ذكرت الأستاذة المحاضرة الفرنسية سيلفي دوكاس بمعرض حديثها عن الجوائز المقدمة للأعمال الأدبية الفائزة قائلة: „الجوائز الأدبية هي أداة تسويقية، تدفع إلى الكثير من الإصدارات الروائية لكنها تظل محكومة بتوجهات وطنية واقليمية ودولية”.
وبمعزل عن هذا وذاك فيما يحاك عن قضية الجوائز وعلاقتها بالسياسة فإنني سأتناول رواية وطأة اليقين للكاتب الكوردستاني هوشنك أوسي؛ بوصفها رواية جمعت طرائق من السرد المتنوعة، تضمنت الحديث عن مجمل القضايا الشرق أوسطية الإشكالية منها على وجه خاص، إيحاءه في ذلك مرحلة الربيع العربي والهبة السورية ومآلاتها وتأثيراتها على الخارج، وقد برع الكاتب في هذه الرواية حين وظّف تقنيات السرد، الحوار وسلاسة الانتقال والغرائبية التي تلف الحدث وتعبّر عن مسار لرحلة ممتعة وشيقة في براري القضايا المتعلقة بأدب الثورات وأدب الرسائل والتي راحت العديد من القضايا السياسية فيه تتشابك، يرويها خيال الكاتب وتعطشه في التحلق بمتن عوالم الوطأة واستبداد اليقين بالمرء، وظف الكاتب ثقافته وتجربته في ميدان السياسة والتحليل والصحافة وأيضاً إلمامه بمختلف القضايا الشائكة اقليمياً محلياً وأوروبياً، يدفعه إلى ذلك ذخيرته المعرفية في حقلي السياسة والأدب ناقداً تارة لمآلات الحدث وموظفاً شخوص الرواية تبعاً لما يود قوله كرأي وموقف فكان المناخ السردي متسماً بغرابته وسلاسة نقله للأحداث بتراتبية والانتقال ضمن عالم متكامل متصل بعضه ببعض، لنلحظ بداية الرواية ص 9 : „بات الزمن شديد الانحطاط والتدهور، كغول يحاصرك ، ولا يتيح لك الفكاك من دنسه، حين يدنسك الزمن، ماذا بوسع الأمكنة فعله لك كي تتطهر من هذا الرجس الأعمى والعاصف؟
-طبيعة السرد:
السرد في هذه الرواية هو خليط معقد ومتشابك من التخاطر والاسترسال والشعرية، الأمر الذي جعل اللغة تفكيكية، عاقد العزم على الخوض المكثّف لجملة قضايا تعتصر روح المؤلف لتجمعه مع شخوصه على قواسم مشتركة تهدف لنزع القناع عن المتواريات، فبحسب نظرية الفكر السردي فإنها” تنظر للدماغ على أنه مكون من أنظمة فرعية تعمل متضافرة لإثارة الوعي، هذا الوعي لدى الكاتب نابع من رهافته كشاعر وإدراكه كسياسي وفهمه لصيرورة الأحداث كصحافي، وقد تضافرت كل هذه الخبرات الإدراكية لتوضع في خدمة رواية تكشف عن المستور وتخوض في معمعمان الأقكار الهادفة لنقل تجارب إنسانية مختلفة يجمعها التبعثر والتشتت بسبب اليقين الذي تؤمن به وتعاني من ثقل حمله، ونتيجة لسلسلة الآلام التي تخوضها كل شخصية تبعاً لعالمها الذي تعيشه والمحيط الذي يتأثر ويؤثر به تبعاً للحالة الشعورية، فإن الكاتب أخلص لشكل محدد يتعلق بنقد الحالة السلبية الكامنة في الممارسة السياسية والمتجسدة في حالة الفوضى الناجمة عن الاستبداد والفساد فقد خيّل للمتلقي أننا أمام أدب الرسائل الحاملة في دفتها الكثير من التفاصيل المركبة والمعقدة لكنها تتلاقى عند نقطة نقد السلطة بشقيها القائم كمؤسسة دولتية وأخرى معارضة لها، فنجد الكاتب في بداية روايته قد اختار السرد المباشر المستند على تشاؤمية مفرطة من الواقع السياسي، ويظهر هنا تأثره بالكاتب السوري محمد الماغوط ورائعته سأخون وطني، مناخ رواية تؤرشف حياة الحالمين والرازحين تحت وطأة ذوي السلطة والنفوذ ممن يمتلكون اليد الباطشة.
