كونيَّة الإسلام… رؤية للوجود والمعرفة والآخر
«كونيَّة الإسلام… رؤية للوجود والمعرفة والآخر» عنوان أحدث كتاب صدر للكاتب والباحث المصري صلاح سالم، وهو الثاني في سلسلة يصدرها عن الإسلام بعد كتاب «محمد نبي الإنسانيَّة» الصادر بداية هذا العام، وهما معاً من إصدارات «مكتبة الشروق الدوليَّة» في القاهرة. الكتاب يقع في 600 صفحة من القطع الكبير وينقسم إلى ثلاثة أبواب رئيسيَّة يعالج كل منها أحد الأبعاد الثلاثة الرئيسيَّة التي تلهم الإسلام «وعيه الكوني» وتجعل منه ديناً إنسانياً شاملاً.
ففي الباب الأول «عقلانيَّة الإسلام… توازن وجودي»، يكشف المؤلف عبر تحليل فلسفي عميق عن حدود التناهي بين الإسلام وبين المبادئ الكليَّة للعقل البشري وذلك على أربعة مستويات أساسيَّة: أولها التصور التوحيدي التام للالوهيَّة وصولاً إلى التنزيه المطلق. وثانيها التصور الوجودي الشفاف للنبوة تكريساً للطبيعة الإنسانيَّة الكاملة. وثالثها الحضور التعادلي الرائق للإنسان وصولاً إلى فعاليَّة الذات الفرديَّة في إطار عهد الاستخلاف الإلهي حيث التعادل بين الحريَّة والمسؤوليَّة. ورابعها الصياغة التكامليَّة للأخلاق ترسيخاً للتوازن بين الحق والواجب، وبين الشاهد والغيب، وبين الروح والجسد. وإذ تجمع هذه المستويات بين توحيد الألوهيَّة، وأنسنة النبوة، وتعادليَّة الإنسان، وتوازن الأخلاق، فإنها تجعل من الإسلام نقطة ذروة تاريخيَّة في مسار الجدل التاريخي الطويل والعميق بين العقل والإيمان.
وفي الباب الثاني «عالميَّة الإسلام… جهاد حضاري» يطرح المؤلف للنقاش معنى ومبنى وإشكاليات ظاهرة الجهاد في الإسلام كوجه آخر لعالميته وسعيه، كدين إنساني، إلى تبشير الإنسانيَّة كلها باعتبارها شريكاً متضامناً في عهد الاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض. وهكذا يصير الجهاد مشروعاً حضارياً شاملاً يبدأ بجهاد النفس لردها عن ضعفها وشهواتها بحثاً عن طهارتها وسلامتها وخلاصها من النفاق والازدواجيَّة ليتسنى لها أفضل ممارسة لعهد الاستخلاف الذي يبقى رسالة مقصودة لذاتها، وعمل واجب على كل مسلم لله. ويصير لحياة المجاهد قيمة في ذاتها، فهي ليست مجرد مدخل اإلى الموت عبر الجهاد «العسكري» الذي ينغلق عليه المتطرفون والمتزمتون، بل ركيزة لإعادة صياغة عالم الشهادة الدنيوي/الواقعي/ الإنساني على النحو الذي يُرضي الله، ما ينفي عن الظاهرة الصورة النمطيَّة التي التبست بالعدوانيَّة ووسمت بالتطرف والإرهاب، وهي صورة يتورط تيار رجعي في الوعي الإسلامي المعاصر في توفير حيثياتها، وينهض تيار في الوعي الغربي بصياغة أركانها مدفوعاً بنزعة التمركز الغربي حول الذات والتي تثير إشكاليات ثلاثة إزاء رؤيته للظاهرة ودورها في التاريخ الإسلامي وهي: أولاً قياس الإسلام إلى المسيحيَّة، والرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى النبي الكريم عيسى (عليه السلام). وثانياً الإسقاط النفسي على الإسلام. وثالثاً ذبول الحس التاريخي.
وأما الباب الثالث «تسامح الإسلام تعايش إنساني»، فيعرض لرحلة العقيدة الإلهيَّة في التاريخ الإنساني باتجاه توحيد الألوهيَّة وإنسانيَّة الدين. ويبدأ المؤلف بذلك الجدل الذي مارسته اليهوديَّة مع البيئة الوثنيَّة التي أحاطت بها، حيث نجحت في بلوغ التوحيد الذي أخذت تتوجه صوبه منذ عصر أشعياء الثاني 550 ق.م، ولكنها فشلت في الغاية الثانية ولم تبلغ مرتبة دين الإنسانيَّة، إذ بقيت ديانة عنصريَّة مغلقة عاجزة عن تبشير العالمين. وينتقل بعد ذلك إلى جدل المسيحيَّة مع اليهوديَّة التي ولدت في أحضانها، حيث تمكنت المسيحيَّة من فض مغاليق العنصريَّة اليهوديَّة، وفتح طريق الخلاص أمام البشر جميعاً استيعاباً لهم بفضيلة الإيمان لا صدفة الميلاد، ولكن القديس بولس الذي لعب الدور الأكبر في صياغة الوعي الإنساني للمسيحيَّة في مواجهة المسيحيين المتهودين، وقع في أسر فكرة أخرى صبغت الوعي المسيحي الجديد وهي «إلوهيَّة يسوع»، والتي بدت في ذهن بولس، كأحد متطلبات هذا الاستيعاب، الأمر الذي أوقع المسيحيَّة في أسر التثليث والتركيب، وجعل نزعتها الإنسانيَّة خصماً من نزعتها التوحيديَّة.
ثم يختتم المؤلف بجدل الإسلام كشريعة ثالثة في الدين التوحيدي مع الشريعتين السابقتين، كاشفاً عن إدراك محمد الذي كان من الشفافيَّة ليتبين حقيقة أوليَّة وهي أن المعركة واحدة ضد الوثنيَّة والعنصريَّة معاً، فإذا ما نجح في تبليغ عقيدة التوحيد، وأدرك الناس جميعاً أن إلههم واحد أحد مطلق التنزيه، فسوف يدركون بالتبعيَّة مساواتهم أمامه، وأخُوّتهم فيه – جل شأنه – راعياً لهم، على تلك الأرض، إذ استخلفهم على ذلك الكون. ومن ثم لم تكن معركة الإسلام في اتجاهين على نحو يقسم جهد المؤمنين به، أو يتصارع ضمائرهم بين توحيد وإنسانيَّة، يختارون بينهما، ولكنها في اتجاه واحد هو عقيدة التوحيد، التي تستوجب الإنسانيَّة كنتيجة منطقيَّة تترتب عليها.
وهنا يكشف المؤلف عن منطق وحدود التوحد الإسلامي بالشريعتين السابقتين في إطار الدين التوحيدي، وعن آليات الاستيعاب والتجاوز التي استخدمها الإسلام/القرآن، لإثبات المشترك بين الشرائع الثلاث، ونفى ما اعتبره زوائد تنال من نقاء التوحيد، وتضغط على العقل الإنساني على نحو إما يخضعه للأساطير، أو يدفعه للتمرد على الإيمان وهي الإشكاليَّة الصعبة التي نجح الإسلام في حلها بتكريس توازن دقيق بين العقل والإيمان جعل منه بحق الشريعة الخاتمة للدين التوحيدي.
ويكشف المؤلف عن ملاحظة مهمة وإشكاليَّة في آن، وهي أن الذين يؤكدون شموليَّة الإسلام لكل مناحي الحياة، وصلاحه لكل مكان وزمان إنما يعنون بالأساس دوره السياسي، ويقصدون إلى القول بالحاكميَّة السياسيَّة للشريعة، وصولاً إلى الادعاء بأن الدولة أصل من أصولها، تفرضه شموليَّة الدين، بينما يذهب المؤلف إلى معنى آخر لشموليَّة الإسلام هو قدرته على إنشاء صورة متكاملة للحياة لا تنغرس أبداً في الأرض مترعة بالدنيويَّة، ولا تنزع دوماً الى السماء تهويماً في المثاليَّة، بل تنهض بمهمة التوفيق بينهما، حيث الشمول هنا يصبح ضرورة وجوديَّة لا غاية سياسيَّة.
بل يدعي المؤلف أن الدولة التي يراها السلفيون دليل شموليَّة الإسلام ليست سوى قيد يحد من قدرته على التكليف، ومن ايجابيته التاريخيَّة. فالإسلام من دون نظريَّة سياسيَّة خاصة به، يبدو متوجهاً نحو العالم الخارجي، حائزاً واقعيته في فهمه للطبيعة، مدركاً لوجود المعاناة الإنسانيَّة، ومؤكداً ضرورة النضال ضدها.
ومن دون تخل عن روحانيته الخاصة، نجده يدعو إلى تغيير العالم، بل يشغل نفسه بهذه المهمة، باعتبارها المحك الحاسم في التاريخ، والوظيفة الأساسيَّة للحضور الإنساني على الأرض… وتلك هي الشموليَّة الحقيقيَّة/ الوجوديَّة التي تجعل منه ديناً كونياً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.