صدر عن دار الشروق رواية “الزوجة المكسيكية” للدكتور إيمان يحيى، وهو كاتب وروائي، يعمل أستاذا جامعيا في كلية الطب بالإسماعيلية، صدرت له أولى رواياته (الكتابة بالمشرط) في نهاية العام 2013، وكانت رواية صادمة في موضوعها وتناولها.
الروائي إيمان يحيى في هذه الرواية ألقى الضوء على أدب يوسف إدريس، واستعاد الوقائع الحقيقية لروايته (البيضا) كاشفا عن بطلتها الحقيقية وأحداثها التي صاحبت هذه البطلة، والتي كشف عنها لأول مرة عبر سياق الرواية وتخيلها وتتبع شخوصها في الواقع، لقد تزوج يوسف إدريس في بدايات حياته بعد تخرجه من كلية الطب من فتاة مكسيكية هي روث دييجو ريفييرا ووالدها كان فنانا دوليا اشتهر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وتزوجت به لفترة قصيرة حتى عادت للمكسيك لتصبح معمارية مشهورة وشخصية عامة مكسيكية.
نجح إيمان يحيى عبر سرد قصة هذه الزيجة من اكتشاف رواية “البيضا” ليوسف إدريس، وفي سياق هذه الاكتشاف نراه يقر في الرواية بأهمية استعادة وقراءة الأعمال الأدبية مرات ومرات فيذكر في نص الرواية “لم يكن عبثا قط أن تطرح رواية “قنديل أم هاشم” من خلال ضريح السيدة زينب قناديله، معضلة مقاومة القديم للحداثة في مجتمعنا، الأسطورة تنبت حين يحتاجها الناس، والحاجة أم الاختراع، المنطق والتاريخ.
هنا نرى الروائي يذكر في نص روايته “تختفي في القمة بمرور الوقت، ويبقى الخيال المتجدد دائما ليضفي على الأسطورة أبعادًا إنسانية كاملة” فهل كان إيمان يحيى يكتشف بعدًا آخر في هذه الرواية التي حيرت النقاد كشف إيمان يحيى سرها، لكنه غلف هذا السر في قالب روائي حيث طالبة أمريكية من أصل مكسيكي تذهب لأستاذ في الأدب بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وهذه الطالبة جدتها مصرية تركت مصر، لكنها زرعتها في حفيدتها بالحكايات، تقول بطلة الرواية: “إنها جدتي التي ارتبطت بها، جاءت لتعيش معنا بعد أن مات جدي، جدتي … شهرزاد عصرية موهوبة في الحكي حنينها المتأخر لمصر من جهة، وعجزها عن مواجهة أهلها بعدما فعلته من ناحية أخرى، أفضيا إلى طريق وحيد في شيخوختها طريق الحكايات المفروش بحنين الذكريات، لقد ظلت تحكي، وتحكي لي عن صباها والقاهرة”.
الراوي استعاد رواية البيضا عبر رواية نسجها بأبطالها كنقاد وباحثين حول رواية البيضا ولكن في عصرنا، واتخذ الراوي من نفسه دور الناقد الأدبي فيذكر في الرواية “من المستحيل أن ننظر إلى العمل الأدبي دون سياقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حتى الروايات الرومانسية، لا تتمرد على قيود الحياة، قد يتراءى لنا مؤلفيها أقاموا حواجز عازلة تحافظ على أجزائها المعقمة، لكن إذا تأملناها بعمق، وجدنا كل السياقات التي ذكرتها تتسرب إليها عبر مسامات العمل الفني، وتظهر بدرجة أو بأخرى بين سطورها”.
يحدد الراوي العام 1954 وأحداثه سياقا تاريخيا لقراءة أحداث وأبطال رواية البيضا، هنا يدرك الراوي متعة اكتشاف حقائق لا يعرفها الآخرون فيقر بذلك ضمن سياق الرواية فيقول: “الاكتشاف متعة لا تضاهيها أي لذة في الحياة، والدهشة، رفيعة اكتشافاتنا منذ كنا أطفالا، أي قصة، هي اكتشاف جديد لي لحظة كتابتها في كل مرة أمسك القلم، تتجدد المتعة والاندهاش، لن يصيبني الملل من التنقيب عن المثير الجديد داخلي ودولي، العاطفة والجنس، والسياسة والدين، والأدب، بل الحياة كلها، ما هي إلا مجموعة اكتشافات متصلة في عمري”.