-الرصد المكاني:
نتأمل هنا ص 22 :“مازالت ذاكرته محتفظة بسحر وألق ذلك المشهد والأصوات المشاركة في تشكيله، هدير القطار المتداخل مع خوار البقرة وصياح الديك وثغاء الأغنام الآتي من الحظيرة الموجودة في زاوية حوش الدار، هو الذي يوقظه بعد فشل النسائم العليلة في إيقاظه”.
لقد اعتمد الكاتب الكشف عن المكان بتصوير حمل حزمة من الأدوات المؤلفة لطبيعة الحياة، وهو بذلك يمهد للاستدلال عن طبيعة تلك الحياة التي خبرها بما تحتويه من بساطة وقسوة عاكسة للشجن والحنين إلى البيئة التي خرج من رحمها حيث المكان لا يضمحل أثره في الذاكرة فيقوم الرصد للمكان بتفعيل بنية السرد بكونه مصدر إغراء للعودة إلى الجذور والماهية، جيّش المؤلف ذاكرته وأطلقها في متن السرد ليضاعف الإحساس بالبيئة من كونها بوابة للولوج للغة الرواية المفصحة عن حياة الإنسان.
بمعزل عن الأفكار الخاصة بالمؤلف والتي تضمنتها الرواية فإن اللغة اتسمت بجاذبيتها والتدرج بين السرد والحوار بدا سلساً يشد اهتمام القارئ، فبرزت الأفكار إلى جانب الصور واتسم النص بانفتاحه على الاحتماليات والأشكال التي لا حصر لها، وهي بذلك فضاء رحب يتنقّل فيه ذهن المتلقي لفضاءات متنوعة وطرائق كثيرة من تقليب السير، سير الشخوص ومعاناتهم واستمرارية الصراع دون توقفه، والإشارة بمصائر كل شخصية وما آلت إليه، بتلك اللغة الفلسفية وهذا التأمل في الإنسان عبر بوابة الذاكرة، ينقل لنا الكاتب عديد التجارب التي حظي بها هؤلاء الذين استبد بهم يقين المعتقد فأحالهم إلى حطام، لكن الرحلة لا تزال مستمرة ، تكشف في حيثياتها عن إثارة في عرض الحادثة ورغبة في تتبعها ، تثير الشغف لمعرفة ما ستؤول إليه تلك الأحداث، كلها تصب مصب اللهث حول الحقيقة ومحاولة قبضها وفهم المغزى من عيش الحياة من بوتقة الإيمان بعدالة القضايا التي يتحلق حولها الأفراد، هذا الاندفاع وراء السيل رغم عدم تكافؤ الصراع بين قوتين،يبين ضراوة الصراع وحدته ، ورغبة المؤلف في الإلمام أكثر بمصائر الأفراد متجاوزاً الجغرافية المحلية، ليجسد طرائق مواجهة الشخوص للتحديات النفسية التي تواجههم عبر مناخية عقد أواصر العلاقة بين الشرق أوسطي السوري والأوروبي، وهذا التبادل المعرفي في فهم مشكلات البعض والحالة السياسية في سوريا، يكشف بعض فصول تلميع النظام السوري لصورته من خلال بعض الأوروبيين المتواطئين معه، وكذلك المصالح التي تربط بين قوى الصراع في سوريا والخارج وقضية زرع الأعضاء وتهريب الأعضاء الشابة من سوريا إلى أوروبا، ينتقل لتونس فيتأمل بداية انطلاقة الربيع العربي منها فنجد أدب الرسائل يحمل في متنه لغة مكتظة بهموم ومتاعب السياسة وتصورات الأفراد وموقف السنجاري الذي يبنيه لمستقبِل الرسالة زرادشتيان، نص ينطوي على شجون ويبين للمتلقي تفاؤلاً بهذه الهبات الشعبية رغم أنها لا تعتبر إلا انتقالاً لابد منه وجرأة ماثلة لتحدي السلطات ومن خلال إقدام البوعزيزي التونسي على إضرام النار في جسده، ص39 : „إن ما فعله البوعزيزي ، هذا البائع البسيط الفقير، البائس لا يقل أهمية عما فعله كل رجالات عصر النهضة والتنوير في أوروبا ، هكذا يولد البطل الشعبي من رحم الحرمان والتهميش والفاقة والعوز”.
