الكتابة تعقد الوصل مع أغنية جديدة، أصدرتها الوينرز، تبتغي فيها الارشاد والاتّعاظ والنصح، والتحذير من الغفلة، ومن اسوداد الدنيا وخرابها، والحثّ على التنفر من مساوئها، والتنبّه إلى مفاجعها وفواجعها، ومقابحها ومفاسدها، التي يسبح فيها الإنسان. ونتغيا نحن من مقاربة هذه الأغنية، الموسومة بـ”النصيحة”، الإجابة عن إشكال رئيس، يتبدَّى في تجليات الاسوداد الواقعي في أغنية النصيحة؟ ويرتبط هذا الإشكال أساسا، بالنسق الجديد لخطاب الجمهور في الملاعب، الذي لم يعد خطابا بريئا أو عاديا، بل أمسى مشاركا في بناء صورة الواقع، وتحديد معالمه، ورسم خطوطه، وتعيين عوالمه، وإيضاح غوامضه ومغالقه، وبيان سقيمه من صحيحه، وإظهار مساوئه ومحامده، إنَّ خطاب الجمهور يحمل في كلماته ورنّاته التي يتّم ترديدها في المدرجات محامل لا متناهية من الصور، التي تتشابه تمام التشابه مع الوضعية المعيشية للمجتمع، في مختلف المجالات والقضايا.
لم تعد مسألة التعبير عن الواقع مقتصرة على الأعمال المكتوبة فقط، فكرية أو إبداعية، ولم تعد الكلمة المؤثرة في الناس والعاكسة للواقع حبيسة المثقف والمفكر، أو مرتبطة بالواعظ أو رجل الدين، إن مطالبها في التأثير قد اتخذت منحى أرحب وأوسع من ذلك، فقد تناسلت مع خطابات متعددة، منها خطاب الجمهور في الملاعب، الذي غدت فيه كل كلمة حمّالة أوجه من المعاني، وولاّدة ما لا حصر له من الدلالات، وفياضة فهوم لا متناهية، ولا نقول هذا الكلام استعراضا وتظاهرا، إنما المقصد منه الاهتمام بالخطابات الهامشية، فإنها تضم نسقا واقعيا حقيقيا، ولن أجد لدى القارئ علة تَرُدّهُ عن عدم الالتفات إلى دراستها، سوى أنها أهازيج وصرخات يرددها جمهور لا علاقة له بالفكر والثقافة وما شابه ذلك، ولا أحسبك تملك سببا آخر يمنعك من عدم الخوض فيها، وبناءً على هاته العلة التي تنتقدني فيها لأنني حكمتُ عليك حكما قيميا، أقول إن البراءة في الكلمة بمثابة خبيث يدعي الخلق والصلح والنصح، ولربما أطلت عليك أيها القارئ، واستطردت كثيرا في هذا المفتتح؛ وتركت فسحة للملل ليزورك حتى تتنفر مما سأكتبه، وأطلب ودّك الآن، بأنني سأبدأ ما تتشوق إلى معرفته، بإظهار مظاهر وتجليات الواقع المسودّ في أغنية “النصيحة”، التي غنها الفدائيون.