هنا في نص الرواية يذكر إيمان يحيى كراوي أهمية رواية “البيضا” في الأدب العربي حيث يذكر أنه “صاحبت صدور الرواية ضجة لم تهدأ حتى الآن، وتبعتها موجة من الدراسات الأدبية والتاريخية عن تلك الرواية الغريبة من نوعها في الأدب العربي وقت صدورها، لم يكن سوى البطل الإيجابي هو عنوان الرواية الواقعية العربية، ثم جاء (يوسف إدريس) ليصدم الجميع بنموذج بطل متردد متمزق بين ذاته الأنانية الضيقة، وبين قضية رحبة تسع الوطن والرفاق”.
رواية البيضا تميزت باستشراق المستقبل البعيد، حيث أن الرواية كانت ناقدة فاستشرقت بنقدها انهيار الدولة الاشتراكية، وما أصاب الأيديولوجية الشيوعية من تصدع، لقد سبق يوسف إدريس “البريسترويكا” و”الجلاسنوست” بأكثر من ثلاثين عاما.
لذا نجد إيمان يحيى يغلف روايته وأحداثها برواية تسرد السيرة الذاتية ليوسف إدريس فوصفه على النحو التالي: “لم أكن طالبا جامعيا خاملا، عرفتني الجامعة سياسيا وخطيبا وناشطا، أخذتني على حين غرة نداهة القص والأدب، لكن تلك السنوات الثلاث، ما حملته معها من أحداث ومشاعر تجاوزت بكثير ما شهدته سنون العمر السابقة والتالية، ثلاث سنوات بدأت بحريق القاهرة، وانتهت بحريق آخر كاد يأتي على ولا يبقى مني سوى الرماد”.
الرواية تتبعت السيرة الذاتية ليوسف إدريس خطوة خطوة كأن الراوي صحفي استقصائي غاص بعمق في نفسيته وطريقته في الحياة، ونراه هنا يعبر عن حتى آرائه السياسية فيذكر “استسلمت لفكرة مفادها أن الاستبداد المؤقت قد يفضى إلى العدل والتحرر، الهزيمة التي نلناها- كانت قاسية، وكان أقسى منها خداع النفس، تنازلنا عن حريتنا كأفراد وتيارات وجعلناها قربانا لتحقيق الاستقلال والعدل الاجتماعي وحرية الأوطان، وفوجئنا بعد سنوات…”.
أدرك مؤلف الرواية السياق الذي تدور فيه أحداث الرواية، وكان واضحا في تنقله عبر أزمان مختلفة، فقد استطاع بمشرط الجراح فصل أوصاف الأماكن والملابس وحتى العادات ليجعل كل منها في زمنه، ومن هنا فهذه الرواية صعبة من حيث التركيب الفني، وهو ما بات واضحا في كل أحداثها، وأقر المؤلف بذلك، وكأنه ينبهنا إلى لعبته التي يشد بها القارئ من أول صفحة فيقول داخل الرواية: “لا يمكن تناول أي عمل فني دون الرجوع إلى الزمن الذي كتب فيه، وأيضا إلى العصر الذي يعبر عنه، الزمن وحدة غير قابلة للانقسام جغرافيا”.
في هذا السياق نراه يتحدث عن القاهرة على لسان بطلة الرواية روث دييجو ريفييرا على النحو التالي: “القاهرة يتجاور فيها الحديث والقديم، والأقدم، طبقات الجيولوجيا تتراص فوق بعضها أفقيا، أما طبقات القاهرة فتتجاوز رأسيا بجانب بعضها بعضًا”.
المؤلف ضفر الأحداث المعاصرة مع استعادة من ماضي ليس ببعيد مع ميثولوجيا المجتمع المصري وأساطيره في سلاسة نعجز عن وصفها سوى أنها ضفائر فتاة مصرية امتلكت شعرا ناعما بلون بين البني والأسود، تجعلك تستعيد لوحات محمود سعيد لجمال المصريات الطبيعي في لوحاته والتي لم يفت الراوي أن يضعها ضمن أحداث روايته، وكأنك لا تقرأ رواية لكن تقرأ مصر المثقفة، فيعيد إيمان يحيى استعادة مصر الفنانة والمثقفة للأجيال الجديدة عبر عمل روائي بديع، المؤلف استخدم عبر روايته عبارات تحمل حكم أو فلسفة في الحياة، وكأنه فيلسوف، فهل تأثر في روايته بنجيب محفوظ الذي استدعاه أيضا في الرواية، فنجيب محفوظ الفيلسوف المشهور كروائي، هو في حقيقة الأمر يصيغ فلسفته في الحياة في قالب روائي.