسيا على الساحة الدولية لا نظير له.
وقد أدى هذا الوضع إلى أن تشتبك في منافسة مطردة مع القوى الصاعدة التي تسعى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي على أسس يكون لها فيه صوت وصولة.
إن النزاع والصدام بين الدول القوية سيستمر تحت مظلة ” السلام النووي la paix nucleaire”. والمدهش أن ما أسفرت عنه حركة التاريخ من نزاعات مدمرة بين الدول القوية بهدف السيطرة والهيمنة، قد اهتزت من جرائه اركان العالم وتتداعت أصداؤه بين أرجائه وشعوبه، مما يدفع إلى طرح السؤال حول ما سيكشف عنه الغد المنظور.
فهل ستتغير بنية النظام العالمي، وتبرز على مسرح السياسة العالمية قوى جديدة تطالب بأن يكون لها موقع ودور في تقرير مصير العالم والمساهمة في حل أزماته؟
إنه المخلص الوحيد من أخطار الدول الكبرى التي تسعى إلى الهيمنة والطغيان، وتهدد السلام في العالم.
خاتمة في سطور..
ان الرؤية الاستراتيجية للصراع القائم في العالم ، تسلط الضوء على الهيمنة الامريكية باعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الاولىى المسيطرة على السياسة العالمية ..ومن ثم وجب تسليط الضوء على القضيا الرئيسية التي تحتاج إلى ايجابات شاملة من الناحية الاستراتيجية وذلك بالتركيز على عوامل الاضطراب العالمي..
لقد أدت الثورة التكنولوجية إلى بروز مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة ومتزايدة وبدون تحقيق توازن بين دلوله سيغرق العالم في الفوضى، وهناك شعور في العالم بالريبة والامتعاض من التفوق الامريكي.
وقد راودت لعديد من القوى الدولية الصاعدة فكرة عقد شراكة استراتيجية لتعزيز القطبية العالمية وهو مصطلح يفسر على أنه “مناهض” للهيمنة الأمريكية.
ومن نافل القول إن لا شيء يدوم إلى الأبد، إلا أنه عندما يزول لا يعوض الوضع السابق ثانية، وهذا ما سيكون عليه التفوق الامريكي الحالي فسوف يتلاشى في وقت ما لا محالة، والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو البديل الذي يحل محله؟ ولا شك بأن الزوال المفاجئ للقوة الأمريكية سيتمخض عنه حدوث فوضى شاملة.
ويرى “بريجنسكي” في (كتاب الاختيار) ” بأن زوال الهيمنة الامريكية لن يؤدي إلى ظهور سلطة أخرى تحل محلها بحيازتها لنفس تفوقها السياسي والعسكري والاقتصادي والتكنولوجي والثقافي والاجتماعي على الصعيد العالمي، لأن القوى التي سادت في الماضي أضعف من أن تتولى الدور الذي تلعبة الولايات المتحدة في العالم.
أوروبا أضعف من أن تملا الفراغ، ومن غير المؤكد أن يحقق الاتحاد الأوروبي الوحدة السياسية التي تمكنه من منافسة الولايات المتحدة في الميدان السياسي والعسكري.
ولم تعد روسيا تشكل قوة إمبريالية، والشعب الياباني يشيخ واقتصاده يتراجع وقد تلاشت التطلعات التي كانت ترشح اليابان أن تكون “القوة العظمى”.
أما الصين، لو نجحت في الحفاظ على ارتفاع معدلات نموها الاقتصادي فستصبح في أحسن الأحوال قوة إقليمية لها جاذبية عالمية محدودة، وينطبق نفس الأمر على الهند إضافة إلى ما يهدد وحدتها القومية من تمزق على المدى البعيد.
إن قيام ا ئتلاف يجمع القوى القوى السابقة احتمال بعيد التحقق؛ بحكم الصراعات التاريخية بين تلك القوى الإقليمية المتعارضة، كما أنه يفتقر إلى التماسك والطاقة اللازمة لإزاحة امريكا من موقع الصدارة والمحافظة على الاستقرار العالمي ..” (ص 14)
والخلاصة التي ينتهي اليها “بريجنسكي” بخصوص الهيمنة الأمريكية على العالم فيجملها في أمرين :الأمر الأول يكمن في نبذ الديموقراطية الأمريكية نفسها للقوة، والأمر الثاني سوء استخدام أمريكا لقوتها في العالم.
وطالما استمر المجتمع الامريكي ملتزما بمبادئه سيستمر معه دور أمريكا كعامل استقرار عالمي أما إذا ضعف ذلك الإلتزام وفقد الأمريكيون الإحساس بهدف مشترك فقد ينتهي دور أمريكا..(ص15).
إن التحدى الاستراتيجي الذي سيواجه القوى المتنافسة في الساحة الدولية يستدعي بذل جهد مضطرد من أجل إعادة تشكيل النظام العالمي ليكون أكثر أمنا وعدلا، ولن يتأتى تحقيق هذا الهدف إلا إذا تم تحويل قوة الهيمنة الامريكية المسيطرة على العالم إلى ممارسة مشتركة تقوم بصياغة بيئة دولية اكثر أمنا واستقرارا.
لأن نظم الحكم التي تسعى إلى الطغيان والهيمنة لن تصلح العالم، بل ستشكل خطرا على السلام وعلى مستقبل البشرية.
المراجع:
زبيغنو بريجنسكي الاختيار ( السيطرة على العالم ام قيادة العالم) ترجمة عمر الايوبي دار الكتاب العربي بيروت 2004
هنري كسنجر هل تحتاج امريكا إلى سياسة خارجية ( نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين دار الكتاب العربي بيروت 2002
عباس محمود العقاد القرن العشرون ماكان وما سيكون منشورات المكتبة العصرية بيروت صيدا
المجلة الفرنسية sciences humaines ( les grands enjeux dumonde contemporain)عدد رقم 65 /ديسنبر 2021/ويناير2022
Maurice Ferro ( Kissinger et Brzezinski destinées et penssées paralléles /ed albatros1978
_________
*أحمد بابانا العلوي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.