يجسد الكاتب هنا أفكاره، مواقفه المتعددة منها ما يتعلق بالسياسي ومنها ما يتعلق بالأدب، وقد أجاد السرد الجاذب للذهن والخيال في آن. فالسرد كاميرا منقبة لحيوات الشخوص ومتاعبهم، تتجول لتصور وتستكشف وعليه يترتب على القارئ من أن يركز بعين المدرك وروح المرهف لفهم المراد من هذا التنقل وهو الإفصاح عن مكنون الفرد بما يتضمن ذهنه من فوضى شعورية وإدراكية، فنراه عبر هذا التنقل يناقش قضايا متنوعة منها ما يخص الأدب ومنها ما يخص السياسة، مثلاً نجد الجدل الأدبي الذاتي كامناً هنا : ص51 „الشعراء والشاعرات، حين يعبّرون عن حبهم ومشاعرهم تجاه حبيبهم ، فإنهم يمارسون الجنس حتى ولو كان الأمر مجرد كلام ، كذلك الروائي حين يقوم بتوظيف الجنس في روايته فهو يمارسه عبر الكتابة نفس الأمر بالنسبة للفن التشكيلي أو السينما”.
إذ نجد أنفسنا أمام سرد يرتبط بكافة القضايا التي تشغل الكاتب، إذ لا يوجد شيء محدد أو قضية محددة وإنما هنالك سرد يأخذ بالقارئ من مكان لمكان ، من قضية لأخرى فيتحدث عما يؤرق المجتمعات من قضايا شائكة تدور في فلك العنصرية والتحرر منها، وشخوص الرواية يقدمون ما بجعبتهم ويمنحهم الكاتب مطلق الحرية الواقعية لقول ما يبرز على السطح
من أفكار وآفاق وحلول ومعضلات.
سرعة التنقل في عرض القضايا ومعاناة الشخوص أحدث شططاً ذهنياً وفي الآن ذاته لم يخرج عن ذلك المناخ اللغوي الماتع المركب على هيئة تعانق السياسي مع الاجتماعي، التاريخي مع الوجداني، ليشير إلى حجم الصلة بين هذه الأنساق، حيث يتمأسس النظام الاجتماعي ويتموضع إثر تلاقح بين سلطة الدولة والعائلة، وفي ظلها يتكون الفرد وتتكون أفكاره وتتشكل نفسيته الاجتماعية فلا تخرج بيسر عن أفكار منظومة الدولة أو الأسرة التي ينتمي إليها، كأن بالمؤلف يعقد خيوط التشابه الموحدة بين مجتمع وآخر وبين جغرافية وأخرى.
أخيراً يمكن أن أقول إن رواية وطأة اليقين لهوشنك أوسي استطاعت أن تكون فيلماً شيقاً اكتملت في متنه عناصر الرواية الحديثة بما تحمل من تقنيات معاصرة ، الأمر الذي يمكننا فيه القول أنها تستحق جائزة كتارا بمعزل عن سياسة كل جائزة وما يدور خلفها من كواليس، وبغض النظر عن اتهامات البعض الكيدية له إثر نية غير محمودة مفادها الغيرة التي جبلت عليها ذئبية الإنسان إلا أنني كناقد وقارئ أجد الرواية قد ركبت مركباً ليس باليسير قيادته وقد سرى به الكاتب لبر الأمان .
_______
ريبر هبون*
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.