فللجمهور بلاغة خاصة به، لها مفاهيمها ومآسيسها وقواعدها المضبوطة، وصنفها الباحث المصري عماد عبد اللطيف ضمن الشق الرابع من أقسام البلاغة العربية، بعد البلاغة القرآنية والأدبية والإنشائية، وعليه؛ فبلاغة الجمهور أضحت تنتج خطابات مؤثرة في الساحة السياسية والفكرية والاجتماعية، وبناء عليه سنبرز واقع الاسوداد كجزء من هذا التأثير، بتحليل كلمات “أغنية النصيحة”، وإبراز مضامينها مسكوتاتها. ويعلم القارئ أن أغاني الإلتراس المغربية، تقال بالدراجة أو اللغة العامية، وفي بيان مظاهر تفاهة العالم وسواده بالاقتراب من كلمات الأغنية ومقاطعها، سيتم إيرادها بالعامية والفصحى في آنٍ، ونجيب عن إشكال الورقة في الموضوعات الآتية:
أولا: الحياة حفلة تفاهة:
أجلّتْ الأغنية صورة مكبرة عن حقيقة الحياة، ورسمت لوحة فنية عن الصرخة التي أصابت الإنسان، وبينت أيضا اللباس الذي تلَبّسه ويتلبَّسُهُ كل يوم، الإنسان لم يعد يحس بالمتعة في حياته، ولا رغبة له للإحساس بذلك، فالمشاعر التي تحيط به مسودَّةٌ، وأحوال حياتيه اليومية كدّرت عليه المعيشة، بألوان أمست ثابتة لا متغيرة، ألوان من هموم أثقل من الجبال، فكلما حلَّ التماسي استشعر نفسه الخطر؛ لأن همّ الحزن سيصاحبه في مسامرته دون انقطاع، وإذا أدركه التصابح يظل يحوقل من شدة بأس ما سيقبل عليه في يومه من السأم والغم والفجاعة والشر، الذي يملأ العالم ويسكنه، فمشرب القلوب يتعلق تمام التعلق بمشرب سوداويّ، ينعدم فيه الخير وتنمحي فيه الرحمة، وتختفي فيه القيم الأخلاقية، فالخيرون في هذه الحياة هم الذين لا مسعى لهم ولا مبتغى، ينتظرون معادهم ومآلهم فقط، هم الذين قال عنهم الله تعالى: ” فَـَٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ ٱلۡأٓخِرَةِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٤٨”. وأما الحقراء والحمقى والمغفلون فلا شأن لهم بالأخلاق في هذه الحياة، مسكنهم الدناءة ومفزعهم المفسدة. هم الذين قال عنهم الله تعالى: ” أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشتَرَوُاْ ٱلحَيَوٰةَ ٱلدُّنيَا بِٱلأخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنهُمُ ٱلعَذَابُ وَلَا هُم يُنصَرُونَ ٨٦”. وعليه، فالأغنية تنقل السَّواد القلبي الذي يغطي قلوب الناس ويسيطر عليها، ومظهر هذا في مقاطع الأغنية كالآتي:
“كي تضوي لقمرة لبال ايطير ايبقا قلبي اخمم، ما بقاش الخير، لقلوب كحلة فهاذ الدنيا”
وبتحوير المقطع إلى الفصحى نقول: “إذا أضاء الليل وحَلّ الظلام، ظل البال مشوشا، والقلب حائرا، لقد انعدم الخير، والقلوب سوداء في هذه الدنيا”، هذا المقطع دون تفصيل آخر وبسط مفصل يُنَفّرُ القارئ من القراءة، نبدي فيه أنه مؤكد لما ذكرناه آنفا، ويرتبط هذا المقطع بدلالات أخرى أخذتها من مقاطع الأغنية، من بينها أن الحياة لا تساوي شيئا، فهي مجرد وهم زائل ومتناهٍ، مخلص الحياة الانتهاء ومَحصلُها ينبغي أن يتماشى مع حاجة الآخرة ومطلبها، بالعمل على تكنيز المحاسن، ونشر المحبة واستطلاع النظرة للفوز بالمَنْشَدِ الرباني، الطمع في رضى الله وجنته، وما يبين هذه المسألة المقطع الآتي:
“زور وتعرف مساويا والوا هاذ الحياة،آخرها كفن وأشنو غادي دي معاك لقبر”
تحويرا المقطع إلى الفصحى نقول: “زُرْ وستعرف أن الحياة لا تساوي شيئا، فآخرها سنكون أمام مصير زادنا يوم الحساب”، وندرك بهذا التصوير الذي تنقله الأغنية أن الحياة آلت إلى الخراب والفساد، فما هي إلا رمشة عين، ومجرد مزحة مرحة، فما هي إلا لهو ولعب وزينة، سرعان ما تنتهي وتتلاشى، كما صرح بذلك الله تعالى، لقوله في سورة محمد، “إِنَّمَا ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَا لَعِب وَلَهو وَإِن تُؤمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤتِكُم أُجُورَكُم وَلَا يَسـَلبكُم أَموَٰلَكُم ٣٦”، وقوله في سورة الحديد: “ٱعلَمُواْ أَنَّمَا ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَا لَعِب وَلَهو وَزِينَة”، وقوله في سورة الأنعام، “وَمَا ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَا إِلَّا لَعِب وَلَهو”.
