أدبالتنويري

تلال الرماد؛ التحليل النفسي عبر القصة

الباحث السياسي حينما يقترب من الأدب يقدِّم لنا رؤية مختلفة للمجتمع وتحليل للنفس الإنسانيَّة، لذا يقدِّم لنا الدكتور عمار علي حسن في مجموعة تلال الرماد، وهي قصص قصيرة معظمها  يتراوح عدد كلماتها بين 40 كلمة و50 كلمة، وقليل منها يتراوح عدد كلماته بين 90 كلمة و110 كلمات، ويغوص الكاتب من خلالها فى أعماق النفس البشريَّة، من خلال شخصيات آدميَّة وغير آدميَّة احترقت بنار الحياة، وعذّبتها  أشياء وأحاسيس وتجارب كثيرة، منها الحبّ والعشق والوصال والفراق  والمرض والخوف والفزع  والطمع والجشع والخيانة  وضياع السلطة وشبح كبر السن والإهمال وعدم الاهتمام والفوضى واللامبالاة الاجتماعيَّة والظلم والاستبداد والعشوائيَّة السكنيَّة والتوق إلى الحريَّة، وأمور كثيرة أخرى، بما يجعلها تتضمَّن كل نوازع النفس التى تحرقها تجارب حياتيَّة صعبة ومؤلمة، وبما يؤكِّد أن “تلال الرماد” عنوان مناسب تماما لأقصوصات المجموعة، فكل الشخصيات في المجموعة تنفض عن نفسها رماد الهموم،  والرماد  له رمزيَّة أدبيَّة هنا تتمثَّل في أنه  نتاج الشيء المحروق وأنه في الوقت نفسه تربة خصبة للزرع والإنبات، بما يعنى، بالمفهوم الجمعي للمصريين، القدرة على مواصلة الحياة من جديد  على الرغم الهموم والآلام، وهذا يتماشى أيضا مع رمزيَّة الرماد الدينيَّة فى أحد الأديان السماويَّة،باعتباره بداية التكفير للتّائبين عن طُرُقِهم المِعْوجَّة، وذلك فيما يعرف بأربعاء الرماد.

 

ينطلق من أعماق القرية المصريَّة حيث ولد عمار علي حسن في إحدى قرى محافظة المنيا في مصر، هنا نرى عمار كأنه يوثِّق الحياة في مصر قبل التليفزيون وقبل الإنترنت لذا فالعديد من القصص انطلقت من هذا الذي يسمي الماضي ببساطته وعمقه في أن واحد عمقه هذا أتى من موروث عبر مئات السنين توارثته الأجيال وحوّلته لحكي للأحفاد نرى هذا في “مقعد”، و”مكان”، و”ساعة”، ففي الأولى، يتحدَّث البطل عن مقعد قديم احتفظت به جدّته بأسلوب يشعرك بأنه كأحد أبنائه وبأن غلاوته من غلاوة أبيه وجده، حيث يقول: “تخيّل هو أجساد كل الذين تعاقبوا في الجلوس عليه، وقرَّر أن يصلحه، كي تجد حفيدته شيئًا  تحكيه لأحفادها.”، وفى الثانية يتباكى البطل على خص قديم هدمته الريح، على الرغم من أنه مكانه ما هو أفضل منه، حيث يحكى:”كان الجديد منسابًا وأوسع وأكتر متانة، ومع هذا ظل بينه وبين نفس بانيه حجاب، وكلما جلس بين أعواده الهشة يبكي مكانًا ضائعًا تقاسم معه لحظات هانئة.”، وفي الثالثة، يتحدَّث الكاتب عن ساعة خربة يعلقها رجل فى صالون فيلته الفخيمة ولايسمح للخدم بتنظيفها ويشعر أن فيها روح أبيه، حيث يحكي الكاتب عن هذا الرجل:” يلفت نظر ضيوفه دائما إليها، ويقول: توقفت عقاربها عن الدوران لحظة خروج الروح من جسد أبي وحطت أول ذرة تراب عليها فى هذه اللحظة أيضا”.

 

أما في “ملحمة”، يحن الكاتب لحكايات الأيام في القرية التي يسمعها الأبناء من الآباء الذين يسمعونها بدورهم من الأجداد، يقول عمار  : “تتغير المباني، وتتبدل الجسور، وتشق ترع جديدة، ويزرع الفلاحون محاصيلهم ويحصدونها عشرات المرات، لكن الحكايات تبقى، بل تتناسل وتتسع، وتصير ملاحم عظيمة، سيأتي أحفادنا على ذكرها وهم يقولون: ( ترك أجداد الأجداد أرضًا وبيوتًا باعها أحفادهم، أما نحن أحفاد الأحفاد فلم تبق لنا سوى الحكايات)

 

وبعض القصص تصف حالة فرديَّة أو إنسانيَّة واحدة، وربما موقف سريع عابر حافل بالمعنى، وبعضها بوسعه أن يرسم ملامح حالة اجتماعيَّة عامة، وربما ينطوي على تلخيص حقبة زمنيَّة تمر بها أمَّة بأسرها.

 

ومثال للحالة الأولى تلك القصّة التي تقول: “سمعت صرخة في جوف الليل، فنهضت مسرعًا نحو النافذة، وفتحتها على عجل فرأيت أمامي خيطًا من نار يتلوى في فضاء الشارع الوسيع، لم يلبث أن انحنى وغاب في الحواري البعيدة. رميت بصري لأعرف منبعه، فوجدتها نافذة ذلك الفتى الذي غادرته محبوبته فجأة منذ شهور، وأعيته حيل الوصول إليها بلا جدوى”.

 

أما الحالة الثانية فتمثّلها قصة تقول: ” قرَّر الرجال الأشدّاء إزاحة حجر ضخم مغروس في منتصف الشارع يعيق السائرين. جاءوا بحبل متين، وربطوه من جوانبه، وبعضهم مدّ يده وراح يحركه يمنة ويسرة، حتى تقلقل. شدوا فجأة فانخلع وجروه بعيدًا فصنع حفرة، أطلت منها رؤوس ثعابين ضخمة، راحت تطلق فحيحًا مرعبًا، بينما كانوا هم قد سقطوا تعبًا، ولم يعد بوسعهم إعادة الحجر إلى مكانه أو منازلة الثعابين أو حتى الهروب”.

يشار إلى أن “تلال الرماد” هي المجموعة القصصيَّة التاسعة لعمار علي حسن إلى جانب اثنتي عشرة رواية وديوان شعر وقصة للأطفال وسيرة ذاتيَّة سرديَّة، وأربعة كتب في النقد الثقافي والأدبي، وكتابين في التصوّف، وعشرين كتابا في الاجتماع السياسي.

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة