مصادره، أساليبه، ضوابطه
كان الحديث بين المسيحيَّة والإسلام، في بداية الأمر حديثا هادئا إلى حدٍّ ما، ثم أخذ صورة أخرى من الجدال العنيف في عصر الأمويين، حين اصطدم يوحنا الدمشقي في جداله مع المسلمين حول الإسلام والقرآن والنبوَّة وبعض القضايا العقديَّة مثل طبيعة الكلمة. وقد اعتبر يوحنا الدمشقي الإسلام “بدعة” مسيحيَّة. ولذلك بدأ يعدّ العدّة لمواجهتها. ويبين للمسيحيين طريقة مناقشة العقائد الإسلاميَّة. ومعلوم أن يوحنا الدمشقي عمل في الإدارة الماليَّة للأمويين، وقد مُنح الحريَّة الفكريَّة الكاملة لمناقشة المسلمين في عقائدهم وللدفاع عن العقيدة المسيحيَّة، أذكر هذا لنبيِّن أن يوحنا الدمشقي استغلَّ هذا الجو الملائم، فعمد إلى كتابة كتابين يشير فيهما إلى الإسلام على مستوى التاريخ والعقيدة والقرآن والأخلاق والممارسات.
وتجدر الإشارة إلى أن هذين الكتابين هما عبارة عن نصين كتبا في الأصل باليونانيَّة، وقد قام دانييل ساهاس (Daniel Sahas) بترجمتها إلى اللغة الإنجليزيَّة في كتابه الموسوم بـــ(The Heresy of Ishmaelites) ـ ترجمته «هرطقة الإسماعليين».
ولقد سلك يوحنا الدمشقي منهجاً خاصّاً في مقاربته للإسلام. ولبيان سمات هذا المنهج سنعتمد في هذا المضمار على هذين النصين اللذين سبق الإشارة إليهما وذلك قصد الإجابة عن هذا السؤال. إلى أي حدٍّ كان يوحنا الدمشقي موضوعيّا في مقاربته للإسلام؟
أولا :- مصادر الجدل عند يوحنا الدمشقي مع المسلمين
تحتلّ المصادر في دراسة الأديان أهميَّة كبرى، فهي تكشف أولا عن الخلفيَّة التي يعتمد عليها الباحث في دراسة الأديان ومقارنتها، وبتعرّفنا على هذه المصادر نستطيع أن نحكم على مصداقيَّة المجادل، وتمكّنه العلمي في المعرفة بمن يجادله. ولقد تنوَّعت مصادر يوحنا الدمشقي في جدله ضدّ المسلمين. وهذه أهم المصادر التي اعتمد عليها في جدله الديني مع المسلمين:
أ- الكتاب المقدَّس
الكتاب المقدَّس هو المصدر الأساسي الذي استقى منه اليهود والنصارى عقائدهم الإيمانيَّة واعتمدوا عليه في الدفاع عن عقائدهم. ومن المعلوم أن اليهود لا يؤمنون بـ”العهد الجديد”، أما النصارى فيؤمنون بالعهد الجديد مضيفين إليه العهد القديم، وهذا ما يظهر لنا جليا مع يوحنا الدمشقي الذي اعتمد على “العهد القديم”، لما ذكر قصة طرد سارة لهاجر في سياق وصفه للمسلمين بالساريين؛ أي نسبة إلى سارة زوج النبي إبراهيم (عليه السلام) التي طردت هاجر من منزلها لما ولدت إسحاق، فذكر يوحنا الدمشقي أن هاجر قد قالت للملك:«إن سارة قد طردتني فقيرة». واستدلَّ بسفر التكوين لما تحدث على أن الله خلق الإنسان في الأسبوع الأول ثم أمره أن ينجب قائلا: «أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض»([1]). واعتمد على الأناجيل خصوصا إنجيل “لوقا” في سياق الإجابة عن السؤال الذي وجَّهه له المسلم حول كيفيَّة نزول الرب في رحم امرأة فأجاب قائلا: «إنّ كتابي المقدَّس يقول لمريم على لسان الملك: « إن الروح يحل عليك وقوة العليِّ تظلك»([2]).