ندرك يقينا أن الدنيا مُزحة سيئة، لا تبعث على شيء من المرح والفرح، مجرد دار خربة، أجسادنا فيها مليئة بالجروح والقروح خوفا من كارثة يواجهها العالم، الذي ينكر القدرة الإلهية ويبددها، ولا يعلن على حقيقة هذه القدرة إلا حينما يتعرض إلى الأنقاض، أو حينما يكون مقبلا على فاجعة إنسانية دامية، وهذا منزع أشار إليه دانتي في الكوميديا الإلهية، مشيرا إلى أن الإنسان لا يعلن القدرة الإلهية إلا حينما يقف على أعتاب كارثة أليمة.
وأشارت الأغنية أيضا إلى فكرة تتضارب وتتناسل مع أفكار أدباء ومفكرين وفلاسفة، وتظهر جليا في العجز عن تغيير العقلية البشرية، وتغيير العالم أو إصلاحه، أمست من الأمور المستحيلة في هذه الإنسانية الجديدة، ومظهر هذا في الأغنية المقطع الآتي:
“كيفاش ديرحتى تبدل العقلية”
وصياغتها باللغة العربية، نقول: “ماذا ستفعل لتغير العقلية”، أمر صعب شديد التحقق في هذه الفترة، يعجز الراغبون في تغيير عقلية الآخرين عن تغييرها، فيكتفون فقط بتغيير أنفسهم، ونربط هذا الفهم بما قاله ميلان كونديرا في رواية “البطء”، بقوله: “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد”، ص75.
التعامل مع الحياة هو عدم التعامل معها، وعدم حملها على محمل الجد، أمر يؤكد وعي الشخص ونضجه، فلم نعد قادرين على تحمل أعباء الحياة ومآسيها، ولم نعد نرغب في حمل هموم الناس وحملهم على التغيير، النصح في مقطع الوينرز بادٍ في عدم حمل الحياة على محمل الجد، وعدم التكلف في تغيير عقلية أناسها.
ثانيا: الأم سلاح ضد الفاجعة:
محفلُ هذه النقطة، الذي وسمناه باسم الأم سلاح ضد الفاجعة، أمر أشارت إليه الوينرز في مقطع أغنية النصيحة، بجعلهم الأم سلاحا يقيهم من شر الدنيا ومساوئها، فطلبوا من الله رضاها وعدم سخطها، إن الأم في الحياة سلاح ضد كل ما يفجع ويسيء، وضد كل يحزن ويبكي، إنها تهتم بأبنائها في حضرتهم بالحنان والاحتضان والحب، وفي غيابهم بالدعاء والحزن، الأم إله بالمعنى القبطي للكلمة، إله يرمز إلى الحب والأمومة والشوق والحنان، ولن نفسر هنا قيمة شهر هاتور عند المصريين القدماء، الذين جعلوا حتحور Hathor آلهة ترمز للحب وللأمومة، وهذا التقديس، نلامس إشاراته في المقطع الآتي:
“طالبين سلاك ويا لعالي رضى لميمة، هي لي تكالي بدعويها لي دايما”
تحويرها بالعربية نقول: “نطلب النجاة، ويا الله نسألك مرضاة الأم، هي من تقينا بدعواتها الدائمة”، الأم بهذا الأساس شيء مقدس ينبغي الاهتمام به، والسعي إلى طلب رضاها، للفوز بدعائها الذي يصدّ عنا أفظع سموم هذه الحياة، وهذا التصريح، نؤكده بما قاله أبو العلاء المعري عن الأم:
لأَسِيرُ في دَرْبِ الْهِدَايةِ حَسْبَمَا رَسَمَتْهُ أُمي رَغْمَ كُلّ غُبَارِ
فالأم في ليلِ المكَارِهِ شُعْلَةٌ والأم يَنْبُوعٌ لِكُلّ فَخَارِ
والأم في اللّيل البَهيِمِ مَنَارةٌ تَحْنُو عَلَى الولَدِ الغَرِيبِ السّارِي
الأم ترسم طريق الهداية في هذه الحياة المليئة بالغبار والدناءة، هي شعلتنا المضيئة في مكارهنا الليلية، هي منبع المحبة والطمأنينة والخير والبهجة، إنها المنارة التي تظل مشتعلة دون انطفاء، لكي تمنحك مفاتح لفتح مغالق حياتك، وتعلمك الطرق التي ستنير دربك، وتزين لك الدنيا رغم قبحها اللامتناهي. والنصح في هذا المقطع، ظاهر في الاهتمام بالأم والعطف عليها، والسعي إلى نيل رضاها من الله تعالى.
ثالثا: الحذر من الغفلة والاقتراب من الله:
أعلى درجات النصح والإرشاد في مقاطع أغنية النصيحة، هي أن الوينرز حذرت الإنسان من سوء الغفلة وعاقبتها، ومن مساءة الذنوب ونتائجها، مع توصيتها بفعل الخير والزيادة في الإحسان، كما نبّهت أيضا للحذر من موت الغفلة، وذهاب الصحة، فينبغي أن نضع بين أعيننا الموت ويجب ألا نظن ظن السوء بأننا معمرون وباقون في هذه الحياة، فحتى يستطيع الإنسان أن يشعر ببعض السعادة والمحبة والطمأنينة فلا بد منه أن يقترب من نوافذ الله تعالى، ففيها يجد الراغب في الراحة مَرغبه في السكينة، ويحس فيها طالب الرحمة بتحقق مطلبه، وفيها تطمئن قلوب المسودّة قلوبهم ببعدهم عن الله، وفيها تؤوب الوضاءة للمغلفة قلوبهم بالذنوب والمعاصي.
نجد هذه المسائل مبينة ومتعينة وواضحة جلية في مقاطع الأغنية كالآتي:
“يا نسينا طريق الخير وتبعنا طريق ذنوب، كلشي همو غير المصلحة الشخصية”
“لبارح بصحتو واليوم مرمي فسبيطار”
“دير شي حسنة تلقا بيهم القدر”
“الأفعال زينة يا وخليك فبالك ديما كاينة الموت”
“طامعين فجنة الصلاة هي ساروت”
صياغتها بالفصحى، نقول: “نسينا طريق الخير، واتبعنا طريق الذنوب، كل الناس همهم المصالح الشخصية، اليوم بصحته وغدا ملقي في المستشفى، قم بحسنة تلاقي بها القدر، الأفعال الخيرة، ضع في خاطرك أن الموت دائما موجودة، نحن نطمع في الجنة، والصلاة مفتاح”.
الناس مقادون نحو العقاب، اتبعوا طريق الشهوات، وأغفلوا حياة الطاعة، والعبادة، الإنسان اتبع مصالحه الشخصية، ولتحقيقها يفعل الأباطيل، ويصنع الأعاجيب، إن الوينرز في مقاطع الأغنية، تحثنا على عدم التفريط في العبادة باعتبارها مفتاحا لدخول الجنة، والفوز بالفردوس الأعلى، وتحذرنا من طول الغفلة، وتنبهنا بأن الصحة لا تدوم والمصالح الشخصية زائلة، إنما الدائم المستمر معنا هي الأعمال الصالحة والخيرة، هي المفتاح لملاقاة الله تعالى، والفوز برضاه، كما جاء في المقطع التنبيه على الاستفاقة وتعليق مسألة الموت في أفئدتنا، هو أمر صريح صرح به الله تعالى في قوله: “كُلُّ نَفس ذَائِقَةُ ٱلمَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُم يَومَ ٱلقِيَٰمَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدخِلَ ٱلجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَا إِلَّا مَتَٰعُ ٱلغُرُورِ”(آل عمران).
الموت لا مفر منه ولا مهرب، وينبغي أن نستعد له بالتقرب من الله تعالى، والتأمل في نوافذه اللامتناهية، ونستحضر هاهنا، عبارة كونديرية في البطء، يقول فيها: “من يتأمل نوافذ الإله لا يسأم، بل يكون دوما سعيدا”.
تأملنا لنوافذ الإله معناه التقرب من الله تعالى، والشعور بالسعادة وعدم السأم من هذه الحياة، وخير ما نختم به هذه المقالة، إيراد نص يوضح أن الإنسان قد ابتعد عن الله، ولم يعد قادرا على نشر الرحمة. نص من رواية الخوف من الموت، “لإريكا يونغ”، بقولها: “لقد خاب أمل الله فينا، وفشلنا في الاختبارات كلها، إننا لسنا رحماء بالقدر الكافي لننال الخلاص، إن الرحمة هي أرقى حكمة، كما يقول التلمود”.