ب- القرآن الكريم
اعتمد يوحنا الدمشقي أيضا على القرآن الكريم باعتباره مصدراً أساسيا في الدفاع عن العقائد المسيحيَّة و دحض بعض تعاليم الإسلام، و لا نجزم بأن يوحنا الدمشقي كان عارفا بروح القرآن لكن هناك إشارات واضحة تدلّ على أن يوحنا الدمشقي قد قرأ القرآن الكريم بلسانه العربي، كما يظهر لنا ذلك في طريقة استدلاله عندما يقول: دعنا نستدلّ أولا من كتابك المقدَّس يقول عن مريم إن الله اصطفاها وطهرها على نساء العالمين(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾([3])، ويقول إنها أحصنت فرجها فنفخ فيها من روحه ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾([4]) .
ت – الفلسفة اليونانيَّة
اعتمد يوحنا الدمشقي على الفلسفة اليونانيَّة باعتبارها خادمة وموضحة للوحي([5])، ولاسيما فلسفة أرسطو، ومن الواضح أن المنطق الأرسطي كان معلوماً منذ القرن السادس الميلادي بالنسبة للاهوتيي الشرق المسيحي، وبهذا استخدم يوحنا الدمشقي المنطق والمنهج الأرسطي للتعبير عن التعاليم المسيحيَّة، خاصَّة منذ القرن الثامن الميلادي؛ حينما بدأ الأدب اليوناني والأرسطي يتوغل بانتظام في الترجمات العربيَّة([6]). واستفاد يوحنا الدمشقي من الفلسفة اليونانيَّة، في جدله ضدّ هرطقات عصره، وهذا ما نجده في كتاباته عن الإسلام، حيث وظَّف بعض المصطلحات اليونانيَّة منها كلمة «أفرودايت»([7])، كما وظَّف المنطق الأرسطي في تفنيد عقائد الإسلام .
ج- الراويات المتناقلة
اعتمد يوحنا الدمشقي بشكل لافت للانتباه على الروايات المتناقلة في الاستدلال ومن هذه الروايات أن محمد(صلى الله عليه وسلم) تكلم مع راهب أريوس، ودرس عليه التعاليم الهرطوقيَّة التي أثَّرت عليه، فوضع فيما بعد هرطقته الخاصَّة، كما ذكر يوحنا الدمشقي بعض الروايات والغريب أنه ينسبها للمسلمين، في حين لم نجد لها مصدرا عند المسلمين، فهي قصص ونصوص غريبة، مثلا كقوله: في سياق حديثه عن الحجر الأسود (الكعبة المشرفة) عند المسلمين بأن المسلمين يقدِّسون الحجر الأسود «لأن إبراهيم كانت له علاقة بهاجر هناك»([8])، ولما تحدث أيضا عن قصة ناقة الله([9]) ذكر بعض الروايات من الصعب أن نجد لها مرجعا أو مصدراً، في حين تبقى فقط روايات كانت تتناقلها ألسن العامَّة ويشوبها الغلط.
د- أهل دمشق
عاش يوحنا الدمشقي في وسط بني أميَّة، فكان يعرف الصغيرة والكبيرة عن المسلمين من ممارسات وأخلاق، فكان حريصا على توخِّي الدَّقة في وصفه ممارسات المسلمين التي عايشها عن كثب([10])، وكان يعرف القرآن، واللغة العربيَّة، ويتواصل مع المسلمين. كل هذه الأمور ساعدته في جدله للمسلمين بحيث كان يتكلَّم عن دراية وعلم بما رأى من أخلاق وممارسات سلوكيَّة.
ثانيا: أسلوب يوحنا الدمشقي في الجدل مع المسلمين
إذا كان الأسلوب يعبِّر عن شخصيَّة صاحبه، فقد جاء أسلوب يوحنا الدمشقي في كتاباته عن الإسلام معبّراً عن نفسه وموقفه من هذا الدين الجديد، ومن أهم سمات أسلوب يوحنا الدمشقي في جدله الديني مع المسلمين ما يلي:
أ- الانتقاء
اتَّسم أسلوب يوحنا الدمشقي الجدلي بالانتقاء والاختيار الدقيق للمصطلحات والإحالة إلى المصادر الإسلاميَّة. فهو يشير في كتاباته على سبيل المثال إلى أربع سور قرآنيَّة ويسميها بنفسها([11]). كما نجد هناك أيضا العديد من التعبيرات التي يمكن ردَّها إلى القرآن الكريم نفسه، كقوله: «أنتم تقولون في كتابكم أن المسيح كلمة الله وروحه»،([12]) ومسألة طلاق زيد بزوجته، وقصَّة ناقة صالح، ومسألة تعدُّد الزوجات.
ب- التكرار
كثيراً ما كان يوحنا الدمشقي يتناول موضوعاً واحداً في فقرات مختلفة، وهذا الأسلوب له ما يسوغه عند يوحنا الدمشقي وهو الكشف عن التناقضات في الإسلام وقرآنه لمحاولة دحضه وتزييفه فمثلا مسألة القرآن الكريم كرَّرت عند يوحنا الدمشقي عدَّة مرّات في فقرات مختلفة لبيان تناقضاته ومن ثم السخرية منه، وكذلك مسألة طبيعة الكلمة ــــــــ المسيح عليه السلام – فقد تكرَّرت كثيرا في جدال يوحنا الدمشقي مع المسلمين.
ت- السخرية
تظهر هذه السمة جليَّة في كلام يوحنا الدمشقي عن الإسلام حتى وصل به الحدّ إلى الاستهزاء والسبّ أحيانا.
ومن الأمثلة الدالة على سخرية أسلوب يوحنا الدمشقي في جدله مع المسلمين ما يأتي:
حين وصف المسلمين بــ«الإسماعليين» و«الهاجريين» و«الساريّين»([13])، ويسخر من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لما قال عنه إنه نبي مزيف واصفا إياه بكلمة «ممت» Mometh))، وقال عنه إنه تعرف بالصدفة على العهد القديم والجديد، وتعلَّم على يد الراهب أريوس([14])، ويصل به الأمر من الاستهزاء إلى القول: «وبعد أن تسلَّل للنوايا الطِّيبة للناس، بإظهاره تقوى مزعومة، قام بادِّعاء أنَّ كتابا معينا أُرسل إليه من السماء وحيا من الله. وفي إنشائه لبعض المعتقدات المثيرة للضحك في كتابه، والتي لا تستحقّ سوى السخرية»([15]).
وتزداد حدَّة السخرية في قوله «وهناك أشياء أخرى كثيرة سخيفة وغير طبيعيَّة قد أخبر بها في كتابه الذي يتبجَّح أنه قد نزل عليه من الله»([16]).
وفي قوله «ولكي نسخر منهم نقول: بما أنَّه استلم الكتاب في أثناء نومه دونما إدراك لهذا النشاط، فالمثل الشعبي من ثم ينطبق عليه تماما الذي يقول «أنت تقصّ عليّ الاحلام»([17]).
ج- الحوار والتساؤل
وظَّف يوحنا الدمشقي في جدله مع المسلمين الأسلوب الحواري، من خلال المناقشة بين مسيحي ومسلم، عن طريق طرح الأسئلة على المسلمين بغية معرفة الإجابة وتفنيدها بعد ذلك، ويتمثَّل ذلك من خلال قوله: «الله الذي أعطى الشريعة لموسى أمام عيون كل الشعب على جبل مدخّن، لمَ لم يرسل إلى نبيكم أيضا ــ وفي حضوركم الكتاب الذي تتحدّثون عنه بغية توطيد يقينكم؟ ويجيبون بأن الله يفعل ما يشاء، فنقول إن هذا نعرفه نحن أيضا، لكننا نسأل كيف أوحي بالكتاب لنبيكم؟».([18]) وقد خصَّص يوحنا الدمشقي كتاب المناظرات للمناقشة والحوار من خلال مجادلة بين شخصين أحدهما مسيحي والآخر مسلم. اتَّخذ هذا الكتاب بأكمله شكل حوار وتساؤل بين طرفين([19]).
د- الاستدلال
وظَّف يوحنا الدمشقي الأسلوب الاستدلالي في أثناء دحضه للإسلام وتفنيد تعاليمه، والاستدلال عند يوحنا الدمشقي كان على الشكل الآتي:
الاستدلال من الكتاب المقدَّس وهو المصدر الأساسي للمسيحيين يستقون منه عقائدهم وطقوسهم وتعبيراتهم الدينيَّة، والاستدلال منه جاء في سياق الإجابة عن أسئلة المسلمين الموجّهة للمسيحيين.
الاستدلال من القرآن الكريم: استدلّ يوحنا الدمشقي بالقرآن الكريم وذكر على سبيل المثال: أربع سور قرآنيَّة بأسمائها، وقد كان غرضه بالاستدلال من القرآن هو تشويه الإسلام والافتئات على أصحابه في غالب الأحيان.
الاستدلال بالروايات المتناقلة، اعتمد يوحنا الدمشقي على الروايات المتناقلة وغالبيتها يشوبها الغلط، والغريب أن بعضها ينسبها للمسلمين ومن الصعب الوصول إلى مصادرها في التراث الإسلامي.
ثالثا: – ضوابط الجدل عند يوحنا الدمشقي
معلوم أنَّ للمناظرة والجدال قواعد وضوابط يجب الالتزام بها قدر المستطاع حتى يكون الحوار مثمراً، والإخلال بها يؤدِّي لا محالة إلى عدم استمرار الحوار المثمر الجدِّي بين المتناظرين. والسؤال الذي يطرح هو هل التزم يوحنا الدمشقي بهذه الضوابط في جداله مع المسلمين؟
أ- وجود طرفين مختلفين في الجدل
لابد إذن من وجود طرفين مختلفين في الجدل؛ إذ لا يتصوَّر الاختلاف من قبل شخص واحد، فلابد من وجود طرفين تتباين وجهات نظرهما تجاه موضوع الجدل؛ لأنه لا يتأتى الاختلاف بين شخصين في قضيَّة تتطابق فيها وجهتا نظرهما. بل لابد أن تكون نظرة كل واحد في بداية الأمر تخالف نظرة صاحبه. قد يفضي الحوار في نهايته إلى الاتّفاق أو يبقى الاختلاف قائماً.
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول إنَّ هذا الأمر كان غائبا في جدل يوحنا الدمشقي ضدّ الإسلام، ففي الكتاب الأول المسمَّى De Hearesibus)) “بدعة” نجد الجدل من طرف شخص واحد هو يوحنا الدمشقي يوجِّه النقد للإسلام والقرآن الكريم والنبي (صلى الله عليه وسلم)، في غياب تامّ للطرف الثاني الذي هو المسلم، ويكتفي يوحنا الدمشقي فقط بذكر طرف من جواب الخصم ويظهر ذلك في قوله مثلا: وعندما نقول لهم: “لمَ لم يأتي نبيكم هكذا، مع آخرين يشهدون له؟ والله الذي أعطى الشريعة لموسى أمام عيون كل الشعب على جبل مدخّن، لمَ لم يرسل إلى نبيكم أيضا ــ وفي حضوركم الكتاب الذي تتحدَّثون عنه بغية توطيد يقينكم”؟ ويجيبون بأن الله يفعل ما يشاء، فنقول إن هذا نعرفه نحن أيضا، لكننا نسأل كيف أوحي بالكتاب لنبيكم ؟ فيجيبون أنَّ الكتاب نزل عليه في أثناء نومه”([20]).
ب- موضوع الجدل
يعتبر موضوع الجدل هو جوهر العمليَّة برمتها، وإذا ما جرى الاتِّفاق على ذلك. كان الجدل مقيّداً وواضحا للأطراف المشاركة فيه. وكيف ما كان هذا الموضوع، فإنَّ تحديده عامل أساسي من عوامل نجاح المجادلة والمناظرة مع الآخر. ومن الواضح أن يوحنا الدمشقي لم ينضبط بهذا الضابط في بناء خلافه مع المسلمين. فقد ناقش هذا الرجل المسلمين في عدَّة موضوعات مركّزاً على أهم المفاهيم في معالجته الإسلام ومن الموضوعات التي ناقشها يوحنا الدمشقي؛ الإسلام والقرآن الكريم والنبوَّة وبعض ممارسات وسلوكات المسلمين. وفي الكتاب الثاني ناقش عدة قضايا عقديَّة كلاميَّة ومجملها دارت حول ثلاث قضايا هي: قضيَّة حريَّة الاحتيار وقدرة الإنسان، وقضيَّة طبيعة القرآن الكريم، وقضيَّة طبيعة الكلمة ــــــ المسيح عليه السلام -. ومن المهمّ أنّ يوحنا الدمشقي كان قصده هو البحث عن التناقضات في العقيدة الإسلاميَّة والقرآن الكريم، بقدر ما كان قصده الجدل المثمر والبنّاء.
ت- وحدة قانون الاستدلال
لا يمكن أن نتصوَّر نقاشا جدليا جداً، في غياب مرجعيَّة مشتركة، يتحاكم إليها أثناء الاستدلال، نفيا أو إثباتا. وهذا ينطبق تماما على جدل يوحنا الدمشقي مع المسلمين أولا: غياب مرجعيَّة مشتركة؛ مسيحي ذي مرجعيَّة أرثوذوكسيَّة، والآخر ذو مرجعيَّة إسلاميَّة، كما نجد أن يوحنا الدمشقي اعتبر من الوهلة الأولى أن القرآن الكريم هو نتاج للكتاب المقدَّس لا يستحق سوى السخرية، وعقيدته عقيدة مضطربة. وهذا كله ينتفي مع هذا الضابط الأساسي في الجدل وهو وجود مرجعيَّة مشتركة، أو وحدة قانون الاستدلال.
ج- الأمانة العلميَّة
تعتبر الأمانة العلميَّة من ضوابط تأمين الحوار والنقاش بين المتجادلين: كما أنها ضابط من الضوابط التي تسعى إلى بناء الأجواء التربويَّة والعلميَّة التي تضمن السير الهادف للحوار بين الطرفين المختلفين. فمبدأ الالتزام بالأمانة العلميَّة مبدأ أخلاقي بالدرجة الأولى، وواجب مقدس عند جميع عقلاء الدنيا.
وعموما فإن الرجل لم ينضبط بهذا المبدأ في نقاشه مع المسلمين فكان أحيانا يعمد إلى ذكر بعض القصص والحكايات وينسبها للمسلمين، ليس من السهولة الوصول إلى مضانها. وفي هذا الصدد يقول نصر حامد أبو زيد في أثناء حديثه عن رد يوحنا الدمشقي على المسلمين في مسألة تقديس الحجر الأسود. فيرد عليهم بأنهم يقدّسون حجرا ـــ الحجر الأسود ــ على أساس أنه الحجر الذي ربط فيه إبراهيم حماره حين ذهب لذبح ولده، وعلَّق نصر حامد أبو زيد قائلا: «ومن الصعب أن نعرف مصدر هذا التعليل لأهميَّة الحجر الأسود»([21]). وفي نهاية كتابه أورد يوحنا الدمشقي تفاصيل حكاية “ناقة صالح” وينسبها للمسلمين ومن الصعب أيضا الوصول إلى مصادرها. كما وظَّف بعض المصطلحات الغريبة مثل كلمة “أفرودايت”([22]) وكلمة “خبار”([23])، ولم يحِل إلى المصدر الذي أخذها منه.
د- علاقته بالمخالف
من المهم أن العلاقة بين المتجادلين ينبغي أن تنبني على قاعدة الاحترام لا السخرية؛ لأنَّه من الطبيعي إذا قامت العلاقة على مبدأ الاحترام ستقود إلى قبول الحقّ، والبعد عن الهوى أما الإخلال بعلاقة الاحترام ولو من جانب واحد. فإنّه يفقد الحوار شرط استمراره وإذا نظرنا إلى علاقة يوحنا الدمشقي بالمسلمين نجدها علاقة قائمة على السخرية والاستهزاء منذ البداية، ويتمثّل ذلك في سخريته من الإسلام ونبيه لما اعتبر أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) نبي زائف وأن الكتاب الذي جاء به لا يستحقّ سوى السخرية. كما سخر من المسلمين لأنهم في نظره لم يعطوا للنساء حقوقهن الكاملة وكل هذه المواصفات وغيرها تبيّن في مجملها أن علاقة يوحنا الدمشقي بالمخالف علاقة قامت على السخرية والاستهزاء مخلا بذلك مبدأ الاحترام والإنصاف.
هـ- التزام حسن الاستدلال
من الواضح أنّ الهدف الرئيسي من المناقشة بين الطرفين هو الوصول إلى الحقيقة ولا سبيل إلى ذلك إلا في ملازمة حسن الاستدلال. ومعلوم أن يوحنا الدمشقي كان عارفا بالإسلام لكن لم يصل به الأمر إلى فهم حقيقته وجوهره، وفي هذا السياق يقول جورج مطران: «وقناعتي أن يوحنا الدمشقي ألمّ بالعربيَّة إذ نعلم أنه كان نديما للخليفة يزيد فاللغة المشتركة بينهما كانت بالضرورة عربيَّة ولكن ظني أنه لم يكن يملك النص إلى درجة فهمه السليم للقرآن الكريم إذ أخطأ في موضع أو في غير موضع في فهمه المصادر الإسلاميَّة في كتابه الصغير: “جدل بين مسيحي مسلم”»([24]). وبناء على هذا نقول إن يوحنا الدمشقي لم يلتزم حسن الاستدلال؛ لأن الهدف الذي كان يصبو إليه هو بيان أن الكلمة ــ المسيح ــ كلمة غير مخلوقة ومن ثم فهي أزليَّة ليثبت في النهاية ألوهيَّة المسيح. ومن المهم أن طبيعة الكلمة-المسيح (عليه السلام) كانت هي مركز الجدل عند يوحنا الدمشقي.
إلى جانب هذا فقد تميزت كتابات يوحنا الدمشقي عن الإسلام في هذه النصوص بفقدان وحدة النص بحيث كل فقرة تتحدث عن موضوعات عدة. إضافة إلى التكرار، تناول أحيانا موضوعا واحدا ًفي فقرات مختلفة، وبأسلوب انتقائي في ظل غياب تام لاحترام الترتيب الزمني.
ومن هذا المنطلق يمكن القول أنَّ يوحنا الدمشقي سلك منهجا متعسّفا في حقِّ الإسلام، ولذلك لم يدخل في نهجه، وهو يعالج الإسلام، مسائل جدليَّة حول ما إذا كان مجيء محمد (صلى الله عليه وسلم) قد ورد في نبوءات أنبياء تقدّموا عليه، أو ما إذا كان قد أتى بمعجزات تفوق مثيلاتها لدى عيسى وموسى عدداً وأهميَّة، أو ما إذا كان الأسلوب البلاغي في القرآن الكريم دليلاً على نبوة الرسول([25]).
كما يمكن القول أيضاً، إنَّ يوحنا الدمشقي رفض التعرّف الموضوعي على الإسلام، وأن المسيحيَّة الأرثوذكسيَّة كما يقول دانييل ساهاس هي التي استقطبت وحدها جلّ اهتمام يوحنا الدمشقي([26])، فهو يدرس الإسلام أولا لا ليفهمه، ولكن للتعرّف على ثغراته من أجل تفنيدها ومحاربتها، و لتفضيل الأرثوذكسيَّة عليه ثانيا، وهو تحيّز (غير علمي)، ويكفي لبيان عنصريته الأرثوذكسيَّة أن يوحنا الدمشقي يعدّ الإسلام من جهة، وحركة تحطيم الصور والمعتقدات الشعبيَّة من جهة ثانية، بدعتين معاصرتين([27]).
([1]) سفر التكوين، الإصحاح 1، الآيَّة 28.
([3]) سورة آل عمران، الآيَّة 42.
([4]) سورة التحريم: الآيَّة 12.
([5]) كيرلس سليم بتسترس، والأب حنا الفاخوري، و الأب جوزيف العبسي البولسي، تاريخ الفكر المسيحي عند أباء الكنيسة، ص 686.
([6]) أنجيليكي غريغوري زياكا، الإسلام في كتابات العصر البيزنطي بين الحوار والمجادلة، مجلة التسامح، ص 24.
([7]) كلمة يونانيَّة تعني: آلهة الحب والجمال
([9]) يقول يوحنا الدمشقي: «توجد أيضا السورة التي تتحدّث عن ناقة الله. فبشأنها يقول إن ناقة أرسلها الله وإنها شربت النهر كله فلم تستطيع من ثم العبور في ما بين جبلَين لانعدام المسافة الكافيَّة لذلك. وكان ثمة قوم في ذاك الموقع كما يقول: وفي أحد الأيام شرب هو من الماء ثم تبعته الناقة. وعندما شربت الماء صارت تغذيهم باللبن بدلا من الماء أما هؤلاء الرجال فكانوا خبثاء في رأيه إذ قاموا وقتلوا الناقة. و الحال أن كان لديها ناقة صغيرة صرخت إلى الله بعد موت والدتها بحسب زعمه والله أخذها إلى جواره». (ينظر: .(Daniel, sahas, john of Damascus,139 p
([10]) دانييل ساهاس: الشخصيَّة العربيَّة في الجدل المسيحي مع الإسلام، ص 122.
([11]) Daniel, sahas, john of Damascus, pp 137/139.
([13]) Daniel, sahas, john of Damascus, p133.
([16]) Daniel, sahas, john of Damascus, p 135.
([20]) Daniel, sahas, john of Damascus, p 135.
([21]) نصر حامد أبو زيد، قراءة القرآن من منظور لاهوتي مسيحي، وأثره في انبثاق اللاهوت الإسلامي، ص
([22]) Daniel, sahas, john of Damascus, P 133.
([24]) محاضرة للمطران جاورجيوس، دمشق، 20حزيران 2008.
([25]) دانييل ساهاس، الشخصيَّة العربيَّة في الجدل المسيحي مع الإسلام، ص